كريس باتن
لندن ــ كان التعرف على طبيعة القوة وحدودها من أهم الأمور التي شغلت فِكر وخاطر ليو تولستوي. فما الذي جعل فرنسا ذلك العدو المهول المخيف، وخاصة لروسيا؟ كان هذا السؤال في صميم أعظم رواياته "الحرب والسلام" ــ حتى أن تولستوي كان يزعم أحياناً أن كتابه هذا لم يكن رواية على الإطلاق، بل كان بحثاً في فلسفة التاريخ.
عندما يتعلق الأمر بحدود القوة، فربما كان تولستوي ليفكر بشكل أعمق قليلاً في ما أسماه المارشال البريطاني برنارد لو مونتجمري إبان الحرب العالمية الثانية "القانون الأول للحرب". "لا تزحف على موسكو". كان الشتاء أحد عوامل الواقع الأشد هولاً حتى من الجنرالات الألمان الذين ساعدوا الروس في دفاعهم الناجح ضد نابليون (وهو الدرس الذي لم يستوعبه ولم يأبه له هتلر لحسن الحظ).
أما عن طبيعة القوة، فلم يكن تولستوي مؤرخاً اقتصادياً ولم يكن خبيراً في الدراسات السكانية. فعندما نُشِرت رواية "الحرب والسلام" في عام 1869، كانت تقف على الجانب الآخر من مضيق بيرنج الولايات المتحدة، التي اشترت ألاسكا من روسيا قبل عامين من ذلك التاريخ في مقابل سنتين فقط للفدان.
وكانت أميركا بدأت للتو تظهر كقوة عالمية خلال طفرة العولمة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، والذي تزامن مع فتح الغرب الأميركي. وفي حين كان عدد سكان أميركا لا يتجاوز 4% إلى 5% من سكان العالم، فإن أميركا كانت تمثل من 20% إلى 30% من الناتج العالمي منذ الأيام الأولى من ظهور السفن البخارية، والسكك الحديدية، وبناء مدينة شيكاغو.
ومن هنا، ففي قلب قوة أي دولة عظمى تكمن قوتها الاقتصادية، سواء على المستوى الكلي أو من حيث ازدهار مواطنيها كأفراد. فالصين، الدولة صاحبة أكبر عدد من السكان في العالم، ربما تتحدى ثروة أميركا في الإجمال، ولكن نصيب الفرد في الثروة لا يتجاوز 20% من نظيره في الولايات المتحدة.
وما جعل أميركا مزدهرة إلى هذا الحد هو قدرة البلاد على تعبئة الموارد الطبيعية لقارة بأكملها، فضلاً عن الاستقرار السياسي والتركيبة الشديدة الندرة التي تتألف من التصرف الواعي من قِبَل الحكومة وإبداع المبادرة الفردية. فمن زمن ألكسندر هاملتون فصاعدا، ساعدت الحكومة في تشجيع النمو الاقتصادي وضمان استدامته. ومن ثمار تلك الشراكة كانت الجامعات البحثية العالمية الطراز والتطورات التكنولوجية الناشئة من الأبحاث المتعلقة بالدفاع.
ومن الأسباب الأخرى وراء نجاح أميركا هو أنها كانت جاذبة لأفضل وألمع العقول من مختلف أنحاء العالم، والذين أسهموا بمواهبهم وطاقاتهم في بوتقة صهر حكاية أميركا. ولا تزال هذه العملية مستمرة حتى يومنا هذا.
ويتوقع علماء الديموغرافيا (الدراسات السكانية) أن تكون الولايات المتحدة الدولة المتقدمة الكبيرة الوحيدة التي ستشهد زيادة كبيرة في عدد السكان في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين. ففي حين ستحدث أغلب الزيادة السكانية في العالم في أفقر بلدانه، فإن سكان أميركا، المتعددي اللغات والأعراق والجنسيات والذين يبلغ عددهم 320 مليون نسمة ربما يزيدون بنحو 100 مليون نسمة.
كان الإخلاص لشعار أميركا ("أمة واحدة من كَثرة") هو الذي جعلها واحدة من أعظم قصص النجاح في تاريخ العالم.
بالنظر إلى كل هذا، فإن ترشح دونالد ترامب للانتخابات الرئاسية يجسد نزوة بالغة الخطورة على كل المستويات. على سبيل المثال، من غير الممكن أن تنجح محاولة إقامة الجدران لحماية أميركا من العالم، والتي يدعو إليها ترامب. والأمر الأكثر أهمية، من الذي قد يريد لها النجاح؟ ففي حين يرتفع عدد سكان أميركا، تغوص روسيا وكأنها صخرة سقطت في بِركة. وكم من الناس قد يفضلون الحياة في موسكو على نيويورك؟
تنبئنا أجندة ترامب بالكثير عن الكذبة الكبرى في قلب الشعبوية التي تقض مضاجع أميركا وأوروبا الآن. فالناس يصرخون "نريد استعادة سيادتنا"، "نريد السيطرة على حياتنا وحدودنا". وفي بريطانيا، التي من المقرر أن تعقد في يونيو/حزيران استفتاءً على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، تتحرك هذه المشاعر بصورة فجة حالياً بواسطة الوزراء المناهضين للاتحاد الأوروبي والذين يكذبون بشأن مدى تدخل النظام الدكتاتوري في بروكسل، حسب زعمهم، في إنجازهم لمهامهم الرسمية.
الواقع أن كثيرين يركنون بسهولة إلى اعتقاد خادع مضلل في وجود حل بسيط لأزمة الهجرة في أوروبا. أقيموا الجدران. أعيدوهم إلى ديارهم جميعا. أوقفوا العالَم، نريد أن ننزل.
الحقيقة هي أن الضغط على حدود أوروبا سوف يستمر، وخاصة إذا انهار المزيد من الدول الفقيرة في الجنوب والشرق. ولن يتمكن الأوروبيون من معالجة هذه المشكلة الكبرى في جيلنا إلا من خلال العمل معاً من أجل صياغة استراتيجيات خارجية، وأمنية، فضلاً عن استراتيجيات التنمية الاقتصادية والهجرة، وليس برفض جيراننا وسياساتهم. بل يتعين علينا أن نتعامل مع جذور المشكلة في منبعها، من خلال إعادة بناء الدول الفاشلة وإعطاء سكانها سبب للبقاء في الديار.
لا ينبغي لأميركا ولا أوروبا أن تتخلى عن سياساتها فترضخ لواقع الشعبويين الافتراضي الشديد الخطورة. فعالَمهم ليس العالَم الذي نريد أن نعيش فيه وليس العالَم الذي ينبغي لنا أن نريد أن نعيش فيه. إنه عالَم خيالي وهمي، ولكن تغيب عنه أي إشارة إلى مشاكلنا التي تجتذب جيلاً تلو الآخر من قراء عمل تولستوي العظيم.
اضف تعليق