آراء وافكار - وجهات نظر

على أميركا ألا تتخلى عن العالم الذي صنعته

القوة العظمى تخسر ثقتها بنفسها

تبقى الولايات المتحدة في موقع قيادي مقارنة بمنافسيها الرئيسين، بيد أنها تواجه مشهداً دولياً مختلفاً تماماً، اكتسبت فيه قوى عالمية كثيرة مزيداً من القوة والثقة، ولن تمتثل بخنوع للتوجيهات الأميركية. بعض منها يسعى بنشاط إلى تحدي هيمنة الولايات المتحدة والنظام المتمحور حولها والمتماشي مع نفوذها. وفي هذه الظروف...
بقلم: فريد زكريا

الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة المبنية على افتراضات خاطئة ستقود البلاد والعالم إلى الضلال

(مات تشايس)

يعتقد معظم الأميركيين بأن بلادهم في حال تدهور. ضمن استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث عام 2018 عن توقعات الأميركيين لأداء بلادهم في 2050، أشار 54 في المئة من المشاركين إلى اعتقادهم بأن الاقتصاد الأميركي سيكون أضعف، واعتبرت نسبة أكبر، تبلغ 60 في المئة، أن أهمية الولايات المتحدة ستتضاءل على المستوى العلمي. وهذا ليس مستغرباً، فالجو السياسي ساده منذ بعض الوقت شعور بأن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ. ووفق استطلاع طويل الأمد نظمته مؤسسة "غالوب"، فإن نسبة الأميركيين "الراضين" عن طريقة سير الأمور لم تتجاوز 50 في المئة منذ 20 عاماً، وهي تبلغ حالياً 20 في المئة.

على مدى عقود عدة من الزمن، كانت إحدى الطرق المستخدمة للتنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية، هي التساؤل من هو المرشح الذي يُظهر موقفاً أكثر تفاؤلاً؟ ومن جون كينيدي إلى رونالد ريغان إلى باراك أوباما، بدا أن النظرة الأكثر إشراقاً هي التذكرة الرابحة. لكن عام 2016، انتخبت الولايات المتحدة رجلاً سياسياً كانت حملته الانتخابية مبنية على التشاؤم والكآبة. في الواقع، أكد دونالد ترمب أن الاقتصاد الأميركي كان في "وضع يرثى له" وأن الولايات المتحدة "تعرضت لقلة الاحترام والسخرية والسرقة" في الخارج وأن العالم "في حال من الفوضى التامة". وتحدث في خطاب تنصيبه عن "المذبحة الأميركية". ويذكر أن حملته الحالية تعيد طرح هذه المواضيع الأساسية، وقبل ثلاثة أشهر من إعلان ترشحه، أطلق فيديو بعنوان "أمة في حال تراجع".

في المقابل، كانت حملة جو بايدن الرئاسية لعام 2020 أكثر تقليدية بكثير. فغالباً ما كان يمجد فضائل الولايات المتحدة، وكثيراً ما كان يردد تلك العبارة المألوفة "أفضل أيامنا لا تزال أمامنا". ومع ذلك، فإن جزءاً كبيراً من استراتيجيته في الحكم كان مبنياً على فكرة أن البلاد تتبع مساراً خاطئاً، حتى في عهد الرؤساء الديمقراطيين، بما في ذلك خلال إدارة أوباما وبايدن [كان بايدن يشغل منصب نائب الرئيس آنذاك]. في أبريل (نيسان) 2023، وفي خطاب ألقاه جيك سوليفان، مستشار بايدن للأمن القومي، انتقد "قسماً كبيراً من السياسة الاقتصادية الدولية المتبعة خلال العقود الأخيرة"، وألقى باللوم على العولمة وتحرير الاقتصاد في استنزاف القاعدة الصناعية للبلاد وتوريد الوظائف الأميركية إلى الخارج وإضعاف بعض الصناعات الأساسية. وفي وقت لاحق أعرب في صفحات "فورين أفيرز"، عن قلقه من أنه "على رغم تربع الولايات المتحدة على عرش القوة الضاربة في العالم، بدأت بعض مواضع قوتها الحيوية تضمحل". وهذا نقد مألوف لعصر الليبرالية الجديدة الذي ازدهرت فيه قلة مختارة، فيما تخلفت جهات كثيرة عن الركب.

لكن الأمر يستلزم أكثر من مجرد نقد بسيط. تسعى سياسات عدة تنتهجها إدارة بايدن إلى معالجة التدهور الواضح الذي تواجهه الولايات المتحدة، وتعزيز المنطق القائل إن صناعاتها وشعبها بحاجة إلى الحماية والمساعدة من خلال التعريفات الجمركية والإعانات وأنواع أخرى من الدعم. وجزئياً، ربما يكون هذا النهج بمثابة استجابة سياسية لواقع أن بعض الأميركيين متخلفون عن الركب ويعيشون في ولايات متأرجحة حاسمة، مما يجعل من المهم استمالتهم والحصول على أصواتهم. لكن الحلول تتجاوز المواقف السياسية السطحية [التصريحات والمقترحات السياسية السطحية المصممة لجذب الناخبين وتلبية تفضيلات جمهور معين]، وهي بالأحرى عميقة وذات مغزى. في الوقت الحالي، تفرض الولايات المتحدة أعلى تعريفات جمركية على الواردات منذ قانون سموت-هاولي لعام 1930. وأصبحت السياسات الاقتصادية التي تنتهجها واشنطن دفاعية بصورة متزايدة، ومصممة لحماية دولة يُنظر إليها على أنها عانت خسائر خلال العقود الأخيرة.

واستطراداً، فإن الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة المبنية على افتراضات خاطئة ستقود البلاد والعالم إلى الضلال. ووفق معايير وتقييمات مختلفة، تبقى الولايات المتحدة في موقع قيادي مقارنة بمنافسيها الرئيسين، بيد أنها تواجه مشهداً دولياً مختلفاً تماماً، اكتسبت فيه قوى عالمية كثيرة مزيداً من القوة والثقة، ولن تمتثل بخنوع للتوجيهات الأميركية. بعض منها يسعى بنشاط إلى تحدي هيمنة الولايات المتحدة والنظام المتمحور حولها والمتماشي مع نفوذها. وفي هذه الظروف الجديدة، تحتاج واشنطن إلى استراتيجية جديدة، تعترف بأن الولايات المتحدة ما زالت قوة هائلة لكنها تبحر اليوم في عالم أكثر تقلباً واضطراباً. إذاً، فالتحدي الذي يواجه واشنطن هو أن تكون استباقية وتتحرك بسرعة بينما تحافظ على رباطة جأشها عند مواجهة الصعوبات. ولكن في الوقت الحاضر، يسود فيها جو من الذعر وعدم الثقة بالنفس.

دائماً في الصدارة

على رغم كل الحديث عن القصور والانحلال الأميركيَين، فإن الواقع مختلف تماماً، خصوصاً بالمقارنة مع دول ثرية أخرى. عام 1990، كان نصيب الفرد من الدخل في الولايات المتحدة (إذا قيس بحسب القدرة الشرائية) أعلى بنسبة 17 في المئة من نصيب الفرد في اليابان، وبنسبة 24 في المئة من ذاك المسجل في أوروبا الغربية، أما اليوم فأصبح أعلى بنسبة 54 في المئة من نصيب الفرد في اليابان وبنسبة 32 في المئة من نصيب الفرد في أوروبا الغربية. وعام 2008، بحسب الأسعار السائدة، كان حجم الاقتصاد الأميركي وحجم اقتصاد منطقة اليورو متساويين تقريباً. وحالياً، يبلغ حجم الاقتصاد الأميركي ضعف حجم اقتصاد منطقة اليورو تقريباً. من الممكن ربما طرح سؤال على أولئك الذين يلقون باللوم على سياسات واشنطن باعتبارها السبب في عقود من الركود الأميركي: أي اقتصاد متقدم كانت الولايات المتحدة ترغب في تبادل الأماكن معه على مدى الأعوام الـ30 الماضية؟

من حيث القوة الصلبة، فإن البلاد أيضاً في وضع استثنائي. يرى المؤرخ الاقتصادي آنغوس ماديسون أن القوة الأعظم في العالم هي في كثير من الأحيان القوة التي تحتل الصدارة في أهم العلوم التقنية السائدة في تلك الفترة، مثل هولندا في القرن الـ17، والمملكة المتحدة في القرن الـ19، والولايات المتحدة في القرن الـ20. وربما تكون أميركا في القرن الـ21 أقوى مما كانت عليه في القرن الـ20. دعونا نقارن وضعها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، على سبيل المثال، مع وضعها اليوم. آنذاك، كان يمكن العثور على شركات التكنولوجيا الرائدة، على غرار الشركات المصنعة للإلكترونيات الاستهلاكية والسيارات وأجهزة الكمبيوتر، في الولايات المتحدة ولكن أيضاً في ألمانيا واليابان وهولندا وكوريا الجنوبية. في الواقع، من بين الشركات الـ10ـ الأكثر قيمة في العالم عام 1989، كانت هناك أربع شركات أميركية فقط، والست الأخرى يابانية. أما اليوم، فتسع من الشركات الـ10 الأوائل هي أميركية.

علاوةً على ذلك، تمتلك شركات التكنولوجيا الـ10 الأكبر في الولايات المتحدة قيمة سوقية إجمالية تفوق قيمة أسواق الأسهم في كندا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة مجتمعة. وإذا كانت الولايات المتحدة تهيمن بصورة كاملة على تكنولوجيات الحاضر التي تتمحور حول الرقمنة والإنترنت، فمن المتوقع أيضاً أن تنجح في صناعات المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الحيوية. عام 2023، حتى لحظة كتابة هذه السطور، اجتذبت الولايات المتحدة 26 مليار دولار من رأس المال المغامر [الاستثماري] لشركات الذكاء الاصطناعي الناشئة، أي حوالى ستة أضعاف ما اجتذبته الصين، ثاني أكبر مستفيد في هذا المجال بعد أميركا. وفي مجال التكنولوجيا الحيوية، تستحوذ أميركا الشمالية على 38 في المئة من الإيرادات العالمية في حين تستأثر آسيا بأكملها بنسبة 24 في المئة.

،، من بين الشركات الـ10 الأكثر قيمة في العالم هناك تسع شركات أميركية،،

إضافة إلى ذلك، تحتل الولايات المتحدة موقع الصدارة في مجال الطاقة الذي اعتُبر تاريخياً سمة أساسية من سمات قوة أي دولة. اليوم، هي أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، حتى إنها تنتج أكثر من روسيا أو السعودية. وتعمل الولايات المتحدة أيضاً على توسيع إنتاج الطاقة الخضراء بصورة كبيرة، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى الحوافز الواردة في "قانون الحد من التضخم" لعام 2022. أما في مجال الشؤون المالية، فما عليكم سوى الاطلاع على قائمة البنوك التي صنفها مجلس الاستقرار المالي، وهو هيئة رقابية مقرها سويسرا، على أنها "ذات أهمية في النظام العالمي"، فالولايات المتحدة لديها ضعف عدد هذه البنوك مقارنة بالدولة التي تليها وهي الصين. وما زال الدولار هو العملة المستخدمة في ما يقارب 90 في المئة من التعاملات الدولية. وعلى رغم انخفاض احتياطات البنوك المركزية من الدولار خلال الأعوام الـ20 الماضية، إلا أنه ليست هناك أية عملة أخرى تقترب من أن تكون منافسة له.

وأخيراً، إذا كانت الديموغرافيا هي التي تحدد المصير، فالولايات المتحدة ينتظرها مستقبل مشرق. فهي وحدها من بين اقتصادات العالم المتقدمة، تتمتع بملامح ديموغرافية سليمة إلى حد معقول، حتى إن تدهورت خلال الأعوام الأخيرة. يبلغ معدل الخصوبة في الولايات المتحدة الآن حوالى 1.7 طفل لكل امرأة، أي أقل من مستوى الإحلال البالغ 2.1. ولكن هذا يقارَن بصورة إيجابية بمعدل الخصوبة البالغ 1.5 في ألمانيا و1.1 في الصين و0.8 في كوريا الجنوبية. والأهم من ذلك أن الولايات المتحدة تعوض انخفاض معدل الخصوبة لديها من خلال الهجرة والاندماج الناجح للمهاجرين. في الواقع، تستقبل البلاد حوالى مليون مهاجر قانوني كل عام، وهو رقم تراجع خلال أعوام ترمب وجائحة كورونا ولكنه انتعش بعد ذلك. واستكمالاً، فإن واحداً من بين كل خمسة أشخاص على وجه الأرض غادروا مسقط رأسهم، يعيش في الولايات المتحدة، ويبلغ عدد سكانها المهاجرين ما يقارب أربعة أضعاف عددهم في ألمانيا، ثاني أكبر مركز لاستقطاب المهاجرين. ولهذا السبب، فيما من المتوقع أن تشهد الصين واليابان وأوروبا انخفاضاً سكانياً خلال العقود المقبلة، من المفترض أن تستمر الولايات المتحدة في النمو.

ولا شك في أن الولايات المتحدة تواجه مجموعة من التحديات الخاصة بها، ولكن أليست هذه حال جميع الدول؟ بيد أن واشنطن تمتلك الموارد اللازمة لحل هذه المشكلات بسهولة أكبر بكثير من معظم الدول الأخرى. على سبيل المثال، أثبت معدل الخصوبة المنخفض في الصين، الناجم عن تبني سياسة الطفل الواحد، أن نتائجه لا رجعة فيها وغير قابلة للإصلاح على رغم الحوافز الحكومية بجميع أنواعها. وبما أن الحكومة تريد الحفاظ على ثقافة أحادية متآلفة، فإن البلاد لن تستقبل المهاجرين في سبيل التعويض. في المقابل، إن نقاط الضعف في الولايات المتحدة غالباً ما تأتي مع حلول جاهزة قابلة للتطبيق. صحيح أن البلاد تعاني عبء ديون مرتفعاً وعجزاً متزايداً، بيد أن إجمالي العبء الضريبي الذي تتحمله منخفض مقارنةً بأعباء الدول الغنية الأخرى. ويمكن للحكومة الأميركية جمع ما يكفي من الإيرادات لتحقيق الاستقرار في مواردها المالية والحفاظ على معدلات ضريبية متدنية نسبياً. وتتمثل إحدى الخطوات السهلة في تبني ضريبة القيمة المضافة. في الحقيقة، هذه الضريبة مطبقة بشكل من الأشكال في جميع الاقتصادات الكبرى الأخرى على مستوى العالم، وغالباً ما تصل معدلاتها إلى حوالى 20 في المئة. تشير تقديرات "مكتب الموازنة في الكونغرس" إلى أن فرض ضريبة قيمة مضافة بنسبة خمسة في المئة من الممكن أن يولد إيرادات تبلغ 3 تريليونات دولار على مدى 10 أعوام، ومن الواضح أن فرض نسبة أعلى من شأنه أن يولد إيرادات أكبر. وهذا ليس مؤشراً على خلل هيكلي لا رجعة فيه سيؤدي حتماً إلى الانهيار.

بين العوالم

على رغم قوتها، لا تهيمن الولايات المتحدة على عالم أحادي القطب. شهدت فترة التسعينيات من القرن الـ20 عالماً خالياً من المنافسين الجيوسياسيين. كان الاتحاد السوفياتي ينهار (وسرعان ما بدأت خليفته روسيا تترنح وتواجه تحديات)، وكانت الصين لا تزال في بداية صعودها على الساحة الدولية، وأسهمت آنذاك في أقل من اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. دعونا نتأمل في تلك الحقبة ما الذي تمكنت واشنطن من إنجازه. من أجل تحرير الكويت، خاضت حرباً ضد العراق بدعم دولي واسع النطاق، بما في ذلك موافقة دبلوماسية من موسكو. وأنهت الحروب اليوغوسلافية. علاوة على ذلك، نجحت في إقناع منظمة التحرير الفلسطينية بشجب الإرهاب والاعتراف بإسرائيل، وأقنعت رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بعقد السلام ومصافحة زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في حديقة البيت الأبيض. وعام 1994، بدت كوريا الشمالية حتى مستعدة للموافقة على الإطار الأميركي وإنهاء برنامجها للأسلحة النووية (بيد أن ذلك التعاون الودي كان موقفاً موقتاً سرعان ما تراجعت كوريا الشمالية عنه). وعندما ضربت الأزمات المالية المكسيك عام 1994 ودول شرق آسيا في 1997، أنقذت الولايات المتحدة الموقف من خلال تنظيم إعانات ضخمة. كانت كل الطرق تؤدي إلى واشنطن.

واليوم، تواجه الولايات المتحدة عالماً فيه منافسون حقيقيون ودول متعددة تؤكد بقوة على مصالحها، وغالباً ما يكون ذلك في معارضة مباشرة لواشنطن وتحدٍّ لرغباتها. ومن أجل فهم الديناميكية الجديدة، دعونا لا ننظر إلى روسيا أو الصين، بل إلى تركيا. قبل 30 عاماً، كانت تركيا حليفاً مطيعاً للولايات المتحدة، وتعتمد على واشنطن في أمنها وازدهارها. كلما مرت تركيا بإحدى أزماتها الاقتصادية الدورية، ساعدت الولايات المتحدة في إنقاذها. واليوم أصبحت تركيا دولة أكثر ثراءً وأكثر نضجاً من الناحية السياسية بقيادة الزعيم القوي والمحبوب والشعبوي رجب طيب أردوغان. وهي تتحدى الولايات المتحدة بصورة روتينية، حتى في الطلبات المهمة التي يقدمها كبار المسؤولين الذين يحتلون مستويات عليا في السلطة.

لم تكن واشنطن مستعدة لهذا التحول. عام 2003، خططت الولايات المتحدة لغزو العراق على جبهتين، من الكويت في الجنوب ومن تركيا في الشمال، لكنها فشلت في تأمين دعم تركيا بصورة استباقية، إذ افترضت أنها ستكون قادرة على نيل موافقة ذلك البلد كما كانت تفعل دائماً. ولكن في الواقع، خلافاً للتوقعات، عندما قدم البنتاغون الطلب، رفضه البرلمان التركي، فكان لا بد من المضي في غزو متسرع وسيئ التخطيط، أسهم ربما في تدهور الأمور لاحقاً. وعام 2017، وقعت تركيا صفقة لشراء نظام صاروخي من روسيا، وهي خطوة وقحة من جانب أحد أعضاء "الناتو". وبعد ذلك بعامين، استهزأت تركيا مرة أخرى بالولايات المتحدة وتحدتها من خلال مهاجمة القوات الكردية في سوريا، حلفاء واشنطن الذين كانوا ساعدوا في هزيمة تنظيم "داعش" هناك.

واستكمالاً، يتناقش الباحثون حول ما إذا كان العالم حالياً أحادي القطب، أو ثنائي القطبية، أو متعدد الأقطاب، ويمكن استخدام مقاييس ومعايير مختلفة لإثبات كل منظور. في الواقع، تبقى الولايات المتحدة الدولة الأقوى على الإطلاق عند تقييم كل معايير القوة الصارمة. على سبيل المثال، لديها 11 حاملة طائرات عاملة، في مقابل حاملتي طائرات اثنتين في الصين. ولكن عند مراقبة دول مثل الهند والسعودية وتركيا وهي تستعرض قوتها، يصبح من السهل تصور عالم متعدد الأقطاب. ومع ذلك من الواضح أن الصين هي ثاني أكبر قوة، وهناك فجوة كبيرة تفصل بين القوتين الرائدتين وبقية العالم، إذ إن قوة الصين الاقتصادية ونفقاتها العسكرية تفوق القدرات الاقتصادية والعسكرية الخاصة بالدول الثلاث التي تليها مجتمعة. هذا التفاوت بين أكبر قوتين من جهة وكل القوى الأخرى من جهة أخرى هو المبدأ الذي دفع الباحث هانز مورغنثاو إلى الترويج لمصطلح "الثنائية القطبية" بعد الحرب العالمية الثانية. وقال إنه مع انهيار القوة الاقتصادية والعسكرية البريطانية، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي متقدمين بأشواط على كل الدول الأخرى. وبتطبيق منطق مماثل على يومنا هذا، يمكن الاستنتاج أن العالم أصبح ثنائي القطبية مرة أخرى.

لكن قوة الصين لها حدود أيضاً، والقيود التي تواجهها لا تقتصر على العوامل الديموغرافية. لدى بكين حليف رسمي واحد وهو كوريا الشمالية، وبعض الحلفاء غير الرسميين مثل روسيا وباكستان. في المقابل، تملك الولايات المتحدة عشرات الحلفاء. وفي الشرق الأوسط، ليست الصين نشيطة جداً على رغم النجاح الذي حققته أخيراً في رعاية عملية استئناف العلاقات بين إيران والسعودية. وفي آسيا، تتمتع الصين بحضور اقتصادي كبير ولكنها تواجه أيضاً مقاومة مستمرة من دول مثل أستراليا والهند واليابان وكوريا الجنوبية. وخلال الأعوام الأخيرة، أصبحت الدول الغربية قلقة من قوة الصين المتنامية في مجال التكنولوجيا والاقتصاد، مما دفعها إلى اتخاذ تدابير للحد من فرص بكين في هذا المجال.

هذا المثال عن الصين يساعد في توضيح الفرق بين القوة والنفوذ. فالقوة تشمل الموارد الملموسة، الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية. أما النفوذ، فهو مفهوم أكثر تجريداً وأقل وضوحاً بطبيعته. إنه القدرة على حث دولة ما على فعل شيء ما كانت لتفعله بطريقة أخرى. وبتعبير أكثر بساطة وصراحة، فهذا يعني تحويل مسار سياسات دولة أخرى بما يتماشى مع مصالحك. وفي نهاية المطاف الهدف من القوة هو القدرة على تحويلها إلى نفوذ. وانطلاقاً من هذا المعيار، تواجه كل من الولايات المتحدة والصين عالماً من القيود.

في المقابل، شهدت بلدان أخرى تقدماً من حيث الموارد، مما أدى إلى تعزيز ثقتها بنفسها وفخرها وقوميتها. لذا، فمن المرجح أن تفرض نفسها بقوة أكبر على المسرح العالمي. لا ينطبق هذا على الدول الصغيرة المجاورة للصين فحسب، بل أيضاً على عدد كبير من الدول التي ظلت لفترة طويلة تابعة للولايات المتحدة. كذلك، ظهرت فئة جديدة من القوى المتوسطة مثل البرازيل والهند وإندونيسيا التي تبحث عن استراتيجيات مميزة خاصة بها. وفي عهد رئيس الوزراء ناريندرا مودي، اتبعت الهند سياسة "تعدد التحالفات"، فاختارت متى وأين تنحاز إلى روسيا أو الولايات المتحدة. وفي مجموعة "بريكس"، انضمت إلى الصين، مع أنها الدولة التي خاضت معها مناوشات حدودية مميتة أخيراً عام 2020.

في مقالة نشرها العالم السياسي صامويل هنتنغتون عام 1999 في هذه الصفحات [فورين أفيرز] بعنوان "القوة العظمى الوحيدة"، حاول أن ينظر إلى ما هو أبعد من الأحادية القطبية وأن يصف النظام العالمي الناشئ. كان المصطلح الذي توصل إليه هو "أحادي متعدد الأقطاب"، وعلى رغم صياغته الغريبة، إلا أنه جسد حقيقة جوهرية وواقعية. عام 2008، عندما كنت أحاول وصف الواقع الناشئ، أطلقت عليه اسم "عالم ما بعد أميركا"، إذ خطر في بالي أن السمة الأكثر بروزاً هي أن الجميع كانوا يحاولون التأقلم مع عالم بدأت فيه الأحادية القطبية الأميركية بالتلاشي. وما زال يبدو أن هذه هي الطريقة الفضلى لوصف النظام الدولي.

الفوضى الجديدة

دعونا ننظر في الأزمتين الدوليتين الكبيرتين الواقعتين اليوم، غزو أوكرانيا والحرب بين إسرائيل وحركة "حماس". في ذهن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تعرضت بلاده للإذلال خلال عصر الأحادية القطبية. ومنذ ذلك الحين، نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة بصورة أساسية، تمكنت روسيا من العودة إلى المسرح العالمي كقوة عظمى. لقد أعاد بوتين بناء قوة الدولة الروسية التي أصبحت قادرة على الحصول على العائدات من مواردها الطبيعية الكثيرة. وهو الآن يريد التراجع عن التنازلات التي قدمتها موسكو خلال حقبة الأحادية القطبية، عندما كانت ضعيفة. وفي الواقع، تسعى موسكو إلى استعادة تلك الأجزاء من الإمبراطورية الروسية التي تعتبر مركزية في رؤية بوتين لروسيا العظيمة، أوكرانيا أولاً وفوق كل اعتبار، ولكن أيضاً جورجيا التي تعرضت لغزو روسي عام 2008. وربما تكون مولدوفا، حيث تمتلك روسيا بالفعل موطئ قدم في جمهورية ترانسنيستريا الانفصالية، هي التالية.

استند عدوان بوتين في أوكرانيا إلى فكرة مفادها بأن الولايات المتحدة بدأت تفقد اهتمامها بحلفائها الأوروبيين وأنهم ضعفاء ومنقسمون ومعتمدون على الطاقة الروسية. فاستحوذ على شبه جزيرة القرم والأراضي الحدودية في شرق أوكرانيا عام 2014، ثم، بعد إنهاء العمل على خط أنابيب "نورد ستريم 2" الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، قرر مهاجمة أوكرانيا بصورة مباشرة. كان يأمل في احتلال البلاد، وبذلك التعافي من أكبر انتكاسة تعرضت لها روسيا في عصر الأحادية القطبية. أخطأ بوتين في حساباته، لكن مهاجمته لأوكرانيا بصورة مباشرة لم تكن خطوة مجنونة، إذ إن هجماته السابقة قوبلت بمقاومة ضئيلة.

في الشرق الأوسط، تَشكلَ المناخ الجيوسياسي بناء على رغبة واشنطن الثابتة في الانسحاب عسكرياً من المنطقة على مدى الأعوام الـ15 الماضية. بدأت هذه السياسة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش الذي كُسرت شوكته بسبب الفشل الذريع في الحرب التي شنها في العراق. واستمرت في عهد الرئيس باراك أوباما الذي أوضح الحاجة إلى تقليص حضور الولايات المتحدة في المنطقة حتى تتمكن واشنطن من التعامل مع القضية الأكثر إلحاحاً المتمثلة في صعود الصين. أعلن عن هذه الاستراتيجية باعتبارها استدارة نحو آسيا وفي الوقت نفسه الابتعاد من الشرق الأوسط، حيث شعرت الإدارة بأن الولايات المتحدة كانت تستثمر بصورة مفرطة في المجال العسكري. وما أكد هذا التحول كان انسحاب واشنطن المفاجئ والكامل من أفغانستان صيف عام 2021.

ولكن النتيجة لم تكن الظهور المنشود لتوازن قوي جديد، بل فراغاً سعى اللاعبون الإقليميون إلى ملئه بصورة عدوانية. وسعت إيران نفوذها بفضل حرب العراق التي قلبت ميزان القوى بين السنة والشيعة في المنطقة. ومع إطاحة نظام صدام حسين الذي كان السنة يهيمنون عليه، أصبح العراق خاضعاً لحكم غالبية شيعية، يتمتع كثير من قادتها بعلاقات وثيقة مع إيران. واستمر هذا النفوذ الإيراني في التوسع إلى أن وصل إلى سوريا، حيث دعمت طهران حكومة بشار الأسد، مما سمح لها بالصمود في وجه تمرد عنيف ضدها. كذلك، دعمت إيران الحوثيين في اليمن و"حزب الله" في لبنان و"حماس" في الأراضي المحتلة.

،، هناك دول تنتهك القواعد الدولية وتشير إلى نفاق واشنطن كمبرر،،

لكن التحدي الأشد خطورة للنظام الدولي الحالي يظهر في آسيا، مع صعود القوة الصينية. وربما يؤدي هذا إلى أزمة أخرى، أكبر بكثير من الاثنتين الأخريين، إذا قررت الصين اختبار عزيمة الولايات المتحدة وحلفائها من خلال محاولة إعادة توحيد تايوان بالقوة مع البر الرئيس. حتى الآن، أبدى الرئيس الصيني شي جينبينغ تردداً في شأن استخدام القوة العسكرية، وهذا بمثابة تذكير بأن بلاده، خلافاً لروسيا وإيران و"حماس"، تستفيد كثيراً من الاندماج الوثيق في العالم واقتصاده. ولكن يبقى السؤال المفتوح هو ما إذا كان ضبط النفس هذا سيستمر. ويشار إلى أن الاحتمالات المتزايدة لغزو تايوان اليوم، مقارنةً بما كانت عليه قبل 20 عاماً على سبيل المثال، هي إشارة أخرى إلى ضعف القطبية الأحادية وصعود عالم ما بعد أميركا.

وهناك مؤشر آخر على تراجع نفوذ الولايات المتحدة في هذا النظام الناشئ. فالضمانات الأمنية غير الرسمية تفسح المجال ربما أمام ضمانات فعالة أكثر. وفي الواقع، عام 1990، عندما هدد العراق السعودية بعد غزو الكويت، سارع الرئيس جورج بوش الأب إلى النجدة باستخدام القوة العسكرية، على رغم أنه لم يكن ملزماً بذلك بموجب أي معاهدة أو اتفاق. اليوم، تشعر السعودية بأنها أقوى بكثير، لا سيما أن القوة العالمية الأخرى، الصين التي تُعد أكبر زبائنها وعملائها على الإطلاق، تحاول التقرب منها باستمرار. وتحت قيادة ولي عهدها الحازم الأمير محمد بن سلمان، أصبحت المملكة أكثر تطلباً، فأصرت على أن تعطيها واشنطن ضمانات أمنية رسمية على غرار تلك المقدمة إلى حلفاء الولايات المتحدة في "الناتو"، وطالبت بالحصول على التكنولوجيا اللازمة لبناء صناعة نووية. لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة ستوافق، إذ إن المسألة مرتبطة باتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل، لكن حقيقة أن المطالب السعودية هي قيد النظر والحسبان هي علامة على تغير ديناميكية القوة.

قوة راسخة

إن النظام الدولي الذي بنته الولايات المتحدة وحافظت عليه يواجه تحديات على جبهات متعددة. لكنها تظل اللاعب الأقوى في هذا النظام. فحصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي لا تزال تقريباً كما كانت في 1980 أو 1990. وما قد يكون أكثر أهمية هو أنها اكتسبت مزيداً من الحلفاء. بحلول نهاية الخمسينيات من القرن الـ20، كان تحالف "العالم الحر" الذي خاض الحرب الباردة وانتصر فيها، يتكون من أعضاء حلف شمال الأطلسي، الولايات المتحدة وكندا و11 دولة من أوروبا الغربية واليونان وتركيا، إضافة إلى أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية. اليوم، توسع التحالف الذي يدعم الجيش الأوكراني أو يفرض العقوبات على روسيا فضم إليه كل دولة في أوروبا تقريباً، فضلاً عن بعض الدول الأخرى. وبصورة عامة، تشمل مجموعة "ويست بلس" أو "الغرب بلس" West Plus حوالي 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و65 في المئة من الإنفاق العسكري العالمي.

ويشار إلى أن التحدي المتمثل في مكافحة التوسع الروسي حقيقي وصعب. قبل الحرب، كان حجم اقتصاد روسيا يعادل 10 أضعاف حجم الاقتصاد الأوكراني، ويبلغ عدد سكانها ما يقارب أربعة أضعاف سكان أوكرانيا، ومجمعها الصناعي العسكري ضخم. ولكن لا يمكن السماح لعدوانها بأن ينجح. فإحدى السمات الأساسية للنظام الدولي الليبرالي الذي وُضع بعد الحرب العالمية الثانية هي أن تغيير الحدود باستخدام القوة العسكرية الغاشمة لا تحظى باعتراف المجتمع الدولي بها. منذ عام 1945، نجح عدد قليل جداً من الأعمال العدوانية من هذا النوع، في تناقض صارخ مع ما قبل تلك السنة، عندما كانت الحدود في جميع أنحاء العالم تتغير بصورة روتينية بسبب الحرب والغزو. إن نجاح روسيا في غزوها المكشوف من شأنه أن يكسر الأنماط والقواعد السابقة التي وُضعت بشق الأنفس.

أما التحدي الذي تمثله الصين، فهو تحدٍّ مختلف. وبغض النظر عن مسارها الاقتصادي المتبع، تحديداً خلال الأعوام المقبلة، فالصين هي قوة عظمى. ويمثل اقتصادها بالفعل ما يقارب 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وهي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في الإنفاق العسكري. وعلى رغم أنها لا تتمتع بالثقل نفسه الذي تتمتع به الولايات المتحدة على المسرح العالمي، إلا أن قدرتها على التأثير في البلدان في جميع أنحاء العالم زادت بفضل المجموعة الواسعة من القروض والمنح والمساعدات التي قدمتها. لكن الصين ليست دولة تسعى إلى الإفساد مثل روسيا. لقد ازدادت ثراء وقوة داخل النظام الدولي بفضل هذا النظام نفسه، لذا فهي أكثر تردداً في إطاحته.

وعلى نطاق أوسع، تبحث الصين عن وسيلة لتوسيع سيطرتها. وإذا اعتقدت بأن الطريقة للقيام بذلك هي التصرف مثل دولة معطلة، فهي ستفعل ذلك بالتأكيد. لذا، يتعين على الولايات المتحدة أن تراعي أي جهود مشروعة تبذلها الصين من أجل تعزيز نفوذها بما يتماشى مع ثقلها الاقتصادي المتزايد، وأن تعمل في الوقت نفسه على ردع جهودها غير المشروعة. خلال الأعوام الأخيرة، لاحظت بكين أن سياستها الخارجية العدوانية المفرطة أدت إلى نتائج عكسية. نتيجة لذلك، تراجعت الآن عن "دبلوماسية الذئب المحارب" الحازمة التي كانت تستخدمها، وبطريقة موازية تخلى شي جينبينغ عن بعض الغطرسة في تصريحاته السابقة حول "عصر جديد" من الهيمنة الصينية، ليستبدلها بالاعتراف بنقاط القوة الأميركية والمشكلات التي تواجهها الصين. ويبدو أن شي، لأسباب تكتيكية في الأقل، يبحث عن تسوية موقتة وطريقة للتعايش مع أميركا. في سبتمبر (أيلول) 2023، زارته مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، فقال لهم شي "هناك ألف سبب يدفعنا إلى تحسين العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، وفي المقابل، لا يمكننا العثور على سبب واحد لإفسادها".

بغض النظر عن نوايا الصين، فإن الولايات المتحدة تتمتع بمزايا هيكلية كبيرة. فهي تتميز بأفضلية جغرافية وجيوسياسية فريدة من نوعها، إذ يحدها محيطان شاسعان وجارتان ودودتان. في منحى مقابل، فإن نهوض الصين يحدث في قارة مزدحمة ومعادية. وفي كل مرة تستعرض فيها بكين قوتها، فإنها تؤدي إلى تنفير أحد جيرانها الأقوياء، من الهند إلى اليابان إلى فيتنام. وبعض الدول في المنطقة مثل أستراليا واليابان والفيليبين وكوريا الجنوبية، يربطها حلف رسمي مع الولايات المتحدة وتستضيف قوات أميركية. وهذه الديناميكيات تطوق الصين.

إن تحالفات واشنطن في آسيا وأماكن أخرى تعمل بمثابة حصن ضد خصومها. ولكي يستمر هذا الواقع، يجب على الولايات المتحدة أن تجعل من تعزيز تحالفاتها محور سياستها الخارجية. وفي الحقيقة، كان هذا في صميم نهج بايدن في التعامل مع السياسة الخارجية. لقد أصلح العلاقات التي تصدعت في ظل إدارة ترمب وزاد متانة تلك التي لم تتأثر. علاوة على ذلك، وضع ضوابط على القوة الصينية وعزز التحالفات في آسيا لكنه في الوقت نفسه مد جسوراً نحو بكين لبناء علاقة عمل فاعلة معها. ولا بد من أن رد فعله السريع والذكي على الأزمة الأوكرانية فاجأ بوتين الذي يواجه الآن غرباً فطم نفسه عن الطاقة الروسية وفرض العقوبات الأكثر قسوة ضد قوة عظمى في التاريخ. وعلى رغم أن أياً من هذه الخطوات لا يغني عن الحاجة الماسة إلى فوز أوكرانيا في ساحة المعركة، إلا أنها تخلق سياقاً تتمتع فيه دول "الغرب بلس" بنفوذ كبير، وتواجه فيه روسيا مستقبلاً قاتماً على المدى الطويل.

خطر التراجع

إن العيب الأكبر في نهجي كل من ترمب وبايدن في السياسة الخارجية، والنهجان في هذه الحال تجمعهما أرضية مشتركة، يكمن في وجهات نظرهما المتشائمة المماثلة. يفترض كل منهما أن الولايات المتحدة كانت الضحية الكبرى للنظام الاقتصادي الدولي الذي أنشأته. ويرى كلاهما أن البلاد غير قادرة على المنافسة في عالم الأسواق المفتوحة والتجارة الحرة. ومن المنطقي فرض بعض القيود على وصول الصين إلى صادرات الولايات المتحدة ذات التكنولوجيا العالية، لكن واشنطن تمادت إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ فرضت تعريفات جمركية على السلع والبضائع من الخشب إلى الصلب إلى الغسالات على أقرب حلفائها. لقد اشترطت أن تُستخدم أموال الحكومة الأميركية "لشراء السلع الأميركية"، وهذه الشروط أكثر تقييداً من التعريفات الجمركية، فهذه الأخيرة ترفع كلفة البضائع المستوردة، أما "شراء السلع الأميركية" فهو يمنع ابتياع البضائع الأجنبية بأي ثمن. وحتى السياسات الذكية مثل الدفع نحو الطاقة الخضراء تتعرض للتقويض بسبب تدابير الحماية السائدة التي تنفر أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاءها.

وفي سياق متصل، اعتبرت نغوزي أوكونيو إيويلا، المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية، أن الدول الغنية تدخل الآن في أعمال تنطوي على قدر كبير من النفاق. بعد أن أمضى العالم الغربي عقوداً من الزمن في حث العالم النامي على التحرر والمشاركة في الاقتصاد العالمي المفتوح وانتقاد البلدان بسبب تدابير الحماية وتقديم المعونات والسياسات الصناعية، توقفت دول الغرب عن تطبيق المبادئ التي كثيراً ما دافعت عنها. وبعد أن ازدادت الدول الغنية ثراء وقوة في ظل هذا النظام، قررت أن تتخلى عن الآخرين. وعلى حد تعبير الدكتورة نغوزي، فإن تلك الدول "لم تعد ترغب الآن في التنافس في ظل ظروف متكافئة وتفضل عوضاً عن ذلك التحول إلى اعتماد نظام قائم على القوة لا على القواعد".

واستكمالاً، يهدر المسؤولون الأميركيون وقتاً طويلاً وطاقة كبيرة على الحديث عن ضرورة الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد. وفي جوهر هذا النظام يكمن إطار التجارة المفتوحة الذي وضعته "اتفاقية بريتون وودز" لعام 1944 و"الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة" لعام 1947. كان زعماء ما بعد الحرب العالمية الثانية يدركون تمام الإدراك ما أسفرت عنه النزعة القومية التنافسية والحمائية فاعتزموا منع العالم من العودة لهذا المسار. وقد نجحوا في خلق عالم من السلام والرخاء امتد إلى جميع أنحاء المعمورة، وصمموا نظام تجارة حرة سمح للدول الفقيرة بأن تصبح ثرية وقوية، مما جعل شن الحرب ومحاولة احتلال الأراضي أقل جاذبية في نظر الجميع.

،، الدول الغنية تدخل الآن في أعمال تنطوي على قدر كبير من النفاق،،

لكن النظام القائم على القواعد لا يقتصر على التجارة فحسب. إنه ينطوي أيضاً على معاهدات وإجراءات وأعراف دولية، تمثل رؤية لعالم لا تحكمه قوانين الغابة بل النظام والعدالة. وفي هذا المجال أيضاً، أظهرت الولايات المتحدة أنها أكثر مهارة في الوعظ والخطابات منه في الممارسة على أرض الواقع. فكانت حرب العراق انتهاكاً صارخاً لمبادئ الأمم المتحدة ضد العدوان غير المبرر. في الحقيقة، تختار واشنطن بصورة روتينية الاتفاقات الدولية التي تلتزم بها وتلك التي تتجاهلها. فهي تنتقد الصين بسبب انتهاكها "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار" عندما تطالب بكين بالسيادة على المياه في شرق آسيا، مع أن واشنطن نفسها لم تصدق على هذه المعاهدة مطلقاً. وعندما انسحب ترمب من الاتفاق النووي مع إيران الذي وقعته جميع القوى العظمى الأخرى، على رغم التأكيد على التزام طهران شروط هذا الاتفاق، دمر ترمب أي أمل في إقامة تعاون عالمي يقف في وجه تحدٍّ أمني محوري. ثم أبقى على عقوبات ثانوية لإجبار تلك القوى العظمى الأخرى على الامتناع عن ممارسة الأعمال التجارية مع إيران، مستغلاً قوة الدولار في خطوة أدت إلى تسريع جهود بكين وموسكو وحتى العواصم الأوروبية من أجل إيجاد بدائل لنظام الدفع بالدولار. في النظام العالمي الأحادي القطب جرى التسامح مع النزعة الانفرادية الأميركية. أما اليوم، فهذه النزعة تخلق رغبة في البحث عن طرق للهروب منها ومواجهتها وتحديها، حتى بين أقرب حلفاء الولايات المتحدة.

كثيراً ما كانت جاذبية الولايات المتحدة تنبع من واقع أنها لم تتحول قط إلى قوة إمبريالية شبيهة بالمملكة المتحدة أو فرنسا. وكانت في حد ذاتها مستعمرة، تقع بعيداً من مراكز التنافس بين القوى العالمية. دخلت الحربين العالميتين في القرن الـ20 متأخرةً وعلى مضض. ونادراً ما سعت إلى الحصول على أراضٍ خلال مغامراتها وتدخلاتها في الخارج. ولكن الأهم من ذلك ربما، هو أنها بعد عام 1945، طرحت رؤية عالمية تأخذ في الاعتبار مصالح الآخرين. فالنظام العالمي الذي اقترحته وأنشأته ودعمته لم يكن جيداً للولايات المتحدة فحسب، بل أيضاً لبقية العالم. لقد سعت إلى مساعدة الدول الأخرى في الارتقاء وتحقيق مزيد من الرخاء والثقة والكرامة. وتبقى هذه هي الميزة الأعظم لدى الولايات المتحدة. ربما يرغب الناس في مختلف أنحاء العالم في الحصول على القروض والمساعدات التي يمكنهم تلقيها من الصين، ولكن لديهم شعوراً بأن الهدف الأساسي من رؤية الصين العالمية هو جعل الصين عظيمة، فيما تتحدث بكين في كثير من الأحيان عن "التعاون المربح للجانبين". في المقابل، تملك واشنطن سجلاً حافلاً في تطبيق ذلك فعلياً.

التحلي بالإيمان

إذا تخلت الولايات المتحدة عن هذه الرؤية العالمية الواسعة والمفتوحة والسخية بدافع الخوف والتشاؤم، فإنها بذلك تكون خسرت جزءاً كبيراً من مزاياها الكامنة. لفترة طويلة بررت الولايات المتحدة إجراءات فردية تتعارض مع مبادئها المعلنة باعتبارها استثناءات ضرورية تهدف إلى دعم وضعها وبذلك تعزيز النظام برمته. وهي تكسر قاعدة في سبيل الحصول على نتيجة سريعة. لكن ليس من المفترض تدمير النظام القائم على القواعد من أجل إنقاذه، إذ إن بقية العالم تراقب وتتعلم. وبالفعل، تخوض البلدان سباقاً تنافسياً، تقدم فيه الإعانات وتفعل التفضيلات وتفرض القيود لحماية اقتصاداتها الخاصة. وسبق أن بدأت الدول تنتهك القواعد الدولية وتشير إلى نفاق واشنطن كمبرر. ومن المؤسف أن هذا النمط يشمل انتهاك الرئيس السابق للمعايير الديمقراطية. بعد أن خسر الحزب الحاكم في بولندا الانتخابات الأخيرة، روج لنظريات المؤامرة الشبيهة بنظريات ترمب. كذلك، فإن ادعاءات الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو بأن الانتخابات زُورت دفعت أنصاره إلى شن هجوم على عاصمة بلاده شبيه بهجوم السادس من يناير (كانون الثاني).

ويشار إلى أن التحدي الأخطر الذي يواجهه النظام الدولي القائم على القواعد لا ينبع من الصين أو روسيا أو إيران، بل من الولايات المتحدة. وإذا أدت المخاوف الأميركية المبالغ فيها من أن الولايات المتحدة قد تشهد انحداراً، إلى انسحابها من دورها القيادي في الشؤون العالمية، فستخلق فراغات في السلطة في مختلف أنحاء العالم وتشجع مجموعة متنوعة من القوى والجهات الفاعلة على محاولة التدخل في الفوضى الناجمة. لقد رأينا كيف يبدو الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد أميركا. والآن لنتخيل شيئاً مماثلاً في أوروبا وآسيا، ولكن هذه المرة مع قوى عظمى، وليس مجرد قوى إقليمية، تُحدث اضطرابات تؤدي إلى عواقب عالمية مزلزلة. من المثير للقلق أن نرى أجزاءً من الحزب الجمهوري تعود للانعزالية التي ميزت الحزب في ثلاثينيات القرن الـ20، عندما عارض بشدة التدخل الأميركي حتى في وقت كانت أوروبا وآسيا تحترقان.

منذ عام 1945، دخلت أميركا في محادثات حول طبيعة مشاركتها في الشؤون الدولية، وليس حول ما إذا كان يجب عليها المشاركة في الأساس. وإذا انطوت البلاد على نفسها، فسيكون ذلك بمثابة تراجع لقوى النظام والتقدم. لا يزال بإمكان واشنطن وضع الأجندة وبناء التحالفات والمساعدة في حل المشكلات العالمية وردع العدوان من خلال استخدام موارد محدودة، بمستويات أقل بكثير مما استخدمته خلال الحرب الباردة. في منحى مقابل، سيتعين عليها أن تدفع ثمناً أعلى بكثير إذا انهار النظام وصعدت القوى المارقة وتصدع الاقتصاد العالمي المفتوح أو أصبح مغلقاً.

لعبت الولايات المتحدة دوراً مركزياً في إقامة شكل جديد من العلاقات الدولية منذ عام 1945، وترسخ هذا الشكل وازداد قوة على مر العقود. ويذكر أن هذا النظام يخدم مصالح معظم دول العالم ومصالح الولايات المتحدة على حد سواء، ويواجه ضغوطاً وتحديات جديدة، لكن بعض البلدان القوية تستفيد فيه أيضاً من السلام والرخاء وتستمتع في عالم تحكمه القواعد والأعراف. إن أولئك الذين يتحدون النظام الحالي ليست لديهم رؤية بديلة قادرة على توحيد المجتمع العالمي، إنهم لا يسعون إلا إلى تحقيق مكاسب ضيقة لأنفسهم. وعلى رغم كل الصعوبات الداخلية التي تواجهها، تظل الولايات المتحدة في نهاية المطاف قادرة ومؤهلة بصورة فريدة للاضطلاع بدور مركزي في الحفاظ على هذا النظام الدولي. وما دامت أميركا تحافظ على ثقتها بمشروعها الخاص، فمن الممكن أن يزدهر النظام الدولي الحالي لعقود مقبلة.

* فريد زكريا هو مقدم برنامج "فريد زكريا جي بي أس" Fareed Zakaria GPS على قناة "سي أن أن"، ومؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان "عصر الثورات: التقدم وردود الفعل العنيفة من عام 1600 حتى يومنا هذا" Age of Revolutions: Progress and Backlash From 1600 to the Present.
المقال مترجم عن "فورين أفيرز" 12 ديسمبر
https://www.independentarabia.com/

اضف تعليق