q

مايكل سبنس

 

ميلانو ــ تُرى ماذا حدث في ما يتصل بقضية تقليص الديون؟ في السنوات التي تلت الأزمة المالية العالمية عام 2008، كان التقشف وإصلاح الميزانيات العمومية من أهم شعارات الاقتصاد العالمي. ورغم هذا، تعمل الديون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على تأجيج المخاوف بشأن آفاق النمو في مختلف أنحاء العالم.

في دراسة لاتجاهات الديون بعد الأزمة يلاحظ معهد ماكينزي العالمي أن إجمالي الدين ازداد بنحو 60 تريليون دولار أميركي ــ أو 75% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ــ منذ عام 2008. فقد ازدادت ديون الصين على سبيل المثال بنحو أربعة أضعاف منذ عام 2007، وتبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لديها نحو 282% ــ وهو مستوى أعلى من نظيره في العديد من الاقتصادات الرئيسية الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة.

إن الاقتصاد العالمي الذي يستخدم الروافع المالية (الإنفاق بالاستدانة)، في حين يعجز عن توليد القدر الكافي من الطلب الكلي لتحقيق النمو المحتمل، يسلك مسارا محفوفا بالمخاطر. ولكن تقييم مدى الخطورة يتطلب وضع العديد من العوامل في الاعتبار.

فأولا، ينبغي لنا أن ننظر في تكوين الدين في مختلف القطاعات (الأسر، والحكومة، والشركات غير المالية، والقطاع المالي). فالمحنة التي تعيشها هذه القطاعات تخلف تأثيرات شديدة التباين على الاقتصاد في عموم الأمر.

فكما اتضح، تُظهِر الاقتصادات التي تتسم بمستويات مماثلة ومرتفعة نسبيا من إجمالي الدين نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي اختلافات حادة عندما يتعلق الأمر بتكوين الدين. وتُعَد ديون الأسر المفرطة خطيرة بشكل خاص، لأن أي صدمة في أسعار الأصول (وخاصة العقارات) سرعان ما تترجم إلى انخفاض في الاستهلاك، مع إضعافها للنمو وتشغيل العمالة والاستثمار. والتعافي من مثل هذه الصدمات عملية طويلة.

ويتلخص العامل الثاني الذي ينبغي لنا أن نضعه في الاعتبار في النمو الاسمي ــ أي النمو الحقيقي بالإضافة إلى التضخم. اليوم أصبح النمو الحقيقي خافتا، بل وربما يتباطأ، في حين انخفض التضخم إلى ما دون المستوى المستهدف في أغلب الأماكن، بل وتواجه بعض الاقتصادات خطر الانكماش. ولأن الدين يشكل التزاما للمقترضين وأصلا للدائنين، فإن هذه الاتجاهات تخلف تأثيرات متباينة، فهي تزيد من القيمة بالنسبة لأصحاب الأصول، في حين تزيد من التزامات المدينين. والمشكلة هي أن احتمال حدوث شكل من أشكال التخلف عن سداد الديون يرتفع بشكل كبير في بيئة تتسم بالنمو المنخفض. وفي هذه الحالة، لا يفوز أحد.

أما العامل الرئيسي الثالث في تقييم مخاطر الديون المتنامية فيتمثل في السياسة النقدية وأسعار الفائدة. ورغم أن لا أحد يستطيع أن يجزم على وجه اليقين كيف قد تبدو بيئة أسعار الفائدة "الطبيعية" في عالم ما بعد الأزمة، فمن المعقول أن نفترض أنها لن تبدو على نفس الحال التي تبدو عليها اليوم، حيث تعمل اقتصادات عديدة على الإبقاء على أسعار الفائدة بالقرب من الصِفر في حين انتقلت بعضها حتى إلى المنطقة السلبية.

وربما تجد الحكومات التي تتحمل مستويات ديون مرتفعة و/أو متزايدة الارتفاع أن هذه الديون محتملة الآن، وذلك نظرا للسياسة النقدية الشديدة التيسير. ولكن من المؤسف أنه برغم أن مثل هذا التيسير من غير الممكن أن يستمر إلى الأبد، فإن الظروف اليوم كثيرا ما يُنظَر إليها باعتبارها شبه دائمة، وهو ما يخلق وهم الاستقرار ويحد من الحافز لإجراء الإصلاحات الصعبة التي تشجع النمو في المستقبل.

ويرتبط العامل الأخير وربما الأكثر أهمية في تشكيل مخاطر الدين بالاستثمار. يُنظَر عن حق إلى زيادة الدين لدعم الاستهلاك الحالي، سواء في قطاع الأسر أو القطاع الحكومي، باعتباره عنصرا غير قابل للاستمرار في نمط النمو. وهنا تُعَد حالة الصين مفيدة إلى حد كبير.

فمن ناحية، سنجد أن العبارة المتكررة التي تقول إن ديون الصين أصبحت على مسار غير قابل للاستدامة لا تخلو من الصِدق. إذ أن المستويات المرتفعة من الديون تزيد من الضعف في مواجهة الصدمات السلبية. ولكن من ناحية أخرى، هذا بعيد عن بيت القصيد.

الواقع أن العديد من الحكومات تعمل في الوقت الحاضر على تكديس الديون من أجل دعم الاستهلاك العام أو الخاص. وإذا بالغنا في استخدام هذا النهج فقد يرقى إلى اقتراض الطلب في المستقبل؛ وهو في هذه الحالة غير مستدام بشكل واضح. أما إذا استُخدِم كتدبير انتقالي للمساعدة في دفع عجلة الاقتصاد أو توفير عازل ضد صدمات الطلب السلبية، فإن مثل هذه الجهود ربما تكون مفيدة للغاية.

وعلاوة على ذلك، في اقتصاد مرتفع النمو نسبيا، لا تمثل مستويات الدين المرتفعة ظاهريا مشكلة بالضرورة، ما دام الدين يُستَخدَم لتمويل الاستثمارات التي إما تدر عائدات عالية أو تخلق أصولا قيمتها أعلى من الدين. وفي حالة الديون السيادية، يمكن النظر إلى العائد على الاستثمار باعتباره الزيادة المضافة إلى النمو في المستقبل.

والخبر السار هو أن الكثير من الروافع المالية المتراكمة في الصين كانت تستخدم بالفعل لتمويل الاستثمار، وهو ما يساعد من حيث المبدأ في خلق الأصول الكفيلة بزيادة النمو في المستقبل. (ويتبقى أن نرى ما إذا كانت نتائج القرار الذي اتخذته الحكومة مؤخرا بزيادة العجز المالي لتحفيز التعافي الاقتصادي تتبع هذا النمط الطويل الأجل المعزز للنمو).

أما الخبر السيئ فهو أن الإقراض وتخفيف معايير الائتمان في الصين، وخاصة بعد الأزمة، من الأسباب التي أدت إلى الاستثمار في الأصول العقارية والصناعات الثقيلة بقيمة أدنى كثيراً من تكلفة إنشاء هذه الأصول. والعائد عليها سلبي.

وبالتالي فإن مشكلة الدين المزعومة في الصين ليست في واقع الأمر مشكلة دين، بل مشكلة استثمار. ولمعالجة هذه المشكلة، يتعين على الصين أن تعمل على إصلاح أنظمة الاستثمار والتمويل، حتى يصبح في الإمكان استبعاد الاستثمارات المنخفضة أو السلبية العائد بسرعة أكبر. وهذا يعني معالجة مشكلة سوء تسعير المخاطر التي تنتج عن دعم الحكومة للبنوك المملوكة للدولة (والتي لا يمكن السماح لها بالإفلاس بكل تأكيد).

كما كانت بلدان متقدمة عديدة فاشلة في الاستثمار في الأصول المرتفعة العائد، ولكن لأسباب مختلفة: ذلك أن ميزانياتها الضيقة وارتفاع مستويات الديون المستحقة عليها تعمل على منعها على الإطلاق من استثمار الكثير. ومع تسبب هذا في إضعاف النمو والحد من التضخم، تتراجع إلى حد كبير السرعة التي يمكن بها خفض نسب ديونها السيادية.

ومن أجل تحفيز النمو وتشغيل العمالة، يتعين على هذه الاقتصادات أن تبدأ بتكريس قدر أكبر من الاهتمام لذلك النوع من الدين الذي يتراكم لديها. فإذا كان الدين يمول الاستثمارات الداعمة للنمو، فقد تكون الفكرة طيبة للغاية. ولكن إذا كان يمول "عمليات حالية" ويرفع مستوى الطلب الكلي في الأمد القريب، فإنها تصبح فكرة بالغة الخطورة.

بالطبع، لم يُبَت في هذا الموقف بعد. فالعائد على الاستثمار العام يتأثر بوجود أو غياب الإصلاحات المتكاملة، والتي تتفاوت من بلد إلى آخر. وهناك بعض احتمالات إساءة الاستخدام، مع سوء تصنيف النفقات باعتبارها استثمارات.

ولكن من الخطأ في بيئة تتسم بأسعار فائدة منخفضة للأجل البعيد ونقص الطلب الكلي في الأمد القريب (وهو ما يعني أن خطر مزاحمة القطاع الخاص يصبح ضئيلا)، عدم تخفيف القيود المالية المفروضة على الاستثمار. والواقع أن النوع الصحيح من الاستثمار العام ربما يحفز المزيد من الاستثمار في القطاع الخاص. وتحديد مثل هذا الاستثمار هو المنطقة التي يجب أن تدور حولها مناقشة الديون اليوم.

* حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ علوم الاقتصاد في كلية جامعة نيويورك شتيرن لإدارة الأعمال

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق