البشرية نشأت وتطورت عبر عدة مراحل وعصور متلاحقة، ولكن أسوأ تلك العصور والمراحل، هي المرحلة الاستعمارية، حتى مرحلة عيش الإنسان مع وحوش البراري والغاب، لم تكن أكثر ضررا بالإنسان من مرحلة الاستعمار، فعندما كان البشر يصارع الحيوان المفترس على لقمة تسد رمقه، كان هذا الصراع يستند الى الطبيعة، وفيه معايير تقوم على العدل، فالطبيعة منحت الإنسان والحيوان صفات تحقق العدالة في هذا الصراع.
أما في الصراع بين الشعوب المغلوبة على أمرها وبين الاستعمار، فإن مقاييس العدل كانت غائبة تماما، وكانت قوى الاستعمار تعبث بحياة الشعوب التي استعمرتها كما تشاء، فمن حالة الاستعباد والعمل بالسخرة بلا اجر مقابل، والمتاجرة بالإنسان في موجات الرق المتلاحقة، وتقسيم البشرية الى طبقتين، سيد وعبد، ونشر الظلم في ربوع المعمورة كلها، الى غير ذلك من حالات الظلم التي رافقت حقبة الاستعمار ولا تزال تبعاتها ونتائجها تنعكس على حياة الشعوب حتى هذه اللحظة.
إننا حينما نتحدث عن حقبة الاستعمار، تدهمنا مشاعر الغضب، والشعور بالأسى، ونعيش موجات الظلم علينا وكأنها تحدث الآن، ثم نسأل بألم، لماذا استغلتنا القوى الاستعمارية بطرق خالية من الإنسانية، وسلبت كرامتنا وحريتنا الى هذا المستوى؟، ولماذا قسّمتنا الى دويلات ضعيفة، وسلبت خيراتنا ودمرت صناعتنا وضربت طوقا بيننا وبين العلم والتطور.
والسؤال الأكثر ألما وحسرة، أن الاستعمار لم يكتفِ بتقسيم العرب والمسلمين الى دويلات مريضة، وإنما باشر على الفور بزراعة الفتن والأحقاد في مجتمعات وشعوب هذه الدور، وأثار الضغائن بينها، ونشر موجات هائلة من الأفكار المتطرفة بين أناس هذه الدول، لماذا فعل الاستعمار كل هذا وهو الذي أفرغ كل هذه الدول من خيراتها ومن مقومات القدرة على العيش الكريم المتحرر؟.
ألم يكن الاستعمار قادرا على تحقيق أهدافه بسبل أخرى، أقصد لماذا لم يجرّب الاستعمار (الدول الاستعمارية) التعامل بإنسانية كي يحصل على مآربه وأهدافه، بدلا من إذلال العرب والمسلمين وجعلهم عرضة للتشرذم والتناحر والتفرقة والمرض والجهل والتخلف، ثم استفحال التطرف بين الجموع، كي تتقاتل فيما بينها، ثم تسعى لنشر الخراب خارج حدودها، كما حدث ويحدث الآن في موجات الإرهاب والتخريب والتطرف الذي صنعه الاستعمار بنفسه.
لقد برع الاستعمار أيما براعة في صناعة التطرف، ولم تكن (سايكس بيكو) كافية بنظره، هذه المعاهدة الاستعمارية التي تمثل تدخلا سافرا، وتجاوزا خطيرا على أمة العرب والإسلام، هذه المعاهدة التي قوّضت وحدة الإسلام، لم تشفي غليل القوى الاستعمارية، وإنما ذهبت الى ما هو أسوأ من ذلك، عندما باشرت بصناعة وإدامة حس المؤامرة لدى هذه الدول، ثم زرعت أنواع الصراعات فيما بينها، كي يصفو الجو للاستعمار ويواصل نهبه لخيراتها وثرواتها.
وحين ثارت الأمة وهاجمت الشعوب قوى الاستعمار بعد أن وعت أساليبه وما يرغب ويريد، تقلص الاستعمار العسكري المباشر، وانتهت مرحلة الاستعمار بالقوة العسكرية، ولكن هل اكتفت قوى الاستعمار بما حققته من نتائج الثراء المذهل على حساب المسلمين والعرب؟، لم يكن الأمر كذلك، ولم يرضَ الاستعمار بما حققه في حقبة الاستعمار المسلح.
فتحوّل الى شكل آخر من أشكال الاستعمار والهيمنة والتبعية، ألا وهو الاستعمار الاقتصادي، وأيضا برع في هذا النوع من الهيمنة، وبقيت أساليبه المفضوحة قائمة ومعروفة، فكانت موجات التطرف وصناعته هي الطريقة التي لجأ إليها، مهشما بذلك إرادة أنظمة سياسية صارت تابعة له ومؤتمرة بأمره بحكم خوفها على مصالحها ورغبة لها بحماية عروشها من السقوط.
فصارت هذه الأنظمة السياسية الهشة والضعيفة، تحت عباءة الاستعمار، تسمع ما يريده وتنفذه بلا نقاش، فيما النتائج الخطيرة لهذا السلوك التابعي الحكومي، ينعكس بصورة مباشرة على الجماهير، فتدفع ثمن هذا الخنوع السياسي من حقوقها وحريتها وحياتها، ولعل الحلقة الأكثر خطورة في هذا المشهد، هي براعة المستعمرين في صناعة موجات التطرف.
كما تحقق ذلك في صناعة (القاعدة)، والجماعات الإرهابية المختلفة، وتثبيت الفكر التكفيري وترويجه ونشره بين المسلمين والعرب، وتركيز وتبئير التكفير والتطرف وزراعته في السعودية، لينطلق منها الى مناطق ودول وشعوب أخرى، كما حدث في انتقال الفكر المتطرف وصناعة (القاعدة) في افعانستان وسواها من الدول القلقة الواقعة تحت السلوك العشوائي، ثم انتشارها في مناطق متعددة من دول العالم.
ولكن في آخر المطاف، ماذا حصدت القوى التي صنعت الفكر الوهابي التكفيري؟، وماذا جنت القوى المحلية التي ساعدتها في مهمتها المتطرفة والخبيثة هذه؟، إن النتائج القاتلة لصناعة التطرف لم تنحصر في حيز الدول المستهدَفة بصناعة موجات التطرف، فمن (حفر بئرا لأخيه وقع فيه)، وكلنا عرفنا بحكاية الذئاب المنفردة.
واشتعال اوربا ومدن مرفّهة ومستقرة في العالم بالفكر المتطرف، فصارت أرقى مدن أوربا ساحة لهذا الفكر ونتائجه من موجات إرهابية ساحقة أخذت وجها وأساليب عدة فاجأت أوربا والعالم، فعاد السهم ليضرب الذي أطلقه على الآخرين، وكما حاول أن يتفادى هذا السهم لكنه فشل، فقد ضربت موجات التطرف والفكر التكفير قلب أوربا.
وهذه هي بعض نتائج صناعة التطرف الاستعمارية، فقد تم رفع الغطاء، وانكشفت الجهات التي زرعت الفكر المتطرف بنفسها، وها هي تتلقى نتائج أفعالها، وفي الآخر ليس أمام العالم كله، سوى السعي الى محاربة التطرف، ومقارعة منابع التكفير، فكرا وتمويلا وتنظيما ورعايةً، خاصة بعد أن ثبت للجميع، أن من يلعب بالنار وينشرها بين الآخرين، عليه أن يفهم بأن أصابعه لن تكون بعيدة ومحمية من هذه النار.
اضف تعليق