أكثر ما يثير الاستغراب والتساؤل في القضية المأساوية التي حلّت بالشيعة في دولة نيجيريا، الصمت المريب في وسائل الاعلام العالمية، واللامبالاة في وسائل الاعلام العربية والاسلامية، وايضاً على صعيد المؤسسات والجمعيات والشخصيات في العواصم المعروفة في الشرق الاوسط، ما خلا بعض أصوات التنديد والاستنكار بعبارات مقتضبة، لا تناسب الاحداث الدموية التي وقعت في مدينة زاريا شمال البلاد. كما يجب الاشارة الى جهود فردية ذات تأثير على صفحات التواصل الاجتماعي لنشر حقيقة ما جرى وما وقع للشيعة من مظلومية مُريعة. فحتى الآن ليست هنالك إحصائية دقيقة لعدد ضحايا الهجوم البربري الغادر للجيش النيجيري على حسينية "بقية الله" ومنزل الشيخ ابراهيم الزكزاكي، حيث تفيد بعض المصادر أن العدد ربما يصل الى (300) شهيد وجريح، وقد انتهت المعركة باعتقال الشيخ الذي ما يزال مصيره مجهولاً.
فهل هذا ما يستحقه الشيعة في هذا البلد الافريقي؟ وهل هذا جزاء من استبصر و توصل الى حقائق الدين والحياة غير منقوصة، وهو لا يريد سوى الحقوق الطبيعية بالعيش الكريم والتعايش مع الآخرين بسلام؟
واضح لدى المتابعين أن المجزرة التي حلّت بالشيعة في نيجيريا، تمثل حلقة في مسلسل طويل له امتداد في عمق التاريخ، تسطره أحداث دامية راح ضحيتها مئات الآلاف بين قتيل وسجين ومشرد على يد الحكامين ومن شعر بالخطر المحدق من وجود الشيعة والتشيع على وجوده السياسي وشرعية حكمه، ومن الزمن الحاضر أمامنا أمثلة عديدة للقمع والاضطهاد الذي تعرض له – وما يزال - الشيعة، بدءاً من افغانستان وباكستان شرقاً، ثم ايران والعراق والخليج واليمن ومصر. في بعض البلاد، تمكن الشيعة من تجاوز المحنة والتحول من الدفاع الى الهجوم، ومن الضعف الى القوة والاقتدار. لكن كيف يتم ذلك؟
اذا راجعنا تجارب الأمم والشعوب التي انتصرت بقضاياها او كسبت الجولة في المواجهة، نجد أن القاعدة الاساس للنجاح تمثلت في التضامن والتأييد من الخارج، حيث تتحرك المؤسسات الاعلامية والثقافية ومختلف جماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني لتشكل جميعاً رأياً عاماً يضغط باتجاه نصرة هذه القضية أو تلك بغض النظر عن ماهية القضية ومدى حقانيتها.
فالقضايا الكبرى مثل الثورات والتحولات الفكرية والسياسية في العالم، لم يكتب لها الاستمرارية والحياة، اذا ما بقيت حبيسة حدودها الجغرافية او تأطرت بأطر معينة، إنما تحيا وتنتشر عندما تكون عامل حياة في النفوس ومحطة تأمل في الاذهان، حتى تصل الى درجة النضوج فتكون مثال التغيير والاصلاح والتقدم وكل المعاني التي يبحث عن الانسان الطامح لتغيير واقعه الفاسد، وهذا الانسان قد يكون بعيداً عن موطن هذه التجربة بآلاف الكيلومترات، وربما يكون هو قارة وذاك البلد (التجربة) في قارة أخرى، وربما يكون هو من قومية وأثنية لا تشبه في اللون واللغة والعرق وحتى الدين، ما عليه ذلك الشعب المنتصر في قضيته.
إن أبرز مثال يمكن ان نورده في هذا السياق، ما حصل لايران قبل انتصار الثورة فيها. فهي ثورة جماهيرية انطلقت من الحرمان والطبقية الفاحشة والانحلال الخلقي وامتهان الكرامة الانسانية على يد المستشارين العسكريين الاجانب والأمية الى نسبة خمسين بالمئة، وغيرها من العوامل الداخلية، لكن الى جانب كل ذلك كانت صورة البديل المنظور لهذا الواقع الفاسد، موجودة في أذهان وقلوب الملايين من المسلمين في العالم، لاسيما في الدول المجاورة. ولذا كان مجرد مصطلح "جمهورية اسلامية" أو "ثورة اسلامية"، يمثل ومضة أمل وسط ظلام اليأس والاحباط بسبب شدة القمع والتعسف الذي كان يسود البلاد الاخرى.
وجاء في البحوث والدراسات التي كتبت عن التجربة الثورية في ايران، أنها تمكنت من الإطاحة بالنظام الملكي بقوة الجماهير الايرانية، وصمودها وتضحياتها، ثم ضمنت حياتها واستمراريتها وتحولت الى دولة مقتدرة، بقوة التضامن الجماهيري في مختلف أرجاء العالم، فهي لم تكسب ودّ وتضامن الشيعة وحسب، وإنما جموع المسلمين، بل وحتى غير المسلمين، من الشعوب المقهورة في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية.
وهكذا سائر التجارب التي حملت الى العالم أفكاراً للتغيير ثم البناء، فسعت لأن تكون النموذج الناجح الذي يحتذى به، كما حصل بالنسبة للتجربة الماوية في الصين والتجربة الماركسية في الاتحاد السوفيتي السابق، وقبل هذا وذاك، في تجربة الثورة الفرنسية وما حملته من افكار تتعلق بعلاقة الفرد بالمجتمع، والمجتمع بالدولة.
وأمام هذه التجارب المعاصرة، أجد من الأجدر بنا الالتفات الى التجربة الشيعية، ليس كتجربة ثورية – سياسية، إنما تجربة حضارية أثبتت جدارتها في التاريخ وعلى مر الاجيال، وعنوانها الكبير هو "النهضة الحسينية". فقضية الامام الحسين، عليه السلام، لم يكن لها هذا التأثير العالمي، إلا بعد أن تحولت الى قضية كل انسان باحث عن الحرية والعدالة والكرامة وكل القيم الانسانية.
وبالعودة الى قضية الشيعة في نيجيريا، نجد أن الخطر الذي يهددهم هو الإطار الضيق الذي تسعى دوائر اعلامية و اخرى سياسية وربما جهات دينية، تطويقهم بها، فالحسينية والمنزل الذي استهدفه الجيش النيجيري إنما يعود الى تنظيم اسلامي "موالٍ لإيران"، كما روجت لذلك وسائل الاعلام العالمية، بمعنى أن المشكلة سياسية، وربما تكون الوكالات الخبرية والقنوات الفضائية وغيرها، منتظرة لأي تصعيد في العلاقات بين ايران ونيجيريا بسبب هذه القضية، في حين إن الهجوم الاخير الذي تعرض له شيعة نيجيريا، يمثل حلقة في مسلسل الهجمات والاستفزازات الطائفية منذ سنوات بعيدة، لاسيما اذا عرفنا بأن تاريخ التشيع في هذا البلد الافريقي، يعود الى الدولة الفاطمية، وقد شهدت مناطق شمال نيجيريا انتشاراً واسعاً وسريعاً للتشيع استمر حتى وصول المستعمر البريطاني عام 1903، عندما فرض همينته بالحديد والنار، وحسب المصادر التاريخية، فان السيطرة على ولاية "سكتو" في الشمال التي يقطنها الشيعة، تمت بعد أشهر من المقاومة العنيفة من قبل المسلمين الشيعة، وسقوط الكثير من الشهداء، وتكبد المستعمر الكثير من القتلى.
ومنذ ذلك الحين، استمرت الاستفزازات والهجمات من قبل الجماعات الارهابية المدعومة من جهات عديدة لا تريد للتشيع وجود في هذا البلد الغني بالنفط، ومن المعروف أن القوانين في نيجيريا لا تسمح بتشييد مسجد للشيعة، رغم أن عدد نفوسهم يفوق الستة ملايين نسمة، حسب بعض الاحصائيات، وربما أكثر. وفي عام 2005، شهدت ولاية سكتو شمال البلاد هجمات ارهابية دموية استهدفت الدور المتاجر والمدارس الدينية للشيعة، فاضرمت فيها النيران، وتعرضت النسوة والاطفال للقتل بطرق بشعة.
إن توسّل الشيعة في نيجيريا بالقضية الحسينية، والتمسك بالشعائر الحسينية مثل تسيير مواكب اللطم وغيرها، تمثل دلالة بارزة على حرص الشيعة في هذا البلد على الارتباط بعالمية التشيّع وأنهم ينتمون الى شريحة ذات تأثير بالغ في الامة ليس من السهل تجاوزها، وما يزيدهم ثقة وعزيمة، ما يسمعونه من اخبار وتطورات من العراق وايران ولبنان وحتى سوريا واليمن والبحرين، فانهم يزدادون ثقة بالنفس بأن النصر سيكون حليفهم وإن طال الزمن، و سيكونون يوماً ما مكوناً أساس في المجتمع وفي الدولة. ولكن...! عندما يحظون بالتأييد والدعم من المؤسسات الدينية والثقافية، وايضاً من اوساط الجماهير، حتى يُصار الى تحشيد رأي عام اسلامي وعالمي لنصرة هذه الفئة المضطهدة والمظلومة في هذا البلد الافريقي.
اضف تعليق