يوشكا فيشر
برلين – خلال هذا العام والعام المقبل، سيتخذ الناخبون في الديمقراطيات الغربية قرارات مصيرية من شأنها أن تغير الغرب -والعالم– كما نعرفه منذ عقود. في الواقع، لقد تم اتخاذ بعض هذه القرارات، وأكبر مثال على ذلك هو تصويت المملكة المتحدة في يونيو لمغادرة الاٍتحاد الأوروبي.
وفي هذه الأثناء، من الممكن أن يفوز دونالد ترامب في الولايات المتحدة ومارين لوبان في فرنسا بالاٍنتخابات الرئاسية المقبلة في بلديهما. وفي العام الماضي، كان توقع فوز أحدهما يعتبر مناف للعقل، اليوم، يجب علينا الاعتراف أن مثل هذه السيناريوهات كلها ممكنة جدا.
وقد بدأت الصفائح التكتونية في العالم الغربي تهوي، وكثير من الناس كانوا بطيئين في إدراك النتائج المحتملة. لكن بعد استفتاء البريكسيت في المملكة المتحدة، أصبحنا ندرك الأمور بشكل أفضل.
في الواقع، كان قرار المملكة المتحدة قرارا ضد النظام الأوروبي للسلام الذي يقوم على التكامل والتعاون، والسوق المشتركة وسلطة القضاء. وجاء ذلك وسط ضغوط داخلية وخارجية متزايدة على هذا النظام. داخليا، أصبحت القومية تكتسب قوة في كل الدول الأعضاء في الاٍتحاد الأوروبي تقريبا. خارجيا، بدأت تلعب روسيا سياسية القوى العظمى وتعمل جاهدة من أجل "الاٍتحاد الأوروآسيوي" - كناية عن تجديد الهيمنة الروسية على أوروبا الشرقية - كبديل للاٍتحاد الأوروبي.
وتهدد كل هذه العوامل بنية السلام للاٍتحاد الأوروبي، وسيضعف الاٍتحاد بدون المملكة المتحدة، الضامن التقليدي للاٍستقرار. فالاٍتحاد الأوروبي هو محور التكامل الأوروبي-الغربي، لذلك من الممكن أن يتسبب إضعافه في إعادة التوجيه الأوروبي تجاه الشرق.
ستصبح هذه النتيجة أكثر احتمالا إذا انتخب الأميركيون ترامب، الذي يحب بصورة واضحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسوف يتجه نحو سياسة القوة العظمى الروسية على حساب العلاقات الأوروبية والأطلسية. وستكون بمثابة اتفاق "يالطا رقم 2" الذي سيخلق العداء للولايات المتحدة في أوروبا بالإضافة إلى الضرر الجيوسياسي الذي يعاني منه الغرب.
وبالمثل، فإن انتصار أقصى اليمين بزعامة لوبان في الربيع المقبل سيكون دليلا على رفض فرنسا لأوروبا. ونظرا لدور فرنسا باعتبارها واحدة من الركائز الأساسية الهامة للاٍتحاد الأوروبي (جنبا إلى جنب مع ألمانيا)، فإن انتخاب لوبن على الأرجح سيعني نهاية الاٍتحاد الأوروبي نفسه.
إذا لجأت المملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى الاٍنعزالية الجديدة، وإذا تخلت فرنسا عن أوروبا لصالح القومية، سيكون من غير الممكن التعرف على العالم الغربي ولن يبقى حصنا للاٍستقرار، أما أوروبا فستواجه حالة من الفوضى إلى أجل غير مسمى.
في هذا السيناريو، سينظر العديد إلى ألمانيا، كأكبر اقتصاد في أوروبا. لكن رغم أن ألمانيا بإمكانها دفع أعلى سعر اقتصادي وسياسي إذا انهار الاٍتحاد الأوروبي -مصالحها متشابكة جدا مع مصالح الاٍتحاد الأوروبي- لا ينبغي لأحد أن يأمل إعادة التأميم الألماني. الكل يعلم حجم الدمار والكارثة الذي يمكن أن يتسبب فيه ذلك للقارة.
ومن الناحية الجيوسياسية، فإن ألمانيا يمكن أن تتحول إلى حالة رجل محايد غير موثوق به. بما أن فرنسا دولة غربية وأطلسية، ومتوسطية، فاٍن ألمانيا، من الناحية التاريخية، قد تأرجحت بين الشرق والغرب. في الواقع، كانت هذه الدينامية لفترة طويلة عنصرا تأسيسيا للرايخ الألماني. ولم يتم الحسم بشكل نهائي في قضية الشرق أو الغرب حتى بعد هزيمة ألمانيا الشاملة في عام 1945. وبعد تأسيس جمهورية ألمانيا الاٍتحادية في عام 1949، اختار المستشار الألماني كونراد أديناور الغرب.
وكان أديناور شاهدا على المأساة الألمانية بشكل كامل -بما في ذلك حربان عالميتان وانهيار جمهورية فايمار- واعتبر أن علاقات الجمهورية الاٍتحادية الشابة مع الغرب أكثر أهمية من إعادة توحيد ألمانيا. بالنسبة له، كان على ألمانيا التخلي عن موقف الرجل المحايد، وبالتالي التخلص من عزلتها، من خلال الاٍندماج بشكل نهائي مع الأمن الغربي والمؤسسات الاٍقتصادية.
وكان التقارب في مرحلة ما بعد الحرب الفرنسية-الألمانية والتكامل الأوروبي في إطار الاٍتحاد الأوروبي عنصران للتوجه الغربي لألمانيا لا غنى عنهما. وبدونهما، كان بإمكان ألمانيا العودة إلى إستراتيجية الأرض المحايدة، والتي من شأنها أن تعرض أوروبا للخطر، وتغذي الأوهام الخطيرة لروسيا، ويجبر ألمانيا نفسها على التعامل مع التحديات التي تواجه القارة والتي من الصعب السيطرة عليها.
وسيكون التوجه الجيوسياسي لألمانيا قضية أساسية في الاٍنتخابات العامة خلال العام المقبل. إذا استغنى الاٍتحاد الديمقراطي المسيحي عن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بسبب سياساتها حول اللاجئين، فمن المحتمل أن يحاول الحزب جاهدا إعادة كسب تأييد الناخبين الذين فقدهم لفائدة حزب البديل الشعبي لألمانيا (AFD) المناهض للمهاجرين،
لكن أي تحرك من جانب حزب الاٍتحاد الديمقراطي المسيحي للتعاون مع البديل الشعبي لألمانيا، أو للتحقق من صحة حججه، سيثير المشاكل. ويمثل البديل الشعبي لألمانيا القوميين اليمينيين الألمان (وأسوأ من ذلك) الذين يريدون العودة إلى الموقف القديم "الرجل المحايد" وإقامة علاقة أوثق مع روسيا. كما أن التعاون بين حزبي الاٍتحاد الديمقراطي المسيحي والبديل الشعبي لألمانيا قد يكون بمثابة خيانة لإرث أديناور وسيؤذن بنهاية الجمهورية.
وفي هذه الأثناء، هناك خطر مماثل من الجانب الآخر للممر، فأي تحالف بين حزب الاٍتحاد الديمقراطي المسيحي والبديل الشعبي لألمانيا سوف يضطر إلى الاٍعتماد على داي لينكه (حزب اليسار)، وبعض أعضائه القياديين الذين يريدون نفس الشيء مثل البديل الشعبي لألمانيا: توطيد العلاقات مع روسيا ومرونة أو عدم الاٍندماج مع الغرب.
نأمل أن نجتنب هذا المستقبل المأساوي، وأن تحتفظ ميركل بمنصبها لما بعد عام 2017. مستقبل ألمانيا وأوروبا، والغرب قد يعتمد على ذلك.
اضف تعليق