يوم الانقلاب العسكري في تركيا منتصف شهر تموز من عام 2016 يستحق ان يوصف بالتاريخي لأسباب عدة منها ما يتعلق بطريقة السيطرة على الاوضاع من قبل الحكومة التركية، او بالأخطاء الجسيمة التي وقع بها مناهضو هذه الحكومة المنتخبة شعبيا، والمؤثرة بشكل سلبي على اغلب شعوب المنطقة وقد يكون الشعب العراقي اكثر من يعاني من سياسات هذه الحكومة الخاطئة.
الانقلاب العسكري الذي استمر لساعات قليلة تبعثرت فيه الكثير من الافكار والتصريحات والتحليلات والتعليقات، تناقضات بلا حدود رفض وقبول وبكاء وافراح، والاخبار العاجة تتوالي كالمطر، ولان القلب يخفق خوفا من تأثير النتائج على الجميع بتناقضاتهم فقد بات من الطبيعي ان يبذل اي شخص الكثير من الجهد متنقلا بين القنوات الاخبارية والوكالات العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي للإحاطة بكل صغيرة وكبيرة حول الانقلاب.
الكثير من العراقيين احتفلوا قبل ان تتضح الامور ولا نتحدث هنا عن الحشد العام من الناس بل ما يسمى بـ"قادة الراي" او "الطبقة المثقفة"، مدفوعين بعواطف جارفة بسبب ما تحملوه من سياسات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان تجاه العراق والتقارير الدولية تتحدث عن دعمه للجماعات المتطرفة التي تقاتل ضد الجيشين العراقي والسوري، وكيف لا وهو الذي استطاع ان يستفز الاتحاد الاوربي بدولة الـ(28) من خلال ورقة اللاجئين ووضع الولايات المتحدة الدولة العظمى امام خيارين؛ اما مع تركيا او مع الاكراد، ويكيفه عارا انه تحالف من النظام القبلي الحاكم في السعودية.
لا نلوم من تفاعل مع الحدث فاردوغان ليس شخصا عاديا وتركيا ايضا دولة اقليمية لها ثقلها الاقتصادي والعسكري والسياسي، واي حدث فيها يأثر على الكثير من الانظمة الحاكمة في الشرق الاوسط والعراق ليس استثناء منها، لكن طريقة الاحتفال بالحدث الانقلابي كانت خاطئة لسببين حسب ما نعتقد:
السبب الاول: التسرع في اطلاق الاحكام والتحليلات من قبل عدد من المثقفين، وهي اغلبها تحليلات واحكام عاطفية اكثر منها موضوعية وتنظر للحدث من جوانبه المختلفة، فالعداء لا يعني ان نقع فريسة العواطف كونها تضعف صاحبها امام خصمه من خلال استفزازه بطرق تسهل السيطرة عليه.
السبب الثاني: هو التناقض مع ما ننادي به، فالسياسات التركية البائسة لا تعني التنازل عن المكاسب التي حصلت عليها منطقة الشرق الاوسط من انتشار نسبي لقيم الحرية والانتقال السلمي للسلطة، فلا زلنا نتذكر حكام الانقلابات الذين حولوا بلداننا الى خراب صومالي، ونثروا ابناء الوطن بين مشرد في بلاد الغرب ومدفون في مقابره الجماعية، وممزق الى اشلاء نتيجة مفخخات حاقدة.
وما ان فشل الانقلاب حتى انقلبت الوجوه معه تحولت الابتسامات الى غضب ودموع الحزب الى فرح والبعض حفظ ماء وجهه من خلال خاصية مسح المنشورات عبر الفيس بوك فسارع الى مسح كل ما كتبه فيما فضل اخرون تحويل بوصلة تحليلاتهم من انهيار قوة اردوغان حينما تحدثوا عنها اثناء الانقلاب ليخبرونا بجديدهم بان الرجل هو من نفذ هذه الانقلاب وهم يدونون الحجج على انه فعل ذلك من اجل تقوية سلطته وسحق ما تبقى من قوة المؤسسة العسكرية التركية. وفي ظل هذه الفوضى في النشر والتعليق والتحليل لا يمكن لمقال قصير ان يحصر حجم التناقض في الساحة النقاشية الافتراضية العراقية.
نتفق ان تشابك المصالح السياسية في ظل العولمة يحتم علينا الاهتمام في كل ما يحدث بالبلدان التي لها تأثير على العراق، لكن ما كشفه الانقلاب في تركيا هو وجود خلل كبير في كيفية الرصد والتحليل ونشر المعلومات ونحن لا نتحدث عن عامة الناس بل من يفترض انه قادة المجتمع و"النخبة المثقفة" كما يحلو للبعض تسميتها.
عندما ترى قائد حزب سياسي او احد الوجوه الثقافية ينطلق بسرعة الضوء مع الحشود الجماهيرية يحكم على هذا وذاك وفق اهوائه وعاطفته مستفيدا من شهادته الجامعية او مركزه الحزبي؛ فذلك مؤشر خطير على وجود خلل في هذه الطبقة الاجتماعية التي تسمى "طبقة المثقفين" حيث تبنى الكثير من اخبار الفضائيات التلفزيونية والبرامج التحليلية على اراء هؤلاء باعتبارهم قادة الراي. ولنا ان نتخيل حجم الدمار الذي تمارسه هذه الطبقة في تجهيل الناس بجهلها العاطفي.
ما تسمى بالطبقة المثقفة تحتاج الى تثقيف، والكلام الذي نكتبه ليس جديدا فهناك من يعرف بمدى الجهل المستشري بين افراد قادة الراي لكن لكل اسبابه في كتم شهادته اما لأسباب مصلحية تقع تحت مسمى الحفاظ على "لقمة العيش" الراتب وما يقع في نطاقه، او بسبب المجاملات والامل في الحصول على مكانة بين هذا الحشد المثقف.
احد اهم الاسباب في سيادة الجهل وتغييب المنطق بالبلاد هو انعدام المعايير الصحيحة للتمييز بين المثقف وغيره فالشهادة الجامعية باتت هي المعيار فمن يحمل شهادة الدكتوراه او الماجستير فقد انضم بشكل عملي الى نادي المثقفين بشكل تلقائي حتى وان كان لا يعرف عن اطروحته نفسها غير انها مجموعة اقتباسات لعشرات المصادر حصل من خلالها على لقبه العلمي، لتاتي مواقع التواصل الاجتماعي لتصنع قادة من الاوهام يأخذ بوجهة نظرهم لانهم يمتلكون اكبر عدد من الاعجابات والتعليقات.
في مجتمع المعلومات اصبح الكل يستطيع الوصول الى اي معلومة يشاء، حتى باتت المسافات قريبة بين المثقف والشخص العادي ليس لان الشخص العادي ارتقى كثيرا بل لان المثقف بقي على فهمه القديم للثقافة من خلال حفظ عدد من التواريخ واصناف الجيوش وقواها واضعفها ليطل من تلك المعلومات على الجمهور بما تجود عليه ذاكرته، وهذا ما يتعارض مع متطلبات عصر ما بعد الحداثة ايها المحللون، فسرعة ابداء الراي مطلوبة لكن الدقة في التحليل وابداء الراي اهم واكثر فائدة للمجتمع.
اضف تعليق