مدينتان ذات غالبية شيعية، فقط لأنهما كذلك فإن العصابات التكفيرية التي تقاتل في سوريا، لم تدخر جهداً لإطباق حصار ظالم ووحشي ومروع، والحكاية بدأت منذ أكثر من سنتين، قبل سقوط كامل محافظة إدلب بيد تكفيريي جبهة النصرة، أربع سنوات تدَرَّج خلالها الحصار في مراحل المعاناة على سكان البلدتين القابعتين في الزاوية الشمالية الشرقية للمدينة، على مقربة من الحدود السورية التركية، حيث تشكل تلك المنطقة جزيرة صمود وسط بحر هائج من التكفيريين، تكفيريين أتو وجلبوا معه الخراب والموت.
في الفترة الأخيرة، ومع وصول الحصار إلى أقصى مراحله، منذ حوالي عام ونصف العام مرا على الأهالي المتبقين هناك، دخلت البلدتان حالة أشبه ما تكون ببداية الانقراض أو الإبادة الجماعية البطيئة، تمارسها مجموعات مسلحة مختلفة الجنسيات ينتمون إلى جبهة النصرة الإرهابية، فلا إمكانية متوفرة للحصول على الطعام أو الماء الصالح للشرب أو أيّ من مقومات الحياة الأساسية الأخرى، فالدواء أصبح حلما يراود محتاجيه كما حال الخبز تماماً، ولو أراد الأهالي أن يشربوا الماء لوجدوا إكراها في ابتلاع ما يتوفر في هذا الماء من عوالق، وأمراض. لم تتوقف معاناة التجويع عند هذا الحد، تكفيريو جبهة النصرة عمدوا إلى قنص المواشي كي لا يستفيد منها أهالي البلدتان.
يقول أهل المدينتين المنكوبتين، أن محاولات الطائرات إلقاء الأغذية للمحاصرين باتت شبه مستحيلة لأن المسلحين التكفيريين القائمين على تشديد الخناق على مدينتي كفريا والفوعة، يستهدفون المظلات التي تحمل بحبالها ما تلقيه الطائرات فلا تسقط في أراضي البلدتين، إنما يستولي عليه المسلحون وهذه جريمة بحد ذاتها.
كما أن التواصل شبه معدوم بسبب ضعف شبكات الاتصال، حيث قام التكفيريون باستهداف أبراج الهاتف ، وإن حاول السكان الخروج إلى مكان مرتفع من أجل الحصول على اتصال ولو كان رديئاً، فإنهم يتعرضون للقنص مباشرة.
كتبت الصحفية ريما ناعسة في صحيفة السفير، قبل يومين، أنه منذ 28 آذار 2015، وبالتزامن مع انتصارات الجيش السوري السريعة التي حقّقها في مدينة حلب، ارتفعت وتيرة الموت في البلدتين اللتين تتعرّضان لقصفٍ يومي عنيف، تخلّلته هدنة يتيمة لم يلتزم بها مسلّحو ما يسمى بـ«جيش الفتح» سوى لأربع ساعات في اليوم السابع من الشهر الحالي. لا يُمكن إحصاء عدد الصواريخ التي أُطلقت على البلدتين في الأيام السابقة، إلا أن مصدراً عسكرياً من داخل الفوعة قدّرها بأكثر من 800 صاروخ، معظمها من نوع «غراد» والفيل» و«كاتيوشا»، مصدرها مرابض راجمات ومدافع موجودة في مزارع مُحيطة بالبلدتين أدت إلى استشهاد أكثر من عشرين شخصا أغلبهم من الأطفال والنساء، بعضهم تمّ انتشال جثمانه من تحت الأنقاض بصعوبة لعدم توفر المعدات اللازمة.
تضيف ناعسة: الحدث المؤلم، بالنسبة لأهالي البلدتين، والذي تسبّب به القصف هذه المرة هو «خروج المستشفى الوحيد في الفوعة عن الخدمة بشكل نهائي»، يقول المصدر. ويتابع خلال حديثه لـ«السفير»: «تهدّم المبنى وتعطّلت التجهيزات الطبية». تعطل المستشفى الوحيد عن الخدمة. كان يُداوي أكثر من عشرين ألف شخص يعيشون وطأة الحصار، ما زاد من قتامة الصورة وسوداويتها في البلدتين المنكوبتين، خاصّة مع استمرار القصف العشوائي وانتشار الأمراض بسبب نقص التغذية. وبعد تعطّل المستشفى لم يبق أمام طاقمه المتبقي إلا إنشاء غرفة عمليات صغيرة كانت عبارة عن مستودعٍ لا تتعدّى مساحته 40 متراً (طولاً) و30 متراً (عرضاً). ويشتمل الفريق الطبي على جراحين إثنين فقط وما يقارب الممرضين العشرة الذين يعملون بإمكانيات متواضعة قد تنجح بتضميد جراح المصابين ما أمكن.
وجاء في مقال ناعسة: احتمال الموت يتسع مع وجود قنّاصين يُحيطون بالبلدتين، لا يكاد يهدأ لهم بال أو تغمض لهم عين حتى يُصيبون ضحاياهم ويردونهم قتلى. فالقناصون يتمركزون داخل رافعات الكهرباء ما يجعل البلدتين مكشوفتين تماماً أمام أعينهم. أبو علي، أحد سكان الفوعة، قُنص طفله البالغ من العمر ست سنوات أثناء تواجده على شرفة البيت، فيما أصيب ابنه الآخر برصاصة القناص نفسه، وهو بين الحيّاة والموت الآن. ينتظر أبو علي معجزة إلهية تشفي ابنه وتنهي مأساتهم في ظلّ عدم توفر مستشفى مُجهّز بالمعدات اللازمة لإجراء عمل جراحي مستعجل له. بصوت متوتر مصحوب بقلق وخوف، تحدّث إلى «السفير» قائلاً: «من سنتين ونحن عم نناشد المجتمع الدولي والمُنظّمات الإنسانية بس عبث كأنه عم تحكي مع حيط، لك حتى الحيط بيبكي ع حالنا». ويتابع بالنبرة ذاتها: «ما في مهرب من القنّاص قادر يوصلك حتى وأنت بالحمام»، عند تلك الكلمات انقطع الخط مع الوالد المفجوع نتيجة ضعف التغطية لدى شبكة الاتصالات.
يوسف زكريا الحسن من داخل بلدة الفوعة تحدث لـ«السفير»، قائلاً: «يومياً هناك ما يقارب الـ100 حالة تأتي إلى المستشفى الصغير الذي يكاد لا يتسع لشيء، جميعهم يعانون من التهاب الكبد وسوء التغذية»، وأكّد الحسن، في حديثه، أنه منذ أيام دخلت مساعدات طبية إلى البلدتين إلا أن «جيش الفتح» اعترضها وسرق حوالي 60 في المئة من الشحنة، مؤكداً أن حالات الوفاة نتيجة نقص الأدوية تتزايد أسبوعياً.
وتضيف ناعسة: على الرغم من المُساعدات الإنسانية التي تصل البلدتين إلا أنها تأتي في غالبها خجولةٌ جداً لا تكفي سوى لبضع مئات من المدنيين وتكاد تفتقر إلى المقوّمات الأساسية مثل الحليب والطحين، وهي محكومة بمزاج «جيش الفتح» الذي قد يسمح بمرورها أو لا، وأحياناً يقوم بتفريغ بعض الصناديق التي تحوي مواد غذائية هامة، وهذا ما حصل في آخر مرة دخلت فيها المساعدات إلى بلدة الفوعة. تجويع ممنهج يتمّ فرضه على الأهالي في الداخل.
يتصدّر الخبز قائمة النقص، إذ تحوّل منذ بداية الحصار إلى حلم يتحقّق بين فترة وأخرى، حيث يحظى كل شخص برغيف ونصف كل ثلاثة أسابيع. يقول الحسن: «صار الخبز متل البسكوتة لما بشوفوه الأطفال يبتسموا. الحاجة أمّ الاختراع. صرنا نخترع أكلات متل عدس كباب» متمتماً: «الحمدلله». شتاء البلدتين قاسٍ كما صيفها. ومع انعدام وسائل التدفئة بشكل تام، يُبدي الأهالي تخوفاً كبيراً مع قدوم فصل الشتاء. يوسف زكريا تحدّث في هذا السياق، وأكد أن تأمين وسائل التدفئة أشبه بالعملية المستحيلة، وحتى الحطب الذي اعتمدوه كوسيلة تدفئة في العام الماضي لم يعد متاحاً. وقال: «تأمين الحطب بات عملية انتحارية مع وجود القنّاص بشكل دائم واستمرار القصف». ومع اشتداد البرد ما كان أمام الأهالي إلا اختراع وسائل خاصة بهم، فلجأوا إلى حرق الملابس والبلاستيك، وراحت أيادي النساء المُنهكة تحيك من بطانيات المعونات معاطف وملابس قد تقيهم شر البرد.
وعن قصص الموت وفصوله. وما حدث خلال وقت الحصار الطويل، تقول الصحفية ريما: لا يُمكن لعدسة السينما أن تصوّره. أبو فراس، فقد عائلة أخيه بالكامل جراء قصف شنّه «جيش الفتح» في تشرين الثاني الماضي. تحدّث والغصّة تكاد لا تفارق صوته عن ذلك اليوم المأساوي: «لم نستطع إنقاذهم من تحت الأنقاض نتيجة استمرار القصف... ضاعت أشلاؤهم كلها». وبينما يتذكّر أبو فراس عائلة أخيه ببالغ الألم، يُحاول الطفل رامي أن يتأقلم مع حياته الجديدة بعدما فقد جميع أفراد عائلته وحتى منزله. أكثر من 80 في المئة من المنازل فقدت صلاحيتها كنتيجة طبيعية للقصف. مئات العائلات باتت تعيش في ملاجئ وأبنية غير صالحة للسكن، ولا تمتلك أدنى مقومات الحيّاة، فضلاً عن كونها غير آمنة ولا تقيهم خطر القذائف والقنّاصات.
وتختم الكاتبة ريما ناعسة مقالها: مع كل هذا الدمار والموت بقيت في الفوعة وكفريا مدرستان تقسّمان دوامهما إلى أربعة مجموعات من فئات عمرية مختلفة. نصيب كل مجموعة هو ساعتان من العلم الذي بقي الخيار الوحيد أمامهم لفتح نافذة أمل على المستقبل. وتبقى قلوب الأهالي على نار إلى حين عودة الأطفال إلى المأوى بانتظار أن تسمع المنظمات الإنسانية أصواتهم التي لا تهدأ.
اضف تعليق