إن أول مشكلة تواجه الباحث في قضايا التطرف، إنما تتعلق بتحديد المصطلح، فإذا كان التطرف لغة يعني إمساك الشيء من طرفه، أو إتيان الشيء من طرفه، فإن تعريف التطرف اصطلاحاً يصبح أكثر تعقيداً... ففي العلوم الاجتماعية، ليس ثمة اتفاق على تحديد "نقطة الوسط" أو "المنتصف"، حتى يصبح الاتفاق على معنى "التطرف" أمراً ممكناً، فهي نقطة متغيرة في المكان، فما هو متطرف في مجتمع، لا يبدو كذلك في مجتمع آخر، وهي نقطة متغيرة في الزمان، فما يبدو تطرفاً اليوم، قد لا يصبح كذلك في المستقبل.
والتطرف كظاهرة اجتماعية مركبة، يُنظر إليها كـ "خروج عن النسق العام" و"منظومة القيم والمبادئ والأفكار الشائعة والرائجة والمتوافق عليها بين الناس"... وفي أزمتنا الراهنة، فإن منظمة القيم والمبادئ، لم تعد محلية خالصة، نابعة من مورث الأمة والمجتمع فحسب، بل باتت لها مرجعيات أممية، تواضعت البشرية حولها، وسطرتها في جملة من المواثيق والمعاهدات الدولية؟... فليس بالضرورة أن تكون مؤيداً لداعش حتى توسم بالتطرف، يكفي أن تنسب لنفسك ولمرجعيتك الاعتقادية، الحقيقة المطلقة والأخلاق الحميدة، وتحجبهما عن الآخرين، حتى تصبح متطرفاً... يكفي أن تنتقص من إنسانية "الآخر" أو تستكثر عليه حقوقه الأساسية، لا لشيء إلا لأنه يختلف معك في الجنس أو العقيدة أو المذهب أو الدين أو القومية أو اللسان، حتى تصبح متطرفاً.
والتطرف عادة، يأتي متبوعاً بما يوضحه، كأن يقال تطرفاً وغلوا، والغلو هنا هو التجاوز الأبعد لحدي الإفراط أو التفريط... وأحياناً يُتبع التطرف (أو تترتب عليه) انحرافات سلوكية، عندها ينتقل المتطرف من فضاء الفكرة والاعتقاد إلى حضيض الممارسة اللاقانونية واللاأخلاقية، وتتدرج هذه الانحرافات من حيث شدتها وخطورتها الجرمية، تبدأ بالتحقير وتمر بالتعرض والمضايقات وتصل ذروتها بالإرهاب بشتى صوره.
ويقال أيضاَ، التطرف والإرهاب، ويردا كمتلازمتين، وهنا غالباً ما يذهب الحديث صوب التطرف الديني، مع أن الحاجة تقتضي التمييز بدقة بين الأمرين، فليس كل متطرف إرهابي، مع أن كل إرهابي هو متطرف بالتعريف... والتطرف في حالة الإرهاب، هو انتقال من دائرة الاعتقاد إلى دائرة السلوك الإجرامي... مثل هذا التمييز ضروري عند رسم السياسات والاستراتيجيات الكفيلة بمحاربة التطرف واجتثاث الإرهاب... فالتطرف طالما ظل في دائرة الفكر والمعتقد، يعالج بوسائل فكرية وثقافية وتربوية، والفكر لا يُدحض إلا بالفكر، والمعركة مع التطرف هي ذاتها المعركة على عقول وقلوب الكافة من الناس، وهنا تشتد الحاجة لتفعيل جبهات الثقافة والفنون والإعلام وفضاءات التواصل الاجتماعي لمواجهة ظاهرة التطرف.
أما حين ينتقل التطرف من ميدان الاعتقاد إلى ميدان السلوك المنحرف، فلا بديل عن المعالجات الأمنية، لفرض سيادة القانون وحفظ حقوق المواطنين والمكونات المختلفة، وتكريس هيبة الدولة وسلطانها... واحسب أن جلالة الملك، كان شديد الوضوح في حديثه عن أنماط المعالجات المختلفة لظاهرة التطرف والإرهاب... فثمة حلول أمنية وأخرى عسكرية، لحفظ أمن الأوطان والمواطنين وسلامتهم، وثمة معالجات فكرية وإيديولوجية، تبدأ بالبيت والمدرسة ولا تنتهي بالجامعات والمعاهد وفضاءات الإعلام والثقافة والفنون والمنظومة التشريعية والمؤسسية للدولة بمختلف مؤسساتها.
والتطرف كظاهرة، لا يمكن رده لسبب واحد، كأن يقال الفقر والبطالة، أو الاستبداد وانعدام العدالة الاجتماعية... التطرف ظاهرة اجتماعية تتظافر في تشكيلها جملة عوامل ثقافية ودينية واجتماعية واقتصادية بالضرورة... فالفقر والبطالة لا يولدان التطرف إلا إذا التقيا بثقافة التكفير وتحقير الاحتقار... فسلطنة عمان على سبيل المثال، تأتي في آخر قائمة الدولة الخليجية من حيث معدلات دخل الفرد، بيد أنها أقلها إسهاماً في تصدير المتطرفين والإرهابيين، وثمة دول تفوقت على عمان في الدخل والثروة، تقدمت عليها كذلك، في قائمة الدول المصدرة للإرهاب.
وتونس التي نحتفي بها بوصفها التجربة الأنجح في الانتقال السلمي التوافقي للديمقراطية، تحتل الموقع الثاني في قائمة الدول المصدرة للإرهاب، بعد السعودية، ومن دون أن يعني ذلك بالضرورة، الوصول إلى نتيجة مفادها أن لا حاجة للإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، نقول إن المؤشرات العامة التي توصلت إليها معظم الدراسات الخاصة بالتطرف والإرهاب، تشدد على العلاقة الجدلية بين نجاح دولة المواطنة، دولة جميع أبنائها في إقامة علاقات سليمة مع مجتمعها ومواطنيها من جهة، وتنامي أو تآكل جيوب التطرف والإرهاب من جهة ثانية.
كما أثبتت الدراسات ذات الصلة، أن انعدام العدالة في توزيع الدخل والثروة، وتفشي مظاهر الفساد والإفساد، واتساع جيوب الفقر والبطالة، وتفاقم الإحساس بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي، هي وصفات جاهزة لشيوع التطرف وتنامي خطر الإرهاب... لذلك فإن أية مقاربة لهذا الظاهرة، من زاوية واحدة، هي مقاربة ضيقة، ولا تفضي إلى اجتراح الحلول والمعالجات المطلوبة.
إن أخطر منابع التطرف تكمن في مؤسسات التربية والتعليم، حين تخفق المناهج والأساليب التربوية في إنشاء أجيال شابة، مشبعة بثقافة الحوار والتسامح والاعتراف بالآخر واحترامه، وحين تعجز العملية التربوية، عن تشكيل جيل من الشباب المسلحين بالتفكير النقدي، سيما إذا تزامن ذلك مع تآكل في أدوار مؤسسات الوعظ والإرشاد وانكفاء دور علماء الدين المتنورين، وشيوع الخطابات المتشددة والأفكار الغيبية القائمة على الخرافات والأساطير، وحين تتحول المدارس والمنابر، إلى ساحات للعنف المجتمعي أو ميادين لنشر ثقافة الكراهية وإلغاء الآخر.
وأخيراً، التطرف ليس بضاعة أردنية، ليصار إلى معالجته أردنيا فحسب، لكن الأردن لم ينج من سطوته وطوفانه اللذان اجتاحا المنطقة برمتها، وكلما تقدمنا على طريق تحصين المجتمع الأردني في وجه رياح الغلو والتشدد، كلما تعززت مناعتنا في مواجهة هذه الآفة، فهل نحن فاعلون؟
اضف تعليق