جوزيف ستيغليتز
نيويورك ــ بعد الفوز المذهل الذي حققه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، بات أمر واحد واضحا وضوح الشمس: وهو أن عددا كبيرا للغاية من الأميركيين ــ وخاصة الذكور من ذوي البشرة البيضاء ــ يشعرون بأنهم خُذِلوا. وهو ليس مجرد شعور؛ فقد تخلف العديد من الأميركيين عن الركب حقا. وبوسعنا أن نتبين هذا من البيانات بقدر ما يتضح لنا من غضبهم. وكما زعمت مرارا وتكرارا، فإن النظام الاقتصادي الذي لا تعود فوائده على شرائح كبيرة من السكان نظام اقتصادي فاشل. ماذا ينبغي للرئيس المنتخب ترامب أن يفعل حيال ذلك إذن؟
على مدار ما يقرب من ثلث قرن من الزمن، أعيدت كتابة قواعد النظام الاقتصادي في أميركا على نحو يخدم قِلة من الأميركيين عند القمة، في حين يلحق الضرر بالاقتصاد ككل، وخاصة أقل 80% عند القاع. والمفارقة في انتصار ترامب أن الحزب الجمهوري الذي يقوده الآن هو الذي دفع في اتجاه العولمة المتطرفة وضد أُطُر السياسات التي كانت لتخفف من الصدمة المصاحبة لها. لكن التاريخ مهم: فالآن اندمجت الصين والهند في الاقتصاد العالمي. وفضلا عن ذلك، كانت التكنولوجيا تتقدم بسرعة هائلة حتى أن عدد الوظائف على مستوى العالم في قطاع التصنيع أصبح الآن في انخفاض متواصل.
والمغزى الضمني هنا هو أن ترامب لن يتمكن أبدا من اعادة عدد كبير من وظائف التصنيع المجزية إلى الولايات المتحدة. صحيح أنه يستطيع إعادة التصنيع، من خلال الصناعات المتقدمة، ولكن عدد هذه الوظائف سيكون قليلا. وربما يستطيع إعادة الوظائف، ولكنها ستكون وظائف منخفضة الأجر، وليس وظائف الخمسينيات المجزية.
إذا كان ترامب جادا بشأن معالجة التفاوت بين الناس، فيتعين عليه أن يعيد كتابة القواعد مرة أخرى، على النحو الذي يخدم كل المجتمع، وليس الأشخاص من أمثاله فحسب.
في المقام الأول من الأهمية، لابد من تعزيز الاستثمار وبالتالي استعادة النمو القوي الطويل الأجل. وبشكل خاص ينبغي لترامب أن يؤكد على الانفاق على البنية الأساسية والبحوث. من الصادِم للغاية في بلد يقوم نجاحه الاقتصادي على الإبداع التكنولوجي أن تكون حصة الناتج المحلي الإجمالي في البحوث الأساسية أقل اليوم مما كانت عليه قبل نصف قرن من الزمن.
وتحسين البنية الأساسية من شأنه أن يعزز عوائد الاستثمار الخاص، والذي كان متأخرا أيضا. وضمان تعظيم القدرة على الوصول إلى التمويل للمشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم، بما في ذلك تلك التي تقودها نساء، من شأنه أيضا أن يعمل على تحفيز الاستثمار الخاص. وقد توفر ضريبة الكربون ثلاث غايات في مجال الرعاية الاجتماعية: ارتفاع النمو مع تحديث الشركات بحيث تعكس زيادة تكاليف الانبعاثات من غاز ثاني أكسيد الكربون؛ وبيئة أكثر نظافة؛ وعائدات يمكن استخدامها لتمويل البنية الأساسية والجهود المباشرة لتضييق الفجوة الاقتصادية في أميركا. ولكن نظرا لموقف ترامب باعتباره مُنكِرا لتغير المناخ، فمن غير المرجح أن يستفيد من هذا (والذي قد يستحث العالم للبدء بفرض رسوم جمركية على المنتجات الأميركية المصنوعة بطرق تنتهك قواعد تغير المناخ العالمية).
هناك أيضا احتياج إلى نهج شامل لتحسين توزيع الدخل في أميركا، الذي يُعَد واحدا من الأكثر سوءا بين الاقتصادات المتقدمة. ورغم أن ترامب وَعَد برفع الحد الأدنى للأجور، فمن غير المحتمل أن يجري تغييرات أخرى مهمة، مثل تعزيز حقوق المساومة الجماعية والقوة التفاوضية للعمال، وتقييد مكافآت المسؤولين التنفيذيين والرأسمالية المالية.
لابد أن يذهب الإصلاح التنظيمي إلى ما هو أبعد من الحد من الضرر الذي قد يلحقه القطاع المالي وضمان خدمة القطاع للمجتمع بشكل حقيقي.
في شهر إبريل/نيسان، أصدر مجلس الرئيس باراك أوباما للمستشارين الاقتصاديين تقريرا موجزا يُظهِر تركيزا متزايدا في السوق في قطاعات عديدة. وهذا يعني ضَعف المنافسة وارتفاع الأسعار ــ وهي وسيلة أكيدة لخفض الدخول الحقيقية بقدر ما هي وسيلة أكيدة لخفض الأجور بشكل مباشر. ويتعين على الولايات المتحدة أن تتصدي لهذه التركيزات في قوة السوق، بما في ذلك أحدث المظاهر في ما يسمى الاقتصاد التشاركي.
لابد أيضا من إصلاح النظام الضريبي الرجعي في أميركا ــ والذي يغذي التفاوت بين الناس من خلال مساعدة الأثرياء (ولكن لا أحد غيرهم). ولابد أن يكون الهدف الواضح إزالة المعاملة الخاصة لمكاسب رأس المال والأرباح. ويتمثل هدف ثان في ضمان سداد الشركات للضرائب ــ ربما من خلال خفض معدل الضريبة على الشركات التي تستثمر وتخلق الوظائف في أميركا، ورفعه على تلك التي لا تفعل. ولكن باعتباره من كبار المستفيدين من هذا النظام، فإن تعهدات ترامب بملاحقة الإصلاحات التي تعود بالنفع على الأميركيين العاديين تفتقر إلى المصداقية؛ فكما جرت العادة مع الجمهوريين، سوف يستفيد الأثرياء إلى حد كبير من التغييرات الضريبية.
وربما يقصر ترامب أيضا في تعزيز تكافؤ الفرص. إن ضمان التعليم ما قبل المدرسي للجميع وزيادة الاستثمار في المدارس العامة يشكل ضرورة أساسية إذا كان للولايات المتحدة أن تتجنب التحول إلى دولة إقطاعية جديدة حيث تنتقل المزايا والعيوب من جيل إلى الذي يليه. ولكن ترامب كان صامتا تقريبا حول هذا الموضوع.
تتطلب استعادة الرخاء المشترك انتهاج سياسات تعمل على توسيع نطاق الوصول إلى الإسكان والرعاية الطبية بأسعار معقولة، وتأمين التقاعد في ظل حد أدنى من الكرامة، والسماح لكل أميركي بصرف النظر عن ثروة أسرته بتحمل تكاليف التعليم ما بعد الثانوي بما يتناسب مع قدراته واهتماماته. ولكن في حين أستطيع أن أرى ترامب، قطب العقارات، يدعم برنامج ضخم للإسكان (مع ذهاب أغلب الفوائد إلى المطورين العقاريين من أمثاله)، فإن وعده بإلغاء قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) من شأنه أن يجعل الملايين من الأميركيين بلا تأمين صحي. (بعد انتخابه مباشرة، اقترح أنه قد يتحرك بحذر في هذا المجال).
الواقع أن المشاكل التي يفرضها الأميركيون الساخطون ــ نتيجة عقود من الإهمال ــ لن تُحَل بسرعة أو بالاستعانة بأدوات تقليدية. وينبغي لأي استراتيجية فعّالة أن تنظر في حلول غير تقليدية، وهي حلول من غير المرجح أن يفضلها أصحاب المصالح الشركاتية من الجمهوريين. على سبيل المثال، من الممكن السماح للأفراد بزيادة أمنهم التقاعدي من خلال وضع المزيد من الأموال في حسابات الضمان الاجتماعي الخاصة بهم، مع زيادات متناسبة في استحقاقات المعاش التقاعدي. وقد تساعد سياسات الأسرة الشاملة والإجازات المرضية الأميركيين في إيجاد توازن أقل إرهاقا بين العمل والحياة.
على نحو مماثل، من الممكن أن يخول الخيار العام لتمويل الإسكان أي شخص يدفع الضرائب بانتظام الحصول على دفعة أولى من الرهن العقاري بما يعادل 20% من قيمة الرهن، بما يتناسب مع قدرته على سداد أقساط الدين، بأسعار فائدة أعلى قليلا من تلك التي يمكن للحكومة أن تقترض بها وتسدد أقساط دينها. ويمكن توجيه المدفوعات عبر نظام ضريبة الدخل.
لقد تغير الكثير منذ بدأ الرئيس رونالد ريجان تفريغ الطبقة المتوسطة والانحراف بفوائد النمو نحو أولئك على القمة، ولم تتمكن السياسات والمؤسسات في الولايات المتحدة من مجاراة وتيرة التغيير. ومن دور النساء في قوة العمل إلى صعود الإنترنت إلى زيادة التنوع الثقافي، تختلف أميركا القرن الحادي والعشرين جوهريا عن أميركا في ثمانينيات القرن العشرين.
إذا كان ترامب راغبا حقا في مساعدة أولئك الذين تخلفوا عن الركب، فيتعين عليه أن يتجاوز معارك الماضي الإيديولوجية. والواقع أن الأجندة التي رسمتها للتو لا تتعلق بالاقتصاد فحسب: بل تدور حول إقامة مجتمع ديناميكي منفتح وعادل يلبي وعد القيم الأكثر إعزازا لدى الأميركيين. ولكن برغم أن هذا يتفق إلى حد ما مع وعود حملة ترامب، فإنه يتناقض معها في نواح أخرى عديدة.
أستطيع أن أتبين في كرتي البلورية الغائمة إعادة صياغة القواعد، ولكن ليس لتصحيح الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها ثورة ريجان، العلامة الفارقة في الرحلة الوضيعة التي جعلت كثيرين يتخلفون عن الركب. وبدلا من ذلك، سوف تزيد القواعد الجديدة الموقف سوءا على سوء، بإقصاء أعداد أكبر من الناس من الحلم الأميركي.
اضف تعليق