أي محاولة لإعادة بناء غزة، بعد هذه الحرب المدمرة، لن يُكتب لها النجاح إذا هي لم تحتسب الموقع الاستراتيجي الذي يحتلّه القطاع في المنطقة. ولا يمكن تجريد القطاع من السلاح، ومن العسكرة، إلا من طريق فك الحصار المدمر المفروض عليه وصوغ خطة اقتصادية إنمائية. وبدلاً من محاولة فصل غزة...
بقلم: جان بيار فيليو
منذ العصور القديمة، أسهمت هذه المنطقة في السعي إلى السلطة والنفوذ في الشرق الأوسط
أسفرت قرابة ثلاثة أشهر من الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، عن حقيقة واحدة لا يمكن الجدال فيها، هي أن القطاع الذي بقي معزولاً مدة طويلة صار، مرة أخرى، محوراً في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وعلى مدار سنوات من العقدين الماضيين، فرضت إسرائيل في أثنائها حصاراً جوياً وبحرياً وبرياً على غزة، خُيِّل للقادة والهيئات الدولية أن هذا القطاع المكتظ الذي يسكنه 2.3 مليون فلسطيني يمكن استبعاده، إلى أجل غير مسمى، من المعادلة الإقليمية، بيد أنّ هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) صدم إسرائيل، وقسماً كبيراً من العالم، وكشف عن هذا الافتراض الفضيحة. والحق أن الحرب المندلعة اليوم جددت تقويم القضية الفلسطينية برمتها تجديداً جوهرياً، وجعلت غزة وشعبها محور أي مفاوضة إسرائيلية- فلسطينية مقبلة.
ولا ينبغي أن تفاجئنا الأهمية الكبيرة التي اكتسبتها غزة أخيراً. وعلى رغم الغموض الذي يكتنف شطراً كبيراً من ماضي هذه المنطقة، يدل تاريخها الممتد إلى أربعة آلاف عام على أن السنوات الست عشرة الماضية كانت شواذاً غير اعتيادياً، فلطالما أدى قطاع غزة دوراً حاسماً في الديناميكيات السياسية في المنطقة، وفي صراعاتها المزمنة حول الدين والقوة العسكرية. ومنذ الانتداب البريطاني، في أوائل القرن العشرين، تبوأت المنطقة محلاً بارزاً من الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي صميمها.
لذا، فإن أي محاولة لإعادة بناء غزة، بعد هذه الحرب المدمرة، لن يُكتب لها النجاح إذا هي لم تحتسب الموقع الاستراتيجي الذي يحتلّه القطاع في المنطقة. ولا يمكن تجريد القطاع من السلاح، ومن العسكرة، إلا من طريق فك الحصار المدمر المفروض عليه وصوغ خطة اقتصادية إنمائية. وبدلاً من محاولة فصل غزة، أو عزلها سياسياً، يتعين على القوى الدولية أن تتعاون على استعادتها مكانتها التاريخية، كواحة مزدهرة وتقاطع حيوي يربط البحر الأبيض المتوسط بشمال أفريقيا والمشرق. وعلى الولايات المتحدة وحلفائها الإقرار باضطلاع غزة بدور مركزي في أي حل دائم للمسألة الفلسطينية.
درة التاج
في تناقض صارخ مع واقعها اليوم، وفقرها المدقع، وافتقارها إلى المياه، وبؤسها الإنساني الهائل، اشتهرت واحة غزة، أو وادي غزة، قروناً طويلة بوفرة نباتاتها، ومناخها المنعش في مواضعها الظليلة. وحظيت قيمتها الاستراتيجية بالقدر نفسه من الأهمية، فغزة هي الوصلة التي تربط مصر ببلاد الشام. ونظراً لموقعها المتميز، كانت الأرض موضع نزاع، منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد، عندما غزا الهكسوس دلتا النيل من غزة. لكنهم هُزموا، وطُردوا في وقت لاحق عن يد سلالة الفراعنة المقيمة في مدينة طيبة. وفي نهاية المطاف، اضطر الفراعنة إلى مغادرة غزة وتركها لـ "شعوب البحر"، المعروفين باسم الفلستنيين، الذين أنشأوا في القرن الثاني عشر قبل الميلاد اتحاداً من خمس مدن، ضمّ غزة والمدن الإسرائيلية الحالية عسقلان وأشدود وعقرون وغات.
واندلعت نزاعات عنيفة بين الفلستينيين والقبائل اليهودية المجاورة، ثم الممالك القائمة، على الوصول إلى البحر. وهذا مغزى قصة شمشون التوراتية. وشمشون هو المحارب الإسرائيلي الأسطوري الذي عقد العزم على هزيمة الفلستينيين، وكانت قوته الجبارة والخارقة تكمن في دوام شعره طويلاً من غير قصّ. ولكنه فقد قواه عندما وقع تحت سحر دليلة التي قصت شعر رأسه أثناء نومه، وانتهى به المطاف مسجوناً في أحد سجون غزة. وفي أثناء أسره، نما شعره من جديد، فاستعاد قوته، حين أُخرج من زنزانته، وأُخذ إلى هيكل للفلستينيين لعرضه على الأنظار، والسخرية منه، فقوّض أعمدة الهيكل، وقتل نفسه مع أعدائه. وعلى المنوال هذا، تُروى قصة داود الشاب الذي بدأ سعيه في توحيد مملكتي يهوذا وإسرائيل، بعد قتل جالوت الفلستيني.
وفي وقت لاحق من العصور القديمة، تحوّلت غزة إلى ساحة معركة مصيرية بين بعض أعظم القوى المهيمنة في تلك الحقبة، جراء موقعها الممتاز الذي كان محط أطماع كثيرين. وبعد أن حكمها الآشوريون والبابليون، استولى كورش الكبير، ملك فارس، على غزة في منتصف القرن السادس ق.م. ولكن الصدمة الفعلية جاءت بعد قرنين من الزمن، في عام 332 قبل الميلاد، عندما حاصر الإسكندر المقدوني غزة لمدة مئة يوم، وهو في طريقه إلى مصر. وفي أثناء الحرب الشنيعة هذه، حصّن الطرفان مواقعهما، وحفرا عدداً من الأنفاق تحت قشرة البر المتفسخة. وكان هذا سابقة تاريخية مهّدت الطريق لاستراتيجية "حماس" في وجه إسرائيل اليوم. وفي آخر المطاف، انتصرت قوات الإسكندر، ولكنها سددت ثمناً باهظاً. وأصيب الإسكندر في أثناء الحصار، وانتقم انتقاماً رهيباً من سكان غزة المهزومين، فذبح معظم السكان الذكور، واسترق النساء والأطفال.
ولم تقتصر أهمية غزة على قيمتها العسكرية. فبعد أن أصبحت دولة- مدينة في الحقبة الهلنستية، تحوّلت بعدها إلى مركز ديني مهم في القرون الأولى التي أُرسيت فيها العقيدة المسيحية، ثم الإسلام. وفي عام 407 م، تمكن برفيريوس، أسقف غزة المسيحي، من بناء كنيسة على أنقاض المعبد الوثني الذي أُنشئ لعبادة زفس في غزة. وكان هناك قديس محلي آخر ذاعت شهرته هو هيلاريون (291-371)، الذي أسس مجتمعاً رهبانياً مهماً في غزة، وأصبح قبره محجة راجحة يقصدها الحجاج. وكان أحد أجداد الرسول (ص) تاجراً من مكة يُدعى هاشم بن عبد مناف، وتوفي في غزة حوالى عام 525. وبعد أن فتحت الجيوش الإسلامية المنطقة في القرن السابع، سمّاها المسلمون، احتراماً، "غزة هاشم". (وفي القرن التاسع عشر، شيّد العثمانيون جامع "السيد هاشم"، في مدينة غزة، ودفنوا فيه السيد هاشم).
،، من المستبعد أن يُكتب النجاح لأي محاولة لإعادة بناء غزة إذا لم نحتسب الموقع الاستراتيجي الذي يحتلّه القطاع في المنطقة ،،
وبين العصور الوسطى والقرن التاسع عشر، بقيت غزة جائزة مرغوبة في صراعات القوى الكبرى في المنطقة. وهي ترجحت بين الصليبيين المسيحيين والمدافعين المسلمين، في القرن الثاني عشر، وبين قادة المماليك والغزاة المغول في القرن الثالث عشر. وخلال قرنين ونصف القرن من حكم المماليك، أي القادة الترك السلاجقة الذين سيطروا على مصر وسوريا في العصور الوسطى، شهدت غزة ما يشبه عصراً ذهبياً. وزخرت المنطقة بعدد من المساجد والمكتبات والقصور، وازدهرت بعوائد طرق التجارة الساحلية المتجددة. في عام 1387، أنشئ ما يُعرف بـ "خان". وهو قريب من مركز تجارة وسوق، في الطرف الجنوبي من غزة. وسرعان ما تطور ليصبح مدينة سمّيت بـ "خان يونس".
وفي عام 1517، دخلت غزة جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. ثم احتلها جيش نابليون بونابرت مدة وجيزة، بعد غزو مصر في عام 1798. وفي معظم هذا الوقت، اشتهرت بمناخها الطري، وأهلها الودودين، وجودة الحياة العالية فيها. وفي عام 1659، وصفها أحد الرحالة الفرنسيين بـ "المكان المبهج والممتع للغاية". وبعد قرنين من الزمان، دُهش كاتب آخر، هو الفرنسي بيار لوتي، حين شاهد فيها "حقول الشعير الشاسعة والمكسوة بالأخضر".
وحين رُسمت حدود عام 1906، وفصلت مصر الخاضعة للسيطرة البريطانية عن فلسطين العثمانية، مر الترسيم عبر مدينة رفح. فأُنشئت منطقة تجارة حرة فعلية بين الإمبراطوريتين. ولكن القوتين تنازعتا، خلال الحرب العالمية الأولى، على تلك الحدود تنازعاً حاداً، وبعد ثلاث محاولات، تمكن الجيش البريطاني من اختراق الخطوط العثمانية في عام 1917. ودخل الجنرال إدموند أللنبي مدينة غزة المدمرة في 9 نوفمبر (تشرين الثاني)، وهو اليوم الذي أعلنت فيه حكومته وعد بلفور، والتزمت "إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين". ولاحقاً صار التزام العهد الصهيوني هذا جزءاً من الانتداب الذي أولته عصبة الأمم لبريطانيا.
وعلى رغم أن غزة كانت إحدى أقل مناطق فلسطين استيطاناً صهيونياً، أصبحت معقلاً للقومية الفلسطينية، في أثناء الثورة العربية الكبرى، بين عامي 1936 و1939، التي قام فيها العرب الفلسطينيون على البريطانيين، وقاتلوا من غير جدوى في سبيل دولة عربية مستقلة. وعوض ذلك، أقرت الأمم المتحدة في نوفمبر 1947، الخطة التي قسمت فلسطين بين دولة عربية ودولة يهودية. وهو الصيغة الأولى لحل الدولتين، وكانت غزة ضمن الدولة العربية.
بذور النضال
وأدت الصدمة الكبيرة، في عام 1948، دوراً حاسماً في تشكيل ما أصبح يعرف بقطاع غزة. وفي البداية باءت خطة التقسيم التي اقترحتها الأمم المتحدة بالفشل، إذ رفضها الوطنيون الفلسطينيون، والدول العربية، رفضاً قاطعاً، على رغم ترحيب القيادة الصهيونية بها. وأطلق الخلاف العنان لصراع مسلح بين اليهود والعرب. وسرعان ما بدأت القوافل الأولى من اللاجئين العرب، ومعظمهم من منطقة يافا، في الوصول إلى غزة. وفي استباق ساخر وقاتم للمأزق العالمي الحالي، قال البريطانيون إن من الممكن أن تبلغ المساعدات الإنسانية المنطقة عبر الطريق البرية من القاهرة. وفي أعقاب إعلان الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل، في مايو (أيار) 1948، شنّت الدول العربية المجاورة هجوماً على الدولة الجديدة، وتوغّل 10 آلاف جندي مصري في غزة. ولكن المصريين لم يتمكّنوا من تجاوز أشدود، على بعد حوالى 20 ميلاً شمال غزة، حيث صدّتهم عملية إسرائيلية جريئة.
وعشية يناير (كانون الثاني) 1949، لم يكن الإسرائيليون قد هزموا الجيوش العربية فحسب، بل طردوا كذلك حوالى 750 ألف فلسطيني من منازلهم، فيما يُعرف مذذاك بـ "النكبة"، وأدت الهدنة الموقعة بين إسرائيل ومصر، في رعاية الأمم المتحدة، في فبراير (شباط) من ذاك العام، إلى إنشاء قطاع غزة، وهي منطقة تخضع للإدارة المصرية، داخل خطوط وقف إطلاق النار في الشمال والشرق، وحدود عام 1906 مع مصر جنوباً. وبعد أن اضطلعت على مدى قرون بدور مفترق استراتيجي، ومركز تجاري إقليمي وحيوي، تحولت غزة إلى "قطعة" أرض [قطاع] محاصرة بالصحراء، وعُزلت عما كان يعرف بفلسطين. وإلى هذا، واجه السكان المحليون، البالغ عددهم حوالى 80 ألف نسمة، تدفق حوالى 200 ألف لاجئ من أنحاء فلسطين كلها. ووصف قطاع غزة، آنذاك، بـ "سفينة نوح" اللاجئين.
ولم يكن ثمة بنية تحتية مناسبة لاستقبال هؤلاء اللاجئين. وفي أثناء الشتاء الأول من 1948-1949، قدّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن عشرة أطفال كانوا يموتون يومياً بسبب البرد أو الجوع أو المرض. وأجبرت صحراء سيناء الشاسعة الناجين على البقاء في القطاع. فحُصر 25 في المئة من السكان العرب المقيمين في فلسطين الانتداب البريطاني في قطاع غزة الذي يبلغ 1 في المئة فقط من أراضي فلسطين السابقة. وكانت إسرائيل ابتلعت 77 في المئة من تلك الأراضي، فيما وضعت اليد المملكة الأردنية الهاشمية على الـ 22 في المئة الباقية، وهي مساحة القدس الشرقية والضفة الغربية.
وبلغ حجم النكبة حداً حمل الأمم المتحدة على إنشاء هيئة خاصة، هي هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين (UNRPR)، من أجل التعامل مع الأزمة الإنسانية. وفيما يعني الفلسطينيين، غرست هذه الفوضى المروعة بذور الصراع المتجدد إلى يومنا. وفي ديسمبر (كانون الأول) 1948، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة نفسها، وهي التي وافقت على خطة التقسيم الفاشلة قبل عام، "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين، سواء من طريق العودة الفعلية إلى الوطن أو من خلال التعويض المالي فحسب. وأصبح مفهوم "حق العودة" مناط طموحات الفلسطينيين منذ ذلك الحين. واكتسب معنىً خاصاً في غزة، نظراً للعدد الاستثنائي من اللاجئين هناك. وفي غياب مطمع إقليمي في القطاع، تحول إلى بيئة حاضنة طبيعية للوطنية الفلسطينية.
وأدرك بن غوريون، أول زعيم لإسرائيل، التهديد الذي تشكّله غزة على الأمد البعيد، قبل معظم زملائه الإسرائيليين تقريباً. وفي مؤتمر السلام الذي عقدته الأمم المتحدة في لوزان، عام 1949، اقتُرح ضم قطاع غزة، والسماح لـ 100 ألف لاجئ فلسطيني بالعودة إلى منازلهم السابقة في إسرائيل. وأثارت الخطة ضجة في كلا إسرائيل، حيث ظهرت معارضة هائلة لعودة الفلسطينيين، ومصر، حيث أصبح الدفاع عن غزة قضية وطنية. فاعترفت الأمم المتحدة بعجزها عن تسوية النزاع العربي- الإسرائيلي، وألغت مؤتمر لوزان، وأنشأت عوض ذلك مؤسسات "موقتة"، غير مقيدة بمدة أو مهلة زمنية. وهكذا، تحوّلت هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين إلى وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي أصبحت منذ ذلك الحين الجهة الرئيسة المسؤولة عن توفير الوظائف، وتقديم الخدمات الاجتماعية في غزة. وأُنشئت ثمانية مخيمات للاجئين في القطاع، أكبرها مخيم جباليا في أقصى الشمال، ومخيم الشاطئ على الخط الساحلي في مدينة غزة، وهي المخيمات التي دمّرها الهجوم الإسرائيلي الحالي.
واستغرق الأمر سنوات قبل أن يتجه اللاجئون الفلسطينيون في غزة نحو الكفاح المسلح. وفي البداية، تمكّنت إسرائيل ومصر من تضييق الخناق على من يسمون بالفدائيين، أي المقاتلين المتمردين الذين يتحدّرون بشكل رئيسي من المخيمات في غزة والساعين في التسلل إلى إسرائيل. ولكن مع منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، بدأ الزعيم المصري جمال عبد الناصر استخدامهم في شن هجمات بالوكالة ضد إسرائيل. وأطلق ذلك العنان لدوامة الهجمات والأعمال الانتقامية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقطاع اليوم. وفي أبريل (نيسان) 1956، قُتل ضابط أمن في أحد الكيبوتسات القريبة من القطاع الفلسطيني على يد متسللين من غزة، ما دعا موشيه دايان، رئيس الأركان الإسرائيلي آنذاك، إلى تحذير الإسرائيليين من منزلق أوضاع غزة الداخلية وأفخاخها. وقال دايان "دعونا لا نلقِ اللوم اليوم على القتلة. فعلى مدى السنوات الثماني الماضية، أقاموا في مخيمات اللاجئين في غزة، وشاهدونا بأم العين نحوّل أراضيهم وقراهم، حيث كانوا يعيشون مع آبائهم وأجدادهم في السابق، إلى وطن لنا".
وهكذا، أصبح القضاء على وجود الفدائيين في غزة أولوية بن غوريون ودايان الملحة. وفي نوفمبر 1956، سيطر الجيش الإسرائيلي على القطاع كجزء من هجوم منسق مع فرنسا والمملكة المتحدة ضد مصر الناصرية. وطوال أربعة أشهر من الاحتلال، قتلت القوات الإسرائيلية حوالى ألف فلسطيني (ارتكبت مجزرتين وثقتهما "الأونروا" أُعدم فيهما 275 شخصاً على الأقل في خان يونس و111 في رفح). وكانت الصدمة شديدة لدرجة أنه عندما انسحب الإسرائيليون، بضغط من الولايات المتحدة، طالب السكان الفلسطينيون بعودة الحكم المصري، عوض وصاية الأمم المتحدة المقترحة في البداية. وهكذا ضاعت فرصة تاريخية لبناء كيان فلسطيني يمكن أن يتطور إلى دولة. وفي هذه الأثناء، فر الفدائيون إلى الكويت، حيث أسسوا عام 1959 حركة التحرير الوطني الفلسطيني، المعروفة باسم "فتح"، بقيادة ياسر عرفات.
وبدأ الاحتلال الإسرائيلي الثاني لغزة في يونيو (حزيران) 1967، بعد الانتصار الإسرائيلي في حرب الأيام الستة، وعمل كل من دايان، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع آنذاك، وإسحاق رابين، رئيس أركانه الذي أصبح في ما بعد رئيساً للوزراء، على محو أي أثر للحدود بين غزة وإسرائيل، مراهنين على جاذبية سوق العمل الإسرائيلية وقضائها على الوطنية الفلسطينية. ولكن السكان المحليين أيدوا حرب عصابات منخفضة العنف طوال أربع سنوات، إلى أن قام أرييل شارون، القائد الإسرائيلي للمنطقة (الذي أصبح بدوره في ما بعد رئيساً للوزراء)، بهدم أجزاء من مخيمات اللاجئين بالجرافات، فوضع حداً للتمرد. واليوم يستخدم الجيش الإسرائيلي الخريطة التي استخدمها شارون للتمييز بين ما يسمى "المناطق الآمنة" ومناطق القتال في الهجوم المستمر.
خلق الوحش المرعب
ومنذ مدة طويلة، أدرك قادة إسرائيل الأكثر بصيرةً أن مشكلة اللاجئين في غزة لن تنتهي. وفي عام 1974، بعد بن غوريون، اقترح شارون إعادة توطين عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في إسرائيل لمعالجة المظالم الفلسطينية، رمزياً. ولكن مرة أخرى، رُفضت الفكرة. وعوض ذلك، شرعت إسرائيل في تأليب "الإخوان المسلمين" في غزة، بزعامة الشيخ [أحمد] ياسين، ضد الوطنيين الذين شكلوا تياراً رئيساً داخل منظمة التحرير الفلسطينية، ومشوا تحت لواء "فتح" في ذلك الوقت. ويذكر أن الحاكم العسكري الإسرائيلي حضر تدشين مسجد لياسين [في المجمع الإسلامي] في غزة عام 1973. وبعد ست سنوات، سمحت إسرائيل للإسلاميين بتلقي أموال أجنبية بينما قمعت أي علاقة بمنظمة التحرير الفلسطينية.
ولبعض الوقت، بدا أن سياسة "فرّق تسد" عادت على إسرائيل في غزة بالنفع، إذ اندلعت اشتباكات بين الوطنيين والإسلاميين في عام 1980. ولكن مع أواخر الثمانينيات، كان جيل كامل في غزة شب وعانى من المستوطنين الإسرائيليين الذين، على رغم عددهم الذي لم يتجاوز بضعة آلاف، جروا الجيش المحتل إلى السيطرة على ربع القطاع الذي يعاني، أصلاً، من اكتظاظ سكاني، ومنعوا وصول الغزاويين إلى ذلك الجزء. وبدأت الانتفاضة الأولى، في ديسمبر 1987، في مخيم جباليا للاجئين في غزة. وسرعان ما انتقلت إلى القطاع كله، ثم إلى الضفة الغربية. وتحدى الشباب الفلسطيني الجيش الإسرائيلي بالحجارة والمقاليع، لكنهم قسروا عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية أيضاً على تأييد حل الدولتين. ورداً على ذلك، حوّل ياسين منظمته إلى "حماس" (وهو يجمع الحروف الأولى من "حركة المقاومة الإسلامية") متهماً منظمة التحرير الفلسطينية بخيانة الواجب "المقدس" "تحرير فلسطين". ومرة أخرى، استغلت الاستخبارات الإسرائيلية هذه التجاذبات لإضعاف الانتفاضة، وانتظرت مايو (أيار) 1989 لتسجن ياسين. ولكن الانتفاضة الشعبية استمرت إلى أن أوصل الرأي العام الإسرائيلي المؤيد للسلام رابين إلى منصب رئيس الوزراء، في يوليو (تموز) 1992.
فأجرى رابين محادثات سرية مع منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت أولويته هي انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، مع الاستمرار في حماية المستوطنين الإسرائيليين هناك. وفي ذلك الإطار، أنشأت اتفاقيات أوسلو، التي وُقّعت في سبتمبر (أيلول) 1993، سلطة فلسطينية ولّتها مسؤولية الأراضي التي تخليها إسرائيل. وانتقل عرفات إلى غزة، بعد عشرة أشهر، وهو يظن أن الفضل في تحرير القطاع، أو على الأقل الجزء الخاضع للسيطرة الفلسطينية، يعود إليه شخصياً، بينما كان السكان المحليون على قناعة بأنهم قدموا تضحيات كبيرة لقاء هذا التحرير. وصب سوء التفاهم هذا، إلى الفساد المستشري في السلطة الفلسطينية، في مصلحة "حماس" مباشرة. وفي عام 1997، أدت عملية استخباراتية إسرائيلية فاشلة ضد رئيس "حماس"، خالد مشعل في الأردن، إلى اعتقال عملاء إسرائيليين. وفي سبيل إطلاق سراحهم، اضطر رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إلى إطلاق سراح ياسين، الذي كان يقضي حكماً بالسجن المؤبد في إسرائيل، فعاد إلى غزة منتصراً.
وكانت عدوانية "حماس" المتنامية، وأزمة عملية السلام، سبباً في اندلاع الانتفاضة الثانية في سبتمبر 2000. وساعدت الموجة الحادة من الهجمات الانتحارية في وصول شارون إلى السلطة، بعد فوز ساحق في فبراير 2001. وبعد حصار عرفات في رام الله، واغتيال ياسين في غزة، اعتقد شارون أن انتصاره لن يكتمل إلا بعد الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة. وكان الهدف من الانسحاب الأحادي تأمين خط دفاع إسرائيلي جديد حول القطاع. ونُفّذت العملية من غير تشاور مع محمود عباس، الذي خلف عرفات في رئاستي منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. إلا أن مخاطرة شارون أفسدت الخطة الطموحة التي وضعها جيمس ولفنسون، الموفد الخاص للجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط (روسيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة)، وهي خطة رمت إلى تنمية غزة، وبلغت تكلفتها ثلاثة مليارات دولار.
وكان من الطبيعي أن تزعم "حماس" أن الانسحاب الإسرائيلي هو في مثابة انتصار لها. وفازت في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في رعاية دولية بعد بضعة أشهر، في يناير 2006. هذه النتيجة غير المتوقعة أحرجت الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، فقررت مقاطعة "حماس" إلى أن تعترف الحركة بإسرائيل وتتخلى عن العنف. ولكن مع العام التالي، تمكنت "حماس"، من دون إجراء أي إصلاح أو تغيير، وبعد أن قتلت المئات من منافسيها، من فرض سيطرة كاملة على القطاع، الذي ضُرب عليه حصار إسرائيلي كامل (بالتعاون مع مصر، التي تسيطر على معبر رفح في الجنوب). ومن وجوه كثيرة، كانت السياسات الإسرائيلية سبباً في وصول "حماس" إلى السلطة في غزة. ولم يؤد الحصار، منذ ذلك الحين، إلا إلى تعزيز قوتها ونفوذها.
طريق نحو السلام
إن الحرب الحالية بين إسرائيل و "حماس" يعود سببها إلى السياسات المتبعة منذ عام 2006، وهي كذلك نتيجة إنكار هوية غزة الغنية تاريخياً. ففي أثناء الأعوام الستة عشرة الماضية، تصور القادة الإسرائيليون أنهم توصلوا إلى الصيغة المثالية لتهميش غزة تهميشاً تاماً، فاستُبعد أكثر من مليوني فلسطيني من المعادلة الديموغرافية بين السكان اليهود والعرب في إسرائيل، والقدس الشرقية، والضفة الغربية. وقاومت السلطة الفلسطينية، التي أعماها نزاعها المرير مع "حماس"، أي محاولة لتقليص الحصار على غزة. وأدّى ذلك إلى تقويض شرعية السلطة الفلسطينية، الضامرة أصلاً. وفي الوقت نفسه، قضى انقسام القيادة الفلسطينية على أي جهد لإحياء عملية السلام، وسمح للمستوطنات الإسرائيلية بالتوسع على نحو مطرد في الضفة الغربية.
ومن وقت لآخر، كانت إسرائيل تنخرط في ما وصفه خبراء مكافحة الإرهاب بحروب "جز العشب" على غزة، وحافظت على ما اعتبرته، من وجهة نظرها، نسبة مقبولة من الخسائر العسكرية التي تتكبدها في الغالب، على رغم أن الضحايا الفلسطينيين كان معظمهم من المدنيين. وفي عام 2009، قُتل 13 جندياً إسرائيلياً، مقابل 1417 فلسطينياً. وفي عام 2012، قتل ستة إسرائيليين مقابل 166 فلسطينياً. وفي عام 2014، بلغ عدد الضحايا 72 إسرائيلياً مقابل 2251 فلسطينياً. وفي عام 2021، 15 مقابل 256. وفي الوقت نفسه، كان الاتحاد الأوروبي ودول الخليج دائماً على استعداد لدفع تكاليف إعادة إعمار القطاع المدمّر.
ولكن التغاضي عن الواقع والظروف الإنسانية المؤلمة في غزة كان مجرد وهم. وفي 7 أكتوبر 2023، انهار الوضع القائم بعد موجة القتل المروعة التي ارتكبتها "حماس". وفي المقابل، كان العنف غير المسبوق الذي أصلته إسرائيل على غزة منذ ذلك الحين، وأسفر عن مقتل أكثر من 21 ألف فلسطيني إلى اليوم وشرّد الغالبية العظمى من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة من بيوتهم، فأعاد إلى الذاكرة صوراً قاسية من "النكبة الفلسطينية"- (كان) صدمة قوية هزّت الشرق الأوسط وسائر دول العالم. والحق أن هدف نتنياهو المعلن من الحرب، أي "القضاء على حماس"، يشبه في بعض الوجوه هدف بن غوريون في عام 1956. ولكن، هذه المرة، على نطاق أوسع كثيراً، وعلى مرأى العالم بأسره. ولو افترضنا أن من الممكن تحقيق مثل هذا الهدف، فلن يكون "عبد الناصر" موجوداً لفرض النظام في القطاع بعد الانسحاب الإسرائيلي. لذا، يبدو أن مصير إسرائيل هو أن يطاردها "قطاع غزة" نفسه الذي أنشأته في عام 1948، مع دوام دورة الحروب والاحتلال التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من التطرف الفلسطيني.
ولكي ينعم الإسرائيليون والفلسطينيون، في نهاية المطاف، بالسلام والأمن اللذين يستحقونهما بشدة، يتعين على غزة أن تعود مرة أخرى إلى جذورها، إلى مكانتها، المفترق المزدهر، وهي مكانة حظيت بها على مدى قرون من الزمن. وفي البداية، يجب وضع حد لسياسة الحصار والإغلاق، وإتاحة الفرصة للقطاع، في نهاية المطاف، للتواصل مجدداً مع بقية المنطقة. وفي الوقت نفسه، من أجل الاستفادة من الدور التاريخي الذي تؤديه غزة باعتبارها مركزاً تجارياً رئيساً، لا بد من وضع استراتيجية منسقة لإعادة التنمية، على غرار خطة ولفنسون في العام 2005، الرامية إلى تحويل غزة من الاعتماد على المساعدات الدولية إلى تعزيز اقتصاد قائم على الاكتفاء الذاتي. وهذا هو المفتاح لتحويل القطاع إلى منطقة منزوعة السلاح تحت إشراف دولي وفي إطار حل الدولتين.
ولا شك في أنه من بالغ الصعوبة تنفيذ أي إجراء من هذه الإجراءات، وخصوصاً بعد حرب قاسية تنذر بنشوء جيل جديد من المقاتلين الفلسطينيين. ولكن في غياب حلول سهلة، قد تكون هذه الاستراتيجية هي السبيل الوحيد للخروج من دوامة القتل الحالية. ومن المهم أن ندرك أن غزة، مثلما كانت على مدى قرون من الزمن، ليست مجرد جزء محوري في حرب كبيرة فحسب، بل هي مفتاح تعزيز السلام والازدهار في الشرق الأوسط كذلك.
اضف تعليق