الخطاب السياسي المعبأ بالكراهية يحملنا مثل ذرات الجمر المتهبة وسط العواصف، نحرق أقرب الناس إلينا، نصدق الكذاب، ونكذب الصادق الذي يبحث لنا عن طريق للخلاص، لا أجزم أن هذه هي أسباب استمرار الإعتداءات الإرهابية، مع الاخفاقات السياسية والخدمية، لكنني ارى أنها أهم الأسباب ولو تمت معالجتها...
مرت أيام معدودة على الحداد الذي اعلنه رئيس الوزراء ترحمًا على ضحايا حريق مستشفى الإمام الحسين في الناصرية ليُفْجَع العراق مجددًا في مدينة الصدر، لكن هذه المرة باعتداء إرهابي في سوق الوحيلات.
بدأ تسلسل الاحداث من لحظة إعلان وقوع الاعتداء الارهابي في وكالة الانباء الرسمية في حدود الساعة السابعة من مساء يوم الاثنين، تبعه إعلان من الإعلام الامني يقول: اعتداء إرهابي بواسطة انفجار عبوة ناسفة محلية الصنع في سوق الوحيلات بمدينة الصدر شرقي بغداد، مما أدى إلى وقوع عدد من الضحايا بين شهيد وجريح وسنوافيكم بالتفاصيل لاحقًا.
التفاصيل كانت عند رئيس الوزراء عبر سلسلة من القرارات التي تشبه ما اتخذه سابقا بعد كارثتي مستشفى ابن الخطيب في بغداد ومستشفى الإمام الحسين في الناصرية.
القائد العام للقوات المسلحة أمر بإيداع آمر الفوج الأول في اللواء الرابع بالشرطة الاتحادية التوقيف (وهو) آمر القوة الماسكة للأرض في مكان الانفجار (الاعتداء) الذي حصل في سوق الوحيلات بمدينة الصدر شرقي بغداد، ووجه بفتح تحقيق من قبل قيادة عمليات بغداد لمعرفة ملابسات الحادث (الاعتداء).
التعايش مع الارهاب
وفي ساعات الصمت قبل انتهاء الاجتماع الطارئ لرئيس الوزراء كان رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان يكتبان تغريدات لإسقاط الواجب ولا تستحق الذكر.
وفي اللحظات تلك ربما سمع أهالي الضحايا أصوات المفرقعات والإطلاقات النارية احتفالًا بفوز القوة الجوية على الزوراء في نهائي كأس العراق، ووزارة الشباب التي لا تبعد عن مدينة الصدر بفارق شارع واحد تصدر بيان احتفال بالمباراة.
وكأن المحتفلين يقولون لقد تعودنا على الموت يوميًا فإلى متى نبكي ونحزن؟ احتفلوا حتى وإن كانت رائحة احتراق الجثث تقع قرب ملعب الشعب الذي يحتضن مباراة نهائي الكأس.
لقد تعودنا واستسلمنا للواقع المأساوي للإرهاب وهذه أول هزيمة لنا، أن نقبل العيش مع الإرهاب، ونوافق على خلط أحزاننا بأفراحنا بدون محاولات للعلاج.
نحتفل ونبرر احتفالاتنا بأننا نحب الحياة، لكن من قال أن حب الحياة يأتي عبر اشعال المفرقعات، إنما حب الحياة يأتي بحمايتها من الأمراض أولًا.. أمراض الفساد وأمراض المحاصصة، وأمراض الفقر..إلخ، فهل يصح القول أن نسمي من يحتفل قرب ميت من افراد أسرته بأنه يحب الحياة أم أنه يتعايش مع الموت، نحن نتعايش مع الإرهاب، وهذه أكبر هزائمنا، لقد شهدت بغداد تعايشًا غريبًا مع الألم.
القرارات المستنسخة
بعد منتصف الليل عاد الناس إلى بيوتهم، في الأثناء انتهى اجتماع رئيس الوزراء يخرج بجملة من التوجيهات وهي تنص على الآتي:
١. إعادة توزيع مسك القواطع للقوات الامنية في بغداد بالشكل الذي يرفع من جاهزية قطعاتنا وقدرتها على التصدي للمخططات الإرهابية والإجرامية.
٢. محاسبة أي قائد أو ضابط يثبت تقصيره عن أداء واجبه والتحقيق معه وإحالته على المحكمة المختصة.
٣. أن يستنفر العمل الاستخباري بكل طاقاته وبضربات استباقية دقيقة.
٤. تقديم المساعدات العاجلة بكل أشكالها لأهالي الضحايا وأن تستنفر الملاكات الصحية كل طاقاتها من أجل علاج المصابين.
وعند مناقشنا القرارات يتضح الجانب المستنسخ فيها، لأنها غارقة في العموميات، ولا تعلن عن أصل المشكلة، وكأن الحل هو في تغيير قائد أمني بآخر؟
ولأنني قلت بغرق الرئيس في العموميات، دعوني أوضح طريقة حصول المسؤولين على مناصبهم والقادة الأمنيين لا يشذون عن القاعدة.
ألا يعلم رئيس الوزراء أن المناصب العليا والأمنية منها تخضع لسلطتين:
سلطة الأحزاب وسلطة المال الفاسد.
فالأحزاب لها حصص في كل المفاصل الأمنية ولهذا قد يُسْتَبَعد القائد الكفوء غير المتحزب، لصالح القائد غير الكفوء لكنه متحزب، وهذا الواقع يتسبب في انهيار الحواحز الأمنية أمام الإعتداءات الإرهابية المتواصلة.
ألا يعلم رئيس الوزراء أن بعض القادة الأمنيين يشترون المناصب بأكداس كبيرة من المال؟
ماذا يحصل للقائد الذي يترقى للمنصب عبر الحزب او يشتريه بالمال؟ سيعوضه عبر بيع الأجازات للمنتسبين وبعض الخصومات في الدوام مقابل دفع المال للقائد تحت غطاء "التبرع" ليسدد ما خسره من المال الذي اشترى به المنصب.
سيقوم هذا القائد الأمني بتقديم تسهيلات لبعض الجهات السياسية حتى وإن كان ذلك يخالف القواعد الأمنية، والسبب هو وجود علاقة مع الحزب الذي أوصله للمنصب.
وقود الحرائق
وسط الفساد المالي والسياسي، هناك المجتمع المساعد على الإحتراق، فقد تكون بريئًا لو طبقنا قواعد القانون على أي فرد من أفراد المجتمع، لكن مشكلة هذا المجتمع هو قابليته للاحتراق.
ماذا نقصد بالقابلية على الاحتراق؟
إنها المساعدة على ديمومة الصراع السياسي عبر تبني توجهات متطرفة تزيد الاحتقان وتغرس الازمات مثلما تغرس الأشجار.
القابلية على الاحتراق تعني "الخضوع للعاطفة" وهذه صفة ملازمة للمجتمع العراقي، لدينا مزاج عام يتغير بين يوم وآخر، ويعتمد المزاج العاك حسب ما توجهنا به الدعاية السياسية التي لا تحمل إلا خطاب الكراهية.
الخطاب السياسي المعبأ بالكراهية يحملنا مثل ذرات الجمر المتهبة وسط العواصف، نحرق أقرب الناس إلينا، نصدق الكذاب، ونكذب الصادق الذي يبحث لنا عن طريق للخلاص.
لا أجزم أن هذه هي أسباب استمرار الإعتداءات الإرهابية، مع الاخفاقات السياسية والخدمية، لكنني ارى أنها أهم الأسباب ولو تمت معالجتها يمكن تخفيف وطأة الأزمات وإبعاد مخاطرها عن البلاد.
اضف تعليق