من المعروف أن ظاهرة التطرّف تولد من رحم الجماعات المنظمة داخل المجتمع والتي تستقطب الافراد اليها، فهي تدفعهم نحو التطرّف في المواقف والآراء، وما يستتبع ذلك من إذكاء مشاعر الكراهية إزاء الآخر المختلف في الانتماء العشائري او القومي أو السياسي، وما يسببه ذلك من مظاهر العنف المختلفة.
بيد أن الباحثين في علم الاجتماع والقانون يحاولون ايجاد سبل للخروج من الطريق المسدود الذي يندفع اليه الافراد المتطرفون، ثم الاستفادة من حالة التطرف – التي ربما يجدونها امراً لابد منه من الناحية النفسية- لقضايا ايجابية بناءة تفيد الفرد والمجتمع، ومن هؤلاء؛ استاذ القانون بجامعة هارفارد الاميركية، كاس سينشتاين، الذي يرى أن "التطرف ليس شراً دائماً، وقد تكون الحركات المتطرفة في بعض الاحيان خيّرة، بل انها قد تكون عظيمة، وعندما يتحول البشر من اللامبالاة الى الاهتمام العميق بالمشكلات المحلية مثل الفقر والجريمة، فان الاستقطاب الجمعي يكون في هذه الحالة انجازاص وليس مشكلة".
ولو أن سينشتاين في كتابه "الطريق الى التطرف، اتحاد العقول وانقسامها" يتحدث عن التجربة الاميركية في رؤيته الايجابية الى حالة التطرف بشكل عام، فانه بالامكان دراسة التجربة علّها تكون صالحة لسائر المجتمعات ومنها طبعاً؛ المجتمعات الاسلامية، وتحديداً المجتمع العراقي المسكون بحالة التطرّف الشديد في كل شيء، الى درجة ان استحال علامة للفشل ومدعاة لليأس المطبق، لما تضمنه مفهوم التطرف لكل الدلالات السلبية من هدم وتمزق وتخلف.
لكن! كيف السبيل الى ذلك؟
لو تمعنّا جيداً في الآية الكريمة والكثيرة التداول: {...وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، نجد ان الاسلام أضاء الى هذه النقطة الحضارية قبل اربعة عشر قرناً، عندما أقرّ بوجود التشكلات الاجتماعية، بل إن الخلق بدأ على اساس اجتماعي وأن يحقق الانسان "انسانيته" بالعيش مع اخيه الانسان ضمن انتماء اجتماعي متمثلاً في القبيلة والعشيرة التي ذكرها القرآن الكريم، بهدف التعارف بين هذه التشكلات الاجتماعية، وما يستتبع ذلك من معطيات ايجابية وبناءة، من احترام الآخر والبحث عن المشتركات، ثم التوصل الى حلول لمشكلات تهمّ مجموع التشكلات الاجتماعية، كأن تكون عشائر وقبائل وايضاً كيانات اجتماعية وسياسية ومهنية تعيش كلها ضمن بقعة جغرافية كبيرة باسم "الوطن" او "البلد" المتعارف عليه اليوم.
ولم يترك القرآن الكريم "العملية الاجتماعية" دون ضوابط ومعايير تضمن لها سلامة المسير وايجابية النتائج، فكان الاشتراط المؤكد على "التقوى" كمعيار للتكريم والتفضيل، هذا الوازع الاخلاقي من شأنه تقويم سلوك الافراد في الجماعات المختلفة والمتنوعة وابعادها عن مخاطر الانزلاق في التطرف السلبي والهدام.
والتجارب التاريخية خير مصداق على ما نذهب اليه، يكفي تصفح الحقبة السياسية للرسول الاكرم في المدينة، والحقبة السياسية للإمام علي، في الكوفة، لنجد كيف أن اختلاف القبائل، بل وتقاطعها احياناً، مع ما تحمل من خلفيات ثقافية وتقاليد بعضها يحمل ترسبات جاهلية، كل ذلك، تحول الى جبهة متماسكة لمواجهة التحديات بنجاح فائق، لولا الثغرات النفسية والعقدية التي لم يعالجها الافراد والمجتمع آنذاك فتحولت الى خروقات قاتلة تسببت بهزائم منكرة، كما هو الحال في ظاهرة النفاق الملازمة للمجتمع الاسلامي الاول، وايضاً في الحروب التي أثيرت ضد أمير المؤمنين، من أول يوم تولّى فيها ادارة الدولة الاسلامية (سياسياً)، وكذلك في الاحداث الدراماتيكية التي رافقت واقعة الطف، من مأساة مسلم بن عقيل، وحتى تسابق القبائل والعشائر على حمل عدد اكثر من رؤوس اصحاب الامام الحسين ليتقربوا بها الى أميرهم؛ ابن زياد!
حماية الجيوب الفكرية
اذا كان التشابه في المستويات الذهنية، وايضاً حالة الاستقطاب الى الجماعة، من اسباب ظهور التطرف "السلبي"، فانه بالامكان الاستفادة من الاجتماع في ظل هذه الجماعة او تلك، من استثارة الافكار والرؤى الايجابية، بل والاتفاق على حلول معينة، او خلق حالة من وحدة الكلمة الضرورية جداً في كثير من المعالجات الاجتاعية والسياسية.
ويشير الاستاذ الجامعي، صاحب كتاب "الطريق الى التطرف" الى نقاط من شأنها ان تكون سبلاً يستفاد منها لدفع التطرف نحو الايجابية:
1- ان تحدث الناس الى مشابهيهم بالعقول ربما يولد حالة من النشاط والحيوية، ومن شأن ذلك ان ينشر فيما بينهم ثقافة التسامح والاحترام لبعضهم البعض.
2- الاستفادة من الجيوب الفكرية في هذه الجماعات بما يفيد اعضائها والمجتمع بشكل عام، ويورد صاحب الكتاب؛ المرأة، وحالة التهميش التي تعاني منها امام سطوة الذكورية، ويستشهد بأمثلة من الصين ومن الغرب ايضاً، وتحديداً من اميركا وكندا واوربا، فقد سجل حالات غريبة من تقبّل المرأة فكرة الصمت بملء ارادتها في المحافل الاجتماعية والسياسية وعدم إبداء أي رأي بوجود الرجال، رغم ما يُقال في العالم عما أنجزته حركة المساواة بين الرجل والمرأة، لاسيما في الغرب.
وبالحقيقة؛ فان المرأة، ليست الوحيدة التي تواجه التهميش، فان هذه الحالة او النزعة السيادية – إن صح التعبير- تشمل ربما شريحة الشباب ايضاً، وحتى شرائح اجتماعية اخرى أقل شأناً ممن يعدون انفسهم يمتلكون القوة في المال والجاه والعلم، وهذا ما نلاحظه جلياً في عديد بلادنا الاسلامية، وهو من أكبر عوامل نشوء التطرف الهدام في مجتمعاتنا، بحيث يظهر على شكل ردود فعل لإثبات الذات واستعادة الكرامة من الاقوى.
وعليه؛ فان اختراق جدار الصمت في هذه الجيوب الفكرية وإعطائها الثقة بالنفس وبما تملك من رأي وافكار، من شأنه استثمار جميع القدرات الموجودة بلا استثناء داخل الجماعة الواحدة وحثها على المشاركة في الحلول بدلاً من المشاكل والازمات، وأنها قادرة على ذلك، وذلك من خلال "التدبّر العقلي" الذي يقترحه سينشتاين والذي يكون "داخل الجيوب الفكرية من حيث انها تنمي المواقف المختفية والمسكوت عنها في الحوار العام".
3- التثقيف على التغيير والإصلاح والقدرة على ذلك، فقد "يكون تهديد الاستقرار الاجتماعي مرغوباً فيه في بعض الاحيان، كما كتب توماس جيفرسون (من أوائل الرؤساء الاميركيين) بان القلق والاضطراب يمكن ان ينتج شيئاً خيّراً -يقول جيفرسون- فهما يمنعان من تكاسل الحكومة ويوجهان الانتباه العام الى شؤون عامة، واعتقد ان قليلاً من الثورة من وقت لآخر يعد أمراً حسناً".
من هنا يبدو أن التطرّف يمثل حالة انسانية ويعكس نوعاً من السلوك الانساني الذي يمكن ان يكون سلبياً ومدمراً اذا كان على حساب الآخرين، وأخذ منحىً إقصائياً وعدوانياً، كما هو الحال في بعض شواهد التطرف الديني والتطرف الحزبي، في نفس الوقت بالامكان توجيهه نحو الايجابية من خلال تأييد فكرة الانتماء الى الجماعة والاعتزاز بالهوية والذات على أسس ثابتة ومعايير محددة من القيم والمبادئ.
اضف تعليق