صحيح أن ظاهرة الإرهاب دولية وعلاجها لا بدّ أن يكون دولياً أيضاً، خصوصاً وأنها أخذت تهدّد السلم والأمن الدوليين، لكن المواجهة تحتاج إلى رافعات داخلية، أولها وأهمها خطاب جديد أساسه فكر جديد، أي أن المعركة مع الإرهاب تحتاج إلى إعادة النظر بكل ما هو قائم قانونياً...
على الرغم من أن العنف والصراع الدموي طبع الحياة السياسية العراقية المعاصرة، إلاّ أن الإرهاب الدولي كان ظاهرة جديدة وفدت إلى العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003 الذي تمر ذكراه السادسة عشر هذه الأيام.
ومع أن الإرهاب ظاهرة كونية لجأت إليها دولاً وحكومات وجماعات تحت مبرّرات آيديولوجية وسياسية وثقافية مختلفة، لكنها بحكم العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتيل" أصبحت على درجة من السعة والانتشار والتأثير. وقد توافقت عوامل دولية وأخرى محلية على استشرائها في العراق خلال العقد ونصف العقد الماضي تقريباً، وخصوصاً كان العراق قد عاش حروباً دامت نحو ربع قرن وحصار دولي استمرّ ما يقارب 13 عاماً، إضافة إلى استفحال ثقافة التعصّب والتطرّف عبر مطبوعات وكتب وقنوات تلفزيونية ومحطّات إذاعية موجّهة مباشرة للجمهور وللتأثير عليه أينما كان.
كل هذه العوامل وفّرت بيئة حاضنة للإرهاب، يُضاف إليها توافد الإرهابيين من كل مكان، فالاحتلال بنى استراتيجيته على "استدراج" الإرهابيين إلى العراق للتمكّن من الإجهاز عليهم، وهؤلاء هرعوا لمقاتلة الأمريكان ضمن مشروعهم التكفيري، وهكذا أصبح العراق ساحة للعنف والإرهاب.
ثلاث روافد تستمر في تغذية الإرهاب في العراق، وكان قد فقّس في بيئتها بيض التطرّف:
أوّلها: الطائفية ونظام المحاصصة أحد مخرجاته.
وثانيها: الفساد الذي كان الوجه الآخر للإرهاب المموِّل والداعم له.
وثالثها: ضعف وتدهور مكانة الدولة التي أجهز عليها الاحتلال الأمريكي للعراق ، خصوصاً بحل الجيش، والعودة إلى مرجعيات ما قبل الدولة. وبدلاً من الاهتداء بمبادىء المواطنة والمساواة، جرى تكريس صيغة المحاصصة الطائفية – الإثنية في مجلس الحكم الانتقالي الذي قسّم المجتمع العراقي إلى شيعة وسنّة وكرد، وخصّص نسباً لكل منهم، وباشر بتأسيس نظام الزبائنية الذي يقوم على الامتيازات والمكاسب، ففتح بذلك الباب على مصراعيه أمام الفساد بمختلف أنواعه وأشكاله، لدرجة أصبحت الغنائمية سمة تطبع التشكيلات الحكومية اللاّحقة وذيولها.
وكان بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق (13 مايو/ أيار 2003 – 28 يونيو/ حزيران 2004)، قد بدّد لوحده نحو 8 مليارات و800 مليون دولار، وأعقبته حكومتين بددتا نحو 20 مليار دولار، وهما حكومتان مؤقتتان، وكان الهدر الأكبر خلال الفترة ما بين العام 2006 والعام 2014، حيث بلغ ما وصل للحكومة العراقية نحو 700 مليار دولار، لكنها لم تـثمر عن شيء جدي في إعادة الإعمار أو إصلاح البنية التحتية أو الخدماتية من تعليم وصحة وخدمات بلدية وبيئية وغيرها، وذلك بسبب استشراء الفساد والرشا وهدر المال العام، وكان ذلك وجه آخر للإرهاب.
وإذا كانت نظرية "الصدمة والترويع" وفي ما بعد "الفوضى الخلاقة" قد استهدفتا التفكيك وإعادة التركيب، إلاّ أنهما أفضيتا إلى تفشّي ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب التي لا تزال مستمرّة منذ أكثر من 14 عاماً وتتّخذ أشكالاً مختلفة ولها رؤوساً عديدة.
وقد كان احتلال "داعش" للموصل في 10 يونيو (حزيران) العام 2014، وتمدّده إلى نحو ثلث أراضي العراق، وخصوصاً في محافظتي صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى وصولاً إلى أطراف بغداد وتهديده العاصمة خير دليل على استمرار حالة الضعف والوهن، بل والتفتّت الذي وصلت إليه الدولة العراقية وأجهزتها، بما فيها القوات المسلحة التي صُرفت المليارات من الدولارات على إعادة تأهيلها، مثلما صُرفت على الكهرباء والماء اللذان ما يزال العراق يعاني من شحّهما.
وإذا كان "داعش" والقوى الإرهابية قد تعرّضت خلال الأشهر الأخيرة إلى هزائم ماحقة في صلاح الدين والرمادي، وخلال عمليات تحرير الموصل التي ما تزال مستمرة، إلاّ أن تأثيرهما ما يزال قائماً والبيئة الحاضنة مستمرّة، خصوصاً باستمرار نظام المحاصصة الطائفي – الإثني المُنتج للفساد المالي والإداري والسياسي. وكل الدلائل تشير إن "داعش" صائر إلى زوال، لكن الخشية ما بعده.
صحيح أن ظاهرة الإرهاب دولية وعلاجها لا بدّ أن يكون دولياً أيضاً، خصوصاً وأنها أخذت تهدّد السلم والأمن الدوليين، لكن المواجهة تحتاج إلى رافعات داخلية، أولها وأهمها خطاب جديد أساسه فكر جديد، أي أن المعركة مع الإرهاب تحتاج إلى إعادة النظر بكل ما هو قائم قانونياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، مثلما تكبر الحاجة إلى نظام تربوي ومناهج تعليمية جديدة وإلى إصلاح المجال الديني، وبالقدر نفسه فالحاجة تتعاظم إلى جبهة إعلامية ومشاركة فاعلة من المجتمع المدني لمحاصرة الإرهاب وتجفيف منابعه وقطعه من جذوره. أما الجبهة الأمنية والاستخبارية والعسكرية، فهي كما تقول العرب: "آخر الدواء الكي".
وعلى الغرب أن يعي أن اتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب ودمغهم بالتطرّف المستديم في إطار "الرهاب من الإسلام" أو ما يسمى بـ"الإسلامفوبيا" فإن ردود الفعل المعاكسة ستوظّفها القوى التكفيرية المتطرّفة التي وجدت في اختلال نظام العلاقات الدولية مبرّراً لأعمالها الإرهابية بزعم أن كل ما في الغرب إنما هو "شرّ مُطلق"، وهكذا تستخدم التعاليم الإسلامية بالضد من الإسلام وما يتعارض معه، وهو ما نطلق عليه "الإسلاملوجيا" خصوصاً بتكفير الآخر في إطار قراءة ماضوية وتفسيرات وتأويلات لا يجمعها جامع مع القيم الإنسانية التي يحملها الإسلام.
اضف تعليق