q

العمليات الارهابية التي حصدت - وما تزال- المئات والآلاف من الابرياء من ابناء الأمة، على شكل انفجارات وعمليات اغتيال وقتل جماعي وغيرها، لم تواجه موقفاً موحداً من علماء الدين السنّة، إنما هنالك مواقف شخصية بدوافع سياسية – على الاغلب- او مواقف تضامن مع الضحايا في إطار فعاليات ثقافية، من قبيل مشاريع التقريب او الحوار. وليس أدلّ على المشهد العراقي الذي غرق في الدماء والأشلاء خلال السنوات الماضية، بفعل العمليات الاجرامية والعنيفة للجماعات الارهابية، ورغم أنها تستهدف بالدرجة الاولى، المدنيين من نساء واطفال وكسبة وباعة متجولين، إلا موقفاً موحداً يدين هذه الاعمال ويجرّم الفاعلين، لم يصدر في العراق، حتى وقت قريب، عندما تحولت المعادلة السياسية لغير صالح الطائفة التي تتصور أنها مهمشة في العهد الجديد.

هنالك أسباب يبحثها الخبراء والمراقبين لعمل الجماعات الارهابية، أهمها ردود الفعل، حيث يعد الكثير من رجال الدين وخطباء الجوامع، أن العمليات الارهابية إنما تأتي على شكل رد فعل على اعمال استفزازية، بما يعني إعطاء الحق والشرعية بشكل غير مباشر لهكذا عمليات، بل حتى للعمليات الانتحارية، بدعوى الدفاع عن النفس...! فلو نتابع تعليقات الارهابيين على ما يقومون به من اعمال اجرامية بحق المدنيين، فانهم يتحدثون عن الهجمات التي تتعرض لها قراهم ومناطقهم من قبل السلطات الحاكمة، وهذا ما لاحظناه في افغانستان والعراق، ثم في سوريا وحتى مناطق اخرى.

وفي آخر مشهد دموي مريع تتعرض له الانسانية، ما شهدته مدينة لاهور الباكستانية عندما اقتحم مسلحون وانتحاريون مدرسة للاطفال، واعلنوا احتجازهم لحوالي (500) تلميذ ومدرس، وحسب شهود عيان، فان الارهابيين فتحوا نيران اسلحتهم بشكل عشوائي صوب التلاميذ داخل الصفوف فكان الاطفال ومعلميهم يسقطون صرعى بشكل رهيب، قبل ان ينهي الجيش الباكستاني عملية الاحتجاز وحصول المجزرة المروعة. ومن جملة ردود الافعال، ما صدر عن متحدث باسم "طالبان" الباكستانية التي تبنت العملية، ان الجيش الباكستاني يستهدف نساءنا واطفالنا... نريد ان يتذوقوا الألم...! وتضامناً مع هذا الموقف الارهابي، رفض امام المسجد الاحمر في العاصمة اسلام آباد، ادانة الهجوم الارهابي، وقال في حديث للاعلام: "أين كانت دموع المتباكين على تلاميذ مدرس الجيش، حين أريقت دماء المصلين في المسجد الاحمر...."؟! وهو يشير الى حادثة الهجوم على هذا المسجد الذي تحصن فيه الارهابيون عام 2007.

نفس الحالة نشهدها بمرارة في  العراق، فالارهابيون يحيكون القصص الانسانية، واكثرها مختلقة، عن اعمال اضطهاد وقمع وتعذيب للمدنيين الآمنين في قراهم ومساكنهم، عندما يتعرضون لعمليات قصف جوي او مداهمات واعتقالات، مما يستوجب "النصرة" أو الثأر للقتلى. لذا فان الفتاوى التكفيرية تأتي للتضامن والمساندة، في نفس الوقت تصم الآذان وتغمض العيون، عن طبيعة العمليات الارهابية وما تسفر عنه من ضحايا في صفوف الاطفال والنساء، فضلاً عن سقم الرأي القائل بدعم العمليات الارهابية لهذا الدليل فقط.

من هنا نفهم السبب استمرار العمليات الارهابية رغم دمويتها وحصدها لأرواح الابرياء في الشوارع والاسواق، فهي تكتسب شرعيتها من فتاوى علماء وتحريض خطباء وأئمة الجوامع داخل وخارج العراق. ويساعد ذلك وجود الفضاء الفسيح لرجال الدين السنّة من تقمّص شخصية العالم والمفتي الذي "إن أصاب له حسنتان وإن أخطأ له حسنة..."! ولا وجود لأطر وقواعد فقهية وعلمية تحدد المعايير الخاصة بالفتوى وضروراتها.

واذا كان بعض رجال الدين السنّة يتحدثون عن "السلف الصالح" وأنهم يسيرون على نهج رسول الله، صلى الله عليه وآله، فما عليهم إلا ان يعيدوا النظر في مطالعتهم للسيرة النبوية الشريفة. لذا نجد سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- يولي اهتماماً كبيراً لعلماء الدين في عملية تكريس ثقافة السلم واللاعنف، بناءً على أنه "اذا فسد العالِم فسد العالم".

لنلاحظ قصة يرويها سماحته في كتابه "اللاعنف منهج وسلوك"، عن المرجع الديني الأعلى في زمانه، السيد ابو الحسن الاصفهاني، عندما هجاه أحد الشعراء بأبيات من الشعر تتضمن الاستهزاء والانتقاص من هذا المرجع الكبير في علمه وأخلاقه. وعندما حلّ المساء، طرق السيد ابو الحسن الاصفهاني، باب ذلك الشاعر، وبعد الدخول طلب منه ان يقرأ عليه ابيات من تلك القصيدة، رفض في البداية، إلا ان السيد أصر  عليه، فقرأها عليه، وبعد الانتهاء وقبل ان يخرج السيد من داره، أعطاه مظروفاً فيه مقداراً من المال، لم يكن مكافأة للإساءة، إنما وسيلة للكسب وتغيير نمط التفكير والمنهج وهو ما حصل فعلاً مع ذلك الشاعر.

نعم؛ ان من يدّعون المظلومية والتهميش، يطالبون بالتغيير، لكن كيف...؟! هل بالوسائل الوحشية البشعة، أم باتباع منهج رسول الله، صلى الله عليه وآله، الذي كان يحرص على عدم إزعاج هرة نامت على ردائه، فكيف بانسان مهما كان، حتى وإن كان قد هجاه وتهجّم عليه او دعا الى قتله والقضاء عليه.

من هنا، تبدو المسؤولية تاريخية وعظيمة على رجال الدين السنّة من اكاديميين وخطباء جوامع وغيرهم في اتخاذ الموقف الحاسم والسريع من الاعمال الارهابية التي تمزق أواصر المجتمع الاسلامي وتدفع بالامة الى المزيد من الدماء والدمار.

اضف تعليق