يتبلور الفرق الجوهري بين مفهوم الجهاد ومفهوم العنف، فإذا كان الأخير يعني ممارسة الإيذاء والعدوان لأهداف مشروعة أو غير مشروعة. فإن الجهاد شرع من أجل دفع الظلم ورد العدوان ومقاومة المعتدي. لذلك ووفق هذا المنظور، فإن حياة الأمة في جهادها. حيث أن الأمة التي لا...
مدخل:
يعتبر موضوع الجهاد في الإسلام، من الموضوعات الهامة والحيوية والتي تتطلب وضوحا وتجلية. وذلك لسعي بعض الأطراف والقوى والأقلام إلى تشويه هذا المبدأ المقدس، وجعلته مسوغا للعنف والقتل وتشريع استخدام القوة العارية.. ولعل من القضايا الأساسية، التي ساهمت في تشويه مفهوم الجهاد في المنظور الإسلامي، وتزايد الالتباسات المحيطة به، هو من جراء تداعيات الواقع والتباساته والتي انعكست على نظرتنا ومفهومنا للجهاد. فليس كل عنف جهادا، وليس كل تشدد إسلاما حتى لو تجلبب بجلباب الإسلام.
فبالتالي من الأهمية بمكان التعامل بموضوعية مع الوقائع السياسية والمجتمعية، حتى يتسنى لنا قراءة كل مظاهر العنف وأشكال استخدام القوة وفق معطياتها الواقعية ومؤشراتها المباشرة.
الجهاد ومفارقات العنف:
فالالتزام بقيم السماء لا يشرع إلى العنف وإجبار الناس على ما ذهب إليه الملتزم، بل على العكس من ذلك تماما، حيث أن الالتزام العقدي والسياسي، يدفع بصاحبه إلى الدقة والالتزام الموضوعي وعدم التعدي على الآخرين مهما كانت المبررات والمسوغات.
إذ قال تعالى (فاستجبنا له ووهبنا له يحي وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين).. (1)
وهذا بطبيعة الحال، لا يعني الخوف من مظاهر القوة المتوفرة لدى البشر، أو الخضوع إلى المعادلات الظالمة القائمة في الواقع. وإنما لا بد من إعداد القوة الشاملة وممارستها وفق موازين دقيقة وموضوعية. وذلك لأنها وسيلتنا الأساسية لتحصين أنفسنا ومنع الآخرين من الاعتداء علينا. قال تعالى (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).. (2)
وإن الآيات الأخرى والروايات العديدة التي تحث على الجهاد في سبيل الله تعالى لا تخرج عن هذا السياق والنطاق.
فهي إما دفاع عن الذات بما تشكل من وجود بشري ومقدسات عليا، أو للجم طغيان الآخر واعتداءه.
إذ يقول تبارك وتعالى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين *فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين).. (3) فهذه الآيات توضح أن القتال في سبيل الله شرع من أجل رد الاعتداء، ذلك الرد الذي لا يقع في مطب الاعتداء المقابل. فالآيات تشير إلى أن القتال الذي شرعه الإسلام وحث عليه، هو ذلك القتال الدفاعي، والذي لا يخرج في ممارسة وأدواته عن ضوابط الشرع في عدم الاعتداء والظلم.
لذلك وقف الدين الإسلامي موقفا سلبيا، من حالات دفع الظلم بالأعمال المحرمة كقتل الأبرياء أو تدمير الممتلكات العامة أو تخريبها.
من هنا يتبلور الفرق الجوهري بين مفهوم الجهاد ومفهوم العنف، فإذا كان الأخير يعني ممارسة الإيذاء والعدوان لأهداف مشروعة أو غير مشروعة. فإن الجهاد شرع من أجل دفع الظلم ورد العدوان ومقاومة المعتدي. لذلك ووفق هذا المنظور، فإن حياة الأمة في جهادها. حيث أن الأمة التي لا تستكين على ظلم، ولا ترضى بالعدوان فإنها أمة حية وقادرة على ممارسة الشهود الحضاري. إذ يقول عز من قائل (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون).. (4)
معنى الجهاد:
لو رجعنا إلى قواميس اللغة العربية، نجد أن كلمة جهاد مشتقة من الجهد بضم الجيم وفتحها. وهو الطاقة. ويقال جهد الرجل في كذا: بمعنى جدّ فيه وبالغ. و هو المشقة البالغة و الطاقة. ومنه جهد البئر إذا بالغ في استخراج مائها. ويقال اجتهد في حمل الرحى، ولا يقال اجتهد في حمل خردلة كما ذهب الغزالي في كتابه المستصفى. ويقال اللبن المجهود، الذي استخرج زبده، ولا يكاد يكون ذلك إلا بمشقة ونصب.
فعلى المستوى اللغوي نجد أن الجهاد كمفهوم ليس مرادفا للحرب والقتال. وقد استعمل الذكر الحكيم مفردة الجـــهاد بالمعنى اللـــغوي المتداول. إذ قال تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).. (5)
كما استخدمها بمعنى البذل والتضحية بالنفس والقتال في سبيل الله. قال تعالى (أن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير).. (6)
وعليه فإن كلمة الجهاد (7) استعملت بهيئاتها المتنوعة في النصوص الشرعية بالمعنى اللغوي الذي هو بذل الوسع وتحمل المشقة في سبيل شيء ما. وجاء على نحوين:
1. بذل الطاقة في الخير.
2. بذل الطاقة في الحرام.
بالنسبة إلى النحو الأول، قال تعالى (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير).. (8)
أما النحو الثاني، قال تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون)..(9)
والجهاد بمعناه العام، هو عبارة عن جهد يبذله المؤمنون لإصلاح أوضاع الأمة في مختلف المجالات. لذلك فإن التوجيهات الإسلامية تؤكد أن الجهاد وفق هذا المنظور هو الذي يحول دون فساد الأوضاع ووصول الأشرار والفاسدين إلى السلطة والحكم. فالجهاد حضور وشهود وكفاح، لتأكيد خيار الإصلاح في الأمة.. فقد جاء في الحديث الشريف (الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله. لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم).. (10)
والجهاد في الإسلام من الواجبات الكفائية، بمعنى إذا قام به البعض يسقط عن الآخرين. وهذا لا يعني بطبيعة الحال انحصار هذا الواجب فقط في فئة أو شريحة من الناس، بل ينبغي أن يتهيأ ويستعد كل مكلف قادر، بحيث إذا تحققت الحاجة على المستوى البشري سقط هذا الواجب الكفائي عن الجميع. فالواجبات الكفائية تشمل الجميع، ولكنها على المستوى الفعلي مرهونة بالقدر الكافي لرفع الحاجة.
ويشير المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى مفهوم جديد للواجب الكفائي بقوله: فالواجبات التي يسمونها كفائية، هي واجبات عينية، لكن ليس المكلف فيها هو شخص زيد وعمرو، بل الأمة بما هي موجود حضاري ومعنوي، وبما هي مشخصة للشرع الشريف. والفرد الذي ينصب عليه التكليف، يتوجه إليه الخطاب باعتبار كونه من الأمة لا باعتبار مشخصاته الذاتية. ومع ذلك، فالخطاب يتوجه إليه كما لو كان شخصا طبيعيا مشروطا بالشروط العامة للتكليف كالعلم والقدرة والعقل، ولا منافاة ". (11)
وفي إطار التفريق بين التكاليف العينية والكفائية، فيمكن استكشاف هذا الفرق من خلال أدلة التكليف. "فإذا كان إنحلاليا ظاهرا من تعلقه بكل مكلف على نحو اللابشرط بالنسبة إلى غيره من المكلفين بحيث كان مطلوبا منه بعينه وخصوصيته، فهو تكليف فردي تجري عليه أحكامه وآثاره من حيث الامتثال والعصيان والثواب والعقاب، وسقوط التكليف بالعصيان أو وجوب تداركه بالإعادة والقضاء وغير ذلك من الآثار. وملاكه متعلق الفرد لا بغيره من الأفراد ولا بالأمة. وإن كان ظاهر الدليل أن المطلوب هو وقوع العمل في الخارج لا من فاعل بعينه، بل مراد الشارع تحقق هذا العمل من أي فاعل كان، كشف ذلك عن أن هذا التكليف من التكاليف المتعلقة بالأمة لا بالأفراد، وان ملاكه لا يتعلق بآحاد وأفراد المكلفين، بل يتعلق بالأمة من حيث كونها كيانا اجتماعيا، فتجري عليه أحكام وآثار هذا السنخ من إلزام الأمة به من دون خصوصية لفرد أو جماعة منها على أخرى" (12).
وجاء في الحديث عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) (والجهاد فرض على جميع المسلمين لقول الله عز وجل (كتب عليكم القتال)، فإن قامت بالجهاد طائفة من المسلمين وسع سائرهم التخلف عنه، ما لم يحتج الذين يلون الجهاد إلى المدد، فإن احتاجوا لزم الجميع أن يمدوا حتى يكتفوا، قـــال الله عز وجل (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) وإن دهم أمر يحتاج فيه إلى جماعتهم نفروا كلهم). (13)
بواعث الجهاد:
وبواعث الجهاد ليست الاختلافات الفكرية أو السياسية أو العقدية، وإنما الجهاد جاء لرد الظلم والعدوان. فباعث الجهاد ليس هو الكفر وإنما الظلم والعدوان. إذ قال تعالى (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).. (14).
وجـــاء في الحديث الشـــريف (عن أبي عبد الله (ع) قال: كان رسول الله (ص) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: سيروا بسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا صبيا، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها ).. (15)
أما الآيات القرآنية التي استدل بها بعض العلماء على أن الباعث على الجهاد هو الكفر، كقوله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) (16). فقد وجهها العلماء لإطاحتهم بالعهود والمواثيق. وإن التأمل في آيات الذكر الحكيم، يجعلنا نعتقد أن الباري عز وجل لم يشرع الجهاد والقتال لذات الكفر والشرك، وإنما لصفات أخرى تلازمت مع الكفر والشرك. فالكفر ليس سببا كافيا للقتال، كما أن الشرك ليس مبررا كاملا للجهاد. فالله تعــالى يقول (فاعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم) (17). فالقتال لم يشرع في هذه الآية للكفر المحض، وإنما للاعتداء الغاشم الذي مارسه الكفار بحق المسلمين. وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) فالسبب الذي توضحه هذه الآية للقتال، هو إخراج الكفار المسلمين من ديارهم ظلما وعدوانا.
وهذا المنظور ينسحب أيضا على موضوع الديات والحدود. " إذ أن معظم الديات والحدود أتت لتعاقب على ظلم ينال الغير وليس النفس، فنجد من يسرق مال الغير تقطع يده، ومن يقتل الآخر يقتل وهكذا، بينما عندما يصل الأمر إلى المعصية الشخصية إلى ظلم النفس، كترك الصوم مثلا فنجد الكفارة تكون بقضاءه أو كفارة مما لا يصل ولا يندرج تحت عنوان العقاب والحد. وهذا الكلام كله حول الجهاد والحدود والديات يكفي لكي يكون حجة على أعداء الإسلام الذين يتهموننا بانعدام الحرية. لأن العقاب على ظلم الغير ليس أمرا متوقفا على الإسلام والمسلمين فحسب، بل إن كل الأنظمة الوضعية تؤمن بهذه المسألة، وهذا ما قد يحكى عنه في الأنظمة الوضعية حول أن حرية الفرد تبقى سارية إلا إذا اصطدمت أو تعارضت مع حرية الآخر أو تعدت إلى حدود الغير. هنا تأتي الأنظمة لتشرع القوانين الجزائية وغير ذلك من القوانين".. (18).
لذلك لم ينهانا الباري عز وجل عن ممارسة البر والعدالة تجاه غير المسلمين الذين لم يحاربونا ويخرجونا من ديارنا.
الجهاد وضوابط الحرية:
فحينما تنتفي موجبات القتال والجهاد كالظلم والاعتداء والتهجير القسري من الأوطان، حينذاك تتغير الظروف ولا يبقى هناك سببا وجيها لممارسة القتال ضد الآخرين. فهذه التشريعات شرعت لإزالة أو مقاومة تلك الأعمال والممارسات التي تهدد استقرار المجتمعات وسعادتها. لذلك حرم النص القرآني الاعتداء، وقال تعالى (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولائكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) (19).. فلا ربط بين مبدأ الجهاد في الإسلام وظواهر العنف والإكراه واستخدام القوة الغاشمة ضد الآخرين.
فالجهاد ليس ممارسة العنف الأعمى ضد الآخرين، وإنما هو مبدأ إسلامي أصيل وجزء من منظومة مفاهيمية إسلامية متكاملة، ولا يمكن فهم هذا المبدأ إلا بربطه بنظامه الفكري والمفاهيمي، فالجهاد لم يشرع لإكراه الآخرين للدخول في الدين، بل هو في حقيقته وجوهره جاء من أجل الدفاع عن الإنسان وجودا وفكرا ورأيا. لذلك (ورد النص في القرآن الكريم على تحريم العدوان باعتباره أساسا من أسس العقيدة والشريعة الإسلاميتين في قضايا الجهاد والقصاص والمعاشرة والعلاقات العامة، بحيث يمكن أن يعتبر تحريم العدوان من أوليات وبديهيات الشريعة الإسلامية المقدسة. والعدوان هو الظلم وقد أشرنا آنفا إلى أن الظلم مما يستقل العقل بقبحه وأحكام العقل أحكام مطلقة غير قابلة للتخصيص) (20)..
فالذكر الحكيم حرّم ومنع ممارسة التعسف والظلم ومصادرة حقوق الناس وحرياتهم، وذلك لأن الإسلام العزيز لم يشرع للإنسان القيام بهذه الأعمال. وإن المرء الذي يرتكب هذه الأفعال، ويقوم بهذه الأعمال فإنه يعد من الظالمين.. إذ قال تعالى (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (21)..
فالظلم هو أم الرذائل، لذلك شرع الإسلام الجهاد لمقاومته وإزالته من الحياة. فالباعث على الجهاد هو الظلم والعدوان. والكفر بوحده ليس سببا كافيا للقتال والجهاد. وذلك لأنه "لو كان الكفر بحد ذاته موجبا للقتال، فكيف يمكن أن تسوغ معاهدة من أمرنا الله تعالى بقتالهم ؟ ولا يستقيم هنا الرد بأن هذه المعاهدات، إنما كانت قبل نزول ما يسمى بآية السيف، لأنه بموجب هذا القول، من المفروض حينئذ أن تكون هذه الآية بمثابة إلغاء لهذه المعاهدات. كما لا يستقيم معها القول بأن الله تعالى، إنما أمرنا بالاستمرار ببر المشركين الذين لم (يقاتلونا في الدين ولم يقاتلونا بأي عدوان). إذن فمقتضى ذلك أن يسري النسخ إلى المعاهدات التي بين المسلمين والمشركين في ظل ذلك الحكم المنسوخ. ذلك لكون الخطاب الإلهي يأمرنا صراحة بأن نستقيم في برّنا للمشركين ما استقاموا في برهم لنا. وهذا الأمر يأتي مباشرة بعد آية السيف، مما يعني أن الحكم باستمرار شرعية هذه المعاهدة، إنما هو بمقتضى الخطاب الجديد، وليس بمقتضى استمرار الحكم السابق ". (22)
وإن نظام الجزية التي تقول به الآية الكريمة (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(23) لا ينهي مشكلة الكفر. بمعنى لو كان الباعث على الجهاد هو الكفر، فإن إعطاء الجزية لا ينهي كفرهم بل ينهي عدوانهم وحرابتهم.
لذلك نستطيع القول: أن باعث الجهاد هو الحرابة والعدوان. والآيات القرآنية لم تأمر المسلمين بالقتل وإنما أمرتهم بالقتال حينما يتعرضون لعدوان أو ظلم أو يرون العدو يعد العدة ويهيئ الخطط والامكانات للمباشرة في القتال حينذاك من الطبيعي أن ينهض المسلمون لقتالهم ومحاربتهم. فالجهاد هو العنوان العريض الذي يجعله الإسلام لكل تلك الأعمال والجهود، التي تبذل من أجل حشد الطاقات وبلورة القدرات لبناء القوة (بالمعنى الحضاري) للمجال الإسلامي.. وعليه فإن الجهاد وفق المنظور الإسلامي، ليس ضد حرية الإنسان بحقائقها وتجلياتها العديدة، وإنما هو شرع من أجل صيانتها وحمايتها من كل حالات الظلم والعدوان.
وعليه فإن مفهوم الجهاد في الرؤية الإسلامية، لا يعني التشريع للتشدد و العنف، كما أنه ليس دعوة للقتل والتصفيات الجسدية. وإنما هو مشروع بناء القوة الإسلامية الشاملة، حتى يتمكن المسلمون من رد الظلم والعدوان و محاربة المعتدين.
فالرؤية الإسلامية للجهاد، لا تتحرك بعيدا عن نطاق الحرية، بل هي جاءت من أجل صيانتها والدفاع عنها ومنع الاعتداء عليها وعلى مقتضياتها ومتطلباتها.
فالحرية بكل مجالاتها ومستوياتها، لا تنتفي حينما نتحدث عن الجهاد ونعتبره من فروع الدين الأساسية. بل العكس من ذلك تماما. حيث الجهاد بمعنى بناء القوة الحضارية الشاملة، هو جسر تعزيز الحرية وصيانتها في الواقعين الإسلامي والإنساني.
اضف تعليق