نشأ إجماع متزايد بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن على أن الاستعانة بمصادر من الدول الصديقة جيوسياسيا وإعادة الإنتاج إلى الولايات المتحدة أمران مطلوبان بدرجة ملحة لتصحيح العوامل الخارجية التي تعجز الأسواق بذاتها عن إصلاحها. وتشمل سياسات أخرى مطلوبة بشدة التعجيل بتعزيز التكنولوجيات الخضراء لجعل العالم أقل اعتمادا...
بقلم: سايمون جونسون، يوري جورودنيشينكو، إيلونا سولوجوب
واشنطن العاصمة/بيركلي/كييف ــ في الزيارة التي قام بها مؤخرا إلى الولايات المتحدة، كان الرئيس الصيني شي جين بينج حريصا على تشجيع الشركات الأميركية على اعتبار بلاده شريكا تجاريا وثيقا. في الواقع، ينبغي للشركات الأميركية أن تسعى إلى نقل سلاسل التوريد التي تخدمها وأعمالها الأخرى بعيدا عن الصين ــ بينما لا يزال في الوقت متسع. من الواضح أن الصين، من خلال تصرفاتها المتعمدة والمتكررة، تسعى إلى الدخول في مواجهة اقتصادية مع الولايات المتحدة.
لعقود عديدة من الزمن، لاحقت الحكومات الغربية نسخا مما يسميه الألمان "Wandel durch Handel" (التغيير من خلال التجارة)، على أمل تحقيق الاستقرار العالمي، وكبح المواجهة الدولية، و(ربما) تعزيز الديمقراطية من خلال التفاعل الاقتصادي مع الأنظمة الاستبدادية. والفكرة بسيطة: فالبلدان التي تزاول التبادل التجاري بكثافة فيما بينها لن تُـقـدِم على تعريض الأرباح والوظائف الناتجة عن هذا التبادل للخطر بالدخول في حرب؛ إذ يعمل الرخاء والاتكالية المتبادلة على تخفيف العَدَاء.
في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، صادفت هذه الاستراتيجية النجاح بدرجة مذهلة في بعض الأحيان. فقد أفضى إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في عام 1952 إلى انتزاع المدخلات الأساسية في إنتاج الأسلحة من أيدي الحكومات الوطنية، وانتهى الأمر إلى تأسيس الاتحاد الأوروبي اليوم. وأصبحت ألمانيا وفرنسا (وغيرهما من بلدان أوروبا الغربية في وقت لاحق) مترابطتين بشدة من خلال التبادل التجاري والاستثمار، على النحو الذي جعل الحرب بين أي من هذه البلدان تفرض تكلفة لا يمكن تحملها على الضحية والمعتدي على حد سواء. وأصبحت أوروبا الغربية، وهي المنطقة التي كانت لقرون من الزمن الأكثر عُـرضة لاندلاع العنف بين الدول (مع عواقب عالمية كارثية في كثير من الأحيان) معقلا للسلام.
لكن التغيير من خلال التجارة ليس رهانا مضمونا على الإطلاق، لأنه يعتمد بشكل حاسم على ظروف مؤسسية أولية فضلا عن قوة الإيديولوجيات. ويحتوي عالَـم اليوم على عدد كبير من الأمثلة البارزة الشديدة الخطورة حيث انتهت التجارة المتوسعة إلى نتائج شديد السوء، من منظور ديمقراطي. وهنا، يُـعَـد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا مثالا شديد الوضوح.
بعد انهيار الحكم الشيوعي في عام 1991، حصلت إدارة الرئيس الروسي بوريس يلتسين على قدر كبير من المساعدات الاقتصادية ودعيت إلى الانضمام إلى نادي الدول الديمقراطية الرائدة: وتحولت مجموعة الدول السبع إلى مجموعة الدول الثماني. ولكن بمجرد أن أصبحت روسيا أكثر ثراء في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، بسبب ارتفاع أسعار النفط، تحول خطاب قادتها واتجاه الرأي العام هناك بشكل حاد ضد الغرب، وباتت الجمهوريات السوفييتية السابقة التي اعتُـرِف باستقلالها دوليا طوال جيل كامل، تُـعـامَـل على أنها "ليست دولا حقيقية".
في نهاية المطاف، تحول الخطاب العدائي إلى عدوان عسكري. ولكن بعد غزو جورجيا في عام 2008، لم تواجه روسيا العقوبات الشاملة والعزلة، بل حصلت بدلا من ذلك على ما يسمى "إعادة ضبط" العلاقات مع الولايات المتحدة ومزيد من القوة في سوق الطاقة في الاتحاد الأوروبي. في عام 2015، شرح نائب الرئيس الأميركي آنذاك جو بايدن منطق الإدارة الأميركية: "لقد استثمرنا جميعا في الهيئة التي كنا نأمل ــ ولا زلنا نأمل ــ أن تتحول روسيا إليها ذات يوم: روسيا المندمجة في الاقتصاد العالمي؛ والأكثر ازدهارا وضلوعا في النظام الدولي".
على سبيل المثال، كان خط أنابيب الغاز نورد ستريم الذي يربط بين روسيا وألمانيا حالة كلاسيكية من حالات التغيير من خلال التجارة. فبرغم عدم وضوح الخليط الدقيق من الدوافع الاستراتيجية والتجارية، كانت النتيجة الصافية لهذا النهج ظهور طاغية خطير يملك مالا وفيرا، وقادر على، وراغب في، إطلاق عدد كبير من الصواريخ التي تستهدف المدنيين الأبرياء في دولة مجاورة.
خلف الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، يقف شي جين بينج. ويبدو أن الصين على استعداد لبيع أي شيء لروسيا وتزويدها بكل ما تحتاج إليه، بما في ذلك مكونات الصواريخ. الواقع أن العقوبات الغربية بعيدة كل البعد عن الكمال، لكن الصين تسهل بدرجة عظيمة تدفق السلع والبضائع إلى روسيا. إن الصين قادرة على فرض ضغوط حاسمة على روسيا لحملها على الانسحاب من أوكرانيا، تماما كما تستطيع أن تدفع إيران إلى الامتناع عن دعم الإرهابيين. لكنها لا تفعل أي شيء من هذا القبيل، لأن التغيير من أجل التجارة فشل فشلا ذريعا في ما يتصل بالصين أيضا.
منذ تسعينيات القرن العشرين، استثمرت الشركات الغربية ثروة ضخمة في الاقتصاد الصيني، ودرس عشرات الآلاف من الطلاب الصينيين في الجامعات الأميركية والأوروبية أو عملوا في شركات غربية. لم يجعل أي من هذا الصين أكثر ديمقراطية. بل على العكس من ذلك، عمل شي جين بينج على مدار السنوات العشر الأخيرة على دفع الصين بسرعة نحو الشمولية، فأزال حتى الضوابط والتوازنات البدائية التي فرضت بعد وفاة ماو تسي تونج. من عجيب المفارقات ــ ومن المروع ــ أن تستخدم الصين تكنولوجيات غربية لقمع المعارضة، والتجسس على الدول الغربية، ونشر المعلومات المضللة والأكاذيب.
الأمر الأشد سوءا أن التجارة بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية جعلت الديمقراطيات في ما يبدو أكثر اعتمادا على الأنظمة الاستبدادية، وليس العكس. تجلى هذا بوضوح في ردة فعل الديمقراطيات إزاء غزو روسيا الشامل لأوكرانيا في عام 2022. كان الاتحاد الأوروبي عازفا بدرجة كبيرة عن التوقف عن شراء الطاقة الروسية ودفع لروسيا 140 مليار يورو (152 مليار دولار أميركي) خلال الفترة من مارس/آذار 2022 إلى مارس/آذار 2023؛ ولا تزال مئات الشركات الغربية عاملة في روسيا، وهي بالتالي تساعد في تمويل الحرب (من خلال مدفوعاتها الضريبية وبطرق أخرى).
اشترت الولايات المتحدة سلعا بقيمة 536.8 مليار دولار من الصين مباشرة في عام 2022 (فضلا عن خدمات أخرى بقيمة 27 مليار دولار) ــ ما يقرب من سدس إجمالي واردات السلع الأميركية التي بلغت 3.3 تريليون دولار. ووفقا للمثل التجاري الأميركي، تبلغ قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر الأميركي في الصين نحو 126 مليار دولار. كل هذه التجارة والاستثمارات خدمت جهود تعزيز العلاقات الثنائية القائمة على حسن النوايا لعقود من الزمن. لكن الاستراتيجية التجارية المربحة كانت أيضا سياسة خارجية فاشلة.
الآن، نشأ إجماع متزايد بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن على أن الاستعانة بمصادر من الدول الصديقة جيوسياسيا وإعادة الإنتاج إلى الولايات المتحدة أمران مطلوبان بدرجة ملحة لتصحيح العوامل الخارجية التي تعجز الأسواق بذاتها عن إصلاحها. وتشمل سياسات أخرى مطلوبة بشدة التعجيل بتعزيز التكنولوجيات الخضراء لجعل العالم أقل اعتمادا على الأنظمة الإرهابية في تأمين الوقود الأحفوري، ومنع الساسة والمؤسسات التعليمية والمراكز البحثية والفكرية ووسائل الإعلام من تلقي الأموال (والنفوذ) الناشئة في بلدان تحكمها أنظمة معادية.
أيا كانت نتائج الدورة الانتخابية المقبلة في الولايات المتحدة، فإن التوقعات تشير إلى مزيد من العقوبات وعدد لا حصر له من القيود الأخرى على التجارة مع الصين. وما لم تغير القيادة الصينية مسارها بشكل جذري، فسوف يصبح اندلاع حرب تجارية كبرى أمرا محتملا على نحو متزايد. لقد بات الأمر شديد الوضوح الآن: ينبغي للمستثمرين الأميركيين أن يعملوا على تنويع مورديهم في أقرب وقت ممكن.
اضف تعليق