لاري هاثيواي، الكسندر فريدمان
نيويورك ــ لقد أصبح العالم اليوم أكثر تكاملاً على المستويين الاقتصادي والمالي من أي وقت مضى منذ النصف الأخيرة من القرن التاسع عشر. ولكن عميلة صنع السياسات ــ وخاصة العمل المصرفي المركزي ــ تظل وطنية وضيقة الأفق. ألم يحن الوقت لإعادة النظر في (اللا) نظام النقدي العالمي؟ وعلى وجه الخصوص، ألن يكون بنك مركزي عالمي واحد وعملة عالمية واحدة أكثر منطقية من هذه المجموعة المربكة وغير الفعّالة التي عفا عليها الزمن من السياسات النقدية والعملات الوطنية؟
الواقع أن التكنولوجيا بلغت اليوم مرحلة حيث بات بوسع عملة رقيمة مشتركة، بتمكين من اعتماد هاتف محمول شبه عالمي، أن تجعل هذا ممكناً بكل تأكيد. ورغم أن تبني عملة عالمية قد يبدو أمراً بعيد المنال، فما علينا إلا أن نتذكر أن التخلص من معيار الذهب بدا فكرة غير قابلة للتصديق قبل الحرب العالمية الأولى.
يتسم النظام الحالي بالخطورة والعجز. فالعملات المختلفة ليست فقط مصدر إزعاج للسياح الذين يعودون إلى ديارهم وجيوبهم مليئة بعملات أجنبية لا يمكنهم صرفها. بل إن الشركات العالمية تهدر الوقت والموارد على جهود عقيمة إلى حد كبير للتحوط من مخاطر العملة (والتي لا تستفيد منها إلا البنوك التي تعمل كوسيط).
إن الفوائد المترتبة على تخليص العالم من العملات الوطنية هائلة. فبضربة واحدة يزول خطر حروب العملة والأضرار التي قد تلحقها بالاقتصاد العالمي. وسوف يكون التسعير أكثر شفافية، ويصبح بوسع المستهلكين رصد أي انحراف أو شذوذ (من هواتفهم) والحصول على أفضل الصفقات. ومن خلال إزالة معاملات الصرف الأجنبي والحد من التكاليف، تعمل العملة الموحدة على تجديد نشاط التجارة العالمية المتعثرة وتحسين كفاءة تخصيص رأس المال العالمي.
باختصار، تُعَد الحالة الراهنة نتاجاً ثانوياً لعصر الدولة القومية الزائل. فقد قلصت العولمة أبعاد الاقتصاد العالمي، والآن حان وقت البنك المركزي العالمي.
ولكن من المؤسف أن العملة العالمية الواحدة غير محتملة وغير مرغوبة في واقع الأمر.
إن البنوك المركزية، برغم استقلالها من المنظور المثالي عن النفوذ السياسي، مسؤولة أمام الدولة. فهي تدين بشرعيتها للعملية السياسية التي أنشأتها، والتي تمتد جذورها إلى إرادة المواطنين الذين أنشئت لخدمتهم (والذين تستمد منهم سلطتها).
ويقترح تاريخ البنوك المركزية، برغم أنه وجيز نسبيا، أن الشرعية المستمدة ديمقراطياً لا تصبح في حكم الممكن إلا على مستوى الدولة القومية. وعلى المستوى فوق الوطني، تظل الشرعية موضع شك إلى حد كبير، كما تثبت تجربة منطقة اليورو بوضوح. فلن يتسنى للبنك المركزي الأوروبي أن يستمد الشرعية التي يحتاج إليها لكي يظل السلطة النقدية المنفردة في منطقة اليورو إلا إذا احتجبت سيادة الاتحاد الأوروبي من خلال الاختيار الديمقراطي من قِبَل الدول القومية التي يتألف منها الاتحاد.
بيد أن نفس الشرعية السياسية لا يمكن تصورها لأي سلطة نقدية عبر المحيط الأطلسي أو عبر المحيط الهادئ، ناهيك عن سلطة نقدية تشمل العالم بأسره. فمن الممكن أن تعمل المعاهدات بين الدول على مواءمة القواعد التي تحكم التجارة وغير ذلك من المجالات. ولكنها لا تستطيع أن تنقل السيادة على مؤسسة قوية مثل البنك المركزي أو رمز قهري مثل النقود الورقية.
تتجلى أهمية شرعية البنوك المركزية في أوضح صورها عندما تكون المخاطر مرتفعة. ذلك أن قرارات السياسة النقدية اليومية من غير المرجح أن تحرك مشاعر الجماهير. ولا يمكننا أن نقول نفس الشيء عن الاحتياج الأقل تواترا (كما نأمل) والمتمثل في تولي السلطة النقدية وظيفة الملاذ الأخير لإقراض البنوك التجارية بل وحتى الحكومات. فكما شهدنا في السنوات الأخيرة، من الممكن أن تشكل مثل هذه التدخلات الفارق بين الفوضى المالية والانهيار المالي وبين التقشف والركود. والبنوك المركزية وحدها، مدعومة بقدرتها على خلق التزاماتها الخاصة بحرية، من الممكن أن تلعب هذا الدور.
بيد أن القرارات الصعبة التي يتعين على البنوك المركزية أن تتخذها في مثل هذه الظروف ــ منع موجات التكالب المزعزعة للاستقرار في مقابل تشجيع الخطر الأخلاقي ــ تكنوقراطية وسياسية في آن. وفي المقام الأول من الأهمية، تمتد جذور شرعية البنوك المركزية إلى القانون، والذي هو في حد ذاته تعبير عن الإرادة الديمقراطية. فهل ننقذ بنك واحد وليس غير؟ وهل نشتري ديون سيادية ولكن ليس ديون ولاية أو كومنولث (على سبيل المثال، بورتوريكو)؟ الواقع أن اتخاذ القرار بشأن مثل هذه المسائل على مستوى فوق وطني ليس أمراً مستحيلاً من الناحية النظرية، بل هو غير عملي على الإطلاق في العصر الحديث. فالشرعية، وليس التكنولوجيا، هي عملة البنوك المركزية.
ولكن حقيقة أن بنكاً مركزياً عالمياً منفرداً وعملة عالمية واحدة مصيرهما الفشل الذريع (بصرف النظر عن مدى قوة الحجة الاقتصادية الداعية لهما) لا تعفي صناع السياسات من مسؤوليتهم عن معالجة التحديات التي يفرضها النظام النقدي العالمي المفتت. وهذا يعني تعزيز المؤسسات العالمية المتعددة الأطراف.
ولابد أيضاً من تعزيز الدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي باعتباره حكماً مستقلاً على سياسة الاقتصاد الكلي السليمة وحارساً ضد حالات خفض قيمة العملية تنافسيا. وينبغي لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزي في الاقتصادات الكبرى أن يؤكدوا، في برتوكول مشترك، على التزامهم بأسعار الصرف التي تحددها الأسواق. وكما اقترح راغورام راجان، محافظ البنك المركزي في الهند مؤخرا، ينبغي لصندوق النقد الدولي أن يعمل على مساندة الاقتصادات الناشئة التي ربما تواجه أزمات سيولة نتيجة لتطبيع السياسة النقدية في الولايات المتحدة.
وعلى نحو مماثل، يتطلب العالم الأكثر انصياعاً للعولمة الالتزام من قِبَل الجهات الفاعلة كافة بتحسين البنية الأساسية من أجل ضمان تدفق الموارد بكفاءة إلى مختلف أرجاء الاقتصاد العالمي. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي لقاعدة البنك الدولي الرأسمالية في البنك الدولي للإنشاء والتعمير أن تزيد بما يتفق مع المبلغ المطلوب (253 مليار دولار أميركي) للمساعدة في تمويل استثمارات الاقتصادات الناشئة في الطرق السريعة، والمطارات، ومشاريع أخرى كثيرة.
الحق أن الدعم المتعدد الأطراف للاستثمار في البنية الأساسية ليس الطريقة الوحيدة التي يمكن بها إحياء التجارة العالمية في ظل الترتيبات النقدية الحالية. فكما تجلى بوضوح في العقود السبعة الأخيرة، من المفيد أيضاً خفض الحواجز الجمركية وغير الجمركية ــ وفي المقام الأول من الأهمية في قطاعات مثل الزراعة والخدمات، كما تصورت جولة الدوحة.
ومن الممكن أيضاً تعزيز الاستقرار المالي العالمي ضمن الإطار القائم. فكل المطلوب يتلخص في التنظيم والإشراف على نحو يتسم بالتنسيق الجيد والشفافية وسهولة الفهم والاستيعاب.
وعندما نتحدث عن النظام النقدي الدولي اليوم، فلا ينبغي لنا أن نجعل الكامل أو المثالي ــ وجود بنك مركزي عالمي واحدة وعملة عالمية واحدة ــ عدواً للخير. فبالعمل في إطار الإمكانات المتاحة لنا حاليا، نستطيع بكل تأكيد أن نعمل على تحسين أدواتنا السياسية وتعزيز النمو العالمي والرخاء.
اضف تعليق