أما آن الأوان لتفهم جميع دول العالم أن استخدام الحروب والصراعات العنيفة سيدمر جميع الأطراف بما فيهم من يشعل هذه الحروب، ألم تنتبه الدول الغربية لأخطائها السابقة بحروب دمرت الشعوب الفقيرة؟ ولماذا ما زالت دول الشرق الأوسط الأشد سخونة لم تفهم الخيبة الأميركية وقبلها السوفيتية والبريطانية والفرنسية...
في ذكرى هجمات الحادي عشر من سبتمبر المقبل تكمل الولايات المتحدة الأميركية حوالي 20 عامًا من الاحتلال لأفغانستان، لكنه سيكون اليوم الأخيرة لها في هذا البلد حيث أعلن الرئيس جو بايدن سحب جنود بلاده في الذكرى السنوية لهجمات برجي التجارة والتي على إثرها تم احتلال أفغانستان بحجة تدمير تنظيم القاعدة وإسقاط حركة طالبان.
أميركا لم تعد قادرة على تحمل التكلفة المالية والعسكرية والسياسية في هذا البلد الفقير رغم أنها الأقوى اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا وأفغانستان تكاد تكون الأضعف عالميًا.
لم يبق شيء تستطيع دولة عظمى استخدامه إلا واستخدمته واشنطن، ميزانية عسكرية هي الأضخم حتى الآن، وأسلحة هي الأذكى والأكبر آخرها استخدام "أم القنابل" في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وقوة سياسية هائلة تملكها واشنطن من أجل اقناع أو إجبار دول العالم على المشاركة أو القبول بالوجود الأميركي في افغانستان.
بالمختصر فإن أميركا استخدمت كل شيء يمكن لدولة عظمى أن تستخدمة ضد دولة تقع ضمن الأفقر في العالم، لكن في النهاية خسرت الدولة العظمى وخرجت بعد حوالي ٢٠ عامًا بدون تحقيق أي تقدم يذكر، وقد لا نبالغ إذا قلنا أن أميركا خرجت مهزومة شر هزيمة وكُسِرَتْ قوتها ليس على يد القاعدة وطالبان بل بسبب تشتيت جهدها المالي والعسكري والسياسي في صراع لا فائدة منه.
ومن المفارقات أنه بعد ١٣ عامًا من الغزو السوفيتي لأفغانستان عام ١٩٧٨ تنهار امبراطورية السوفيت، وبعد ١١ عاما من انهيار السوفييت وتربع أميركا على عرش القوة العالمية بدون منازع، يغزو جورج بوش أفغانستان بحجة ملاحقة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وإسقاط حركة طالبان، لكنه بعد حوالي ٢٠ عامًا عشر من الغزو يغادر آخرى جندي أميركي الأراضي الافغانية حاملين حقائب الهزيمة، بينما تعود البلاد رويدًا رويدًا إلى ايام ما قبل الغزو من فوضى وسيطرة للجماعات الإسلامية المتشددة.
غادرت أميركا أفغانستان كما غادرها قبلها الاتحاد السوفيتي، التكلفة باهظة الثمن، ماديًا وبشريًا وسياسيًا، أفغانستان ثقب أسود لا يعرفه أحد، ولا يجيد أحد دهاليزه المظلمة، بل أي غزو لأي دولة كانت هي دخول في نفق مظلم لا نهاية له.
والواقع ان مسألة التدخل العسكري أكبر من افغانستان ذاتها وأكبر من كل القوى العالمية، فاستخدام القوة العسكرية بدلًا من الدبلوماسية خطأ تكرره أغلب القوى الكبرى والإقليمية، فعندما تعجز السياسة يلجؤون إلى البنادق والمدافع ظنًا منهم أنها قادرة على إنجاز ما فشلت فيه السياسة.
هذا غير ممكن، السلاح وجد لحماية السياسة وليست الحلول محلها، السلاح هو الجدار الذي يحقق الأمن الداخلي، إنه يأتمر بأوامر السياسة، لكن القادة السياسيين عادة ما يتنازلون عن حقهم في التحكم بالقضايا المصيرية ويتركون الأمر للقوة العسكرية.
لماذا تفشل القوة العسكرية دائما مهما كانت كبيرة؟ لأنها وجدت للتدمير وليست للتعمير، وهي بعد تدمير الخصوم كمن يطلق النار على قدميه، لا تترك مكانًا للسياسة لترميم ما خربته القوة العسكرية لذلك تفشل التحركات العسكرية في جميع أنحاء العالم، ونقصد التحركات التي تأخذ الجانب العسكري كخطوة أولى لحل المشكلات وليس الحل الأخير كما يفرض العقل والمنطق.
من يلجأ للحديد والنار سيحترق، جاء جورج بوش الإبن بصفته "حامل جهاز لحيم المعادن" الذي يريد تقطيع أوصال الوطن الأفغاني وإعادة بنائه وفق رؤية أميركية، لكن أدوات اللّحام والقِطَعُ الجديدُ غير متناسقة وترفض منطق الإكراه كما كانت ترفضه جميع شعوب العالم.
"اللّحام" الأميركي لم يعرف أن لهيب النار سيحرقه أولًا ويجعله أعمى، لا يعرف أين تتوجه بوصلة مستقبله، لذلك ضاع الأميركي وخسر الحرب بكاملها.
ولا عزاء للجماعات الاخرى التي تستخدم نفس المنطق الأميركي الأعمى، جماعات لا تملك إلا السلاح لغة للتعبير عن طموحاتها، وتلك لغة غير مفهومة أولًا ومرفوضة ثانيًا من الشعب حتى وإن سكت عنها لفترة من الزمن خشية القتل والتنكيل.
أما آن الأوان لتفهم جميع دول العالم أن استخدام الحروب والصراعات العنيفة سيدمر جميع الأطراف بما فيهم من يشعل هذه الحروب.
ألم تنتبه الدول الغربية لأخطائها السابقة بحروب دمرت الشعوب الفقيرة؟ ولماذا ما زالت دول الشرق الأوسط الأشد سخونة لم تفهم الخيبة الأميركية وقبلها السوفيتية والبريطانية والفرنسية والأسبانية والألمانية أن الحروب تدمر الجميع بدون استثناء.
وقد تشعر الجماعات المسلحة ببعض النشوة حين تسمع هذا الكلام، وتطلق عبارات النصر في أفغانستان لتوسع من نفوذها في دول أخرى مثل العراق الذي حطم الرقم القياسي بعدد الجماعات المسلحة المحلية وتلك المملوكة لدول أخرى، لكن هذه الجماعات المحتفلة بالهزيمة الأميركية قد لا تعرف أن وجودها مجرد زائدة دودية في جسد الدول وأن مصيرها سيكون أسوأ من مصير الولايات المتحدة الأميركية.
تلك سنة الهزائم على مر التأريخ، السلاح الناري مثل "جهاز لحيم المعادن" مهما استخدمته في لحام قطع المعدن ستخرج بعد مدة أعمى من شد اللهب الناري الذي يضرب العيون.
اضف تعليق