منذ عام 1870، اتفق الاقتصاديون بان القيمة هي ذاتية، ولكن، لاحقاً وفي ضوء أفكار الفريد مارشال، جادل العديد منهم بان جانب الكلفة من المعادلة يتقرر بظروف موضوعية. اصرّ مارشال بان القيمة الذاتية والتكاليف الموضوعية يقرران السعر تماما كما يشترك كلا جانبي المقص بقطع قصاصة الورق. لكن مارشال فشل في الإقرار بان تلك التكاليف هي ايضا ذاتية لأنها هي ذاتها تتقرر بقيمة الاستخدامات البديلة الاخرى للموارد النادرة.
عندما تمنع الحكومة المحلية تقديم المشروبات الغنية بالسكر في المطاعم، فهناك إقرار ضمني بان مسؤولي الحكومة احتسبوا قيمة موضوعية اكثر ملائمة من القيمة الذاتية.
هناك قضايا هامة تترتب على الاعتقاد بان جميع القيم ذاتية. انها كما يبدو تخلق شعوراً مضاداً لتدخّل الحكومة. وعليه فان ذلك الاعتقاد ربما يوضح الارتباط بين الرؤية الميثدولوجية للاقتصاديين النمساويين من جهة وتوجهاتهم السياسية التحررية من جهة اخرى. وبكلمة اخرى، هل الاقتصاديون اللا نمساويون يعتقدون بان القيمة يمكن احتسابها موضوعيا، وهل هذه الحسابات تعتبر هامة للسياسات التدخلية للدولة؟
عندما يتوصل الفرد الى قرار معين، فإلى أي مدى يمكن قياس تكاليف وفوائد القرار بواسطة خبير موضوعي غير مشارك في صنع ذلك القرار؟ ربما يجادل احد ان الخبير المستقل سيكون اكثر اطلاعا من الفرد. غير ان مذهب القيمة الذاتية يقول بان الخبير المستقل هو اقل اطلاعا من الفرد.
على سبيل المثال، افرض ان زوجين يفكران في انجاب ام عدم انجاب اطفال. عالم الاجتماع في مجال بحوث السعادة يقول بان الزوجين بدون اطفال –كمعدل- هم اكثر سعادة من الازواج ذوي الاطفال. فهل هذا ابلاغ لنا بضرورة عدم انجاب اطفال؟
مثال آخر، افرض ان صاحب عمل يفكر في منح او عدم منح زيادة في مرتب احد العمال في الشركة. عالم الاجتماع في مجال رأس المال البشري يقول بانه، بناءاً على الارتباط بين الدخل المستلم والتعليم وسنوات العمل، فان انتاجية العامل يُتوقع ان تكون 10% أعلى من اجوره الحالية. هل هذا معناه وجوب ان يُمنح العامل زيادة بنسبة 10%؟
في هذه الامثلة، يمكن للاقتصادي النمساوي طرح موقفا مقنعا فيه صانع القرار(في المثال الاخير هو صاحب الشركة) يُحتمل ان تكون لديه معرفة تجعل بحوث الخبير اقرب الى اللاجدوى.
في حالة القرار بإنجاب الاطفال او عدمه، حتى بالنسبة للناس الذين تم استجوابهم، لا يعرف الباحث ما اذا كان الزوجان مع الاطفال سيكونون اكثر سعادة بهم ام بدونهم. من السهل العثور على ازواج ، مهما كان مستوى سعادتهم، هم اكثر سعادة بوجود الاطفال منه بدونهم. هنا لا توجد طريقة للباحث يستطيع بها معرفة ذلك.
في حالة القرار حول مقدار الزيادة التي تُدفع للعامل ، الباحث ايضا يُحتمل ان يفتقد للمعلومات الهامة. صاحب العمل كمدير للعامل، يعرف الكثير عن قيمة ما يساهم به العامل اكثر من الباحث الذي لا يعرف سوى تعليم العامل وسنوات عمله. صاحب العمل يستطيع ملاحظة مدى قدرة العامل على استخدام تعليمه وخبرته في العمل. هذا هو مثال على ما يسميه فردريك هايك المعرفة المحلية.
لأكثر من مئة عام، كان العديد من المعلقين يأملون بان يطور علماء الاجتماع معرفة كافية تسمح بتزويد الخبير بمرشد في عملية صنع القرار الاقتصادي. مؤخرا، على سبيل المثال، اصدر مكتب الاحصاء الوطني في المملكة المتحدة تقريرا حول بيانات السعادة. قصة جديدة نقلتها الـ بي بي سي تذكر فيها عن لسان مدير المشروع قوله: "ان فهم وجهات نظر الناس عن الرفاهية هو اضافة هامة لإحصاءات المكتب الحالية ويمكن استخدامها في عملية صنع السياسة والمساعدة في صناعة قرارات اخرى".
ان موضوع تدخّل الحكومة في صناعة القرار الاقتصادي يعتمد على شرطين اثنين. الاول هو ان يكون لدى خبراء الحكومة معرفة يفتقدها الافراد. كذلك، ان مجرد ايصال خبراء الحكومة لمعرفتهم لا يجب ان يكون كافيا: لابد من فعل قوي من جانب الحكومة لأن في غير ذلك سوف لن يتصرف الناس وفقا للمعرفة التي وضعها الخبراء تحت تصرف العامة.
المثال الكلاسيكي ربما هو تلوث الهواء بنوع من الكازولين. انا كفرد افتقد للخبرة لتقييم كلفة التلوث. ايضا، حتى لو انا امتلكت المعرفة، ربما لا أشعر بالقلق من جانب الكلفة، لأنها سيتحملها آخرون. في هذا المثال، كلا الشرطين لتدخّل الحكومة تم تلبيتهما. (النمساوي قد يجادل باننا كل ما نعرف هو ان هناك عنصر في كلفة الكازولين، مرتبط بالتلوث، وهو ما لم يأخذه الافراد بالاعتبار. القياس الدقيق لكلفة التلوث يتطلب احكاما ذاتية تتجاوز حتى قدرات العالم الخبير).
ان مذهب القيمة الذاتية يميل لإنكار احتمال تلبية الشرط الاول – المعرفة المتفوقة –. الافراد يعرفون اذواقهم الشخصية. هذا يعني انهم ايضا يعرفون كلفة فرصة عملهم. المدراء الفرديين لديهم معرفة محلية حول الانتاجية. هذه المعلومات غير متاحة لصانع السياسة.
يجب التأكيد بان هذه ليست مجرد قضايا مجردة. عندما تمنع الحكومة المحلية تقديم المشروبات الغنية بالسكر، هناك ادّعاء ضمني بان مسؤولي الحكومة احتسبوا قيمة موضوعية اكثر ملائمة من القيمة الذاتية. عندما تضع الحكومة مكافئات للمعلمين وفق معادلة معينة بدلاً من اعطاء الحرية لمدراء المدارس، فان هناك افتراض ضمني بان القيمة الموضوعية هي اكثر ملائمة من التقييم الذاتي.
وبما ان تدخّل الحكومة يفترض ضمنا ان القيمة يمكن حسابها بواسطة التكنوقراط - وان كانت تقريبية، فمن غير المدهش ان يبذل الاقتصاديون جهدا كبيرا في محاولة الوصول لمعايير موضوعية للقيمة. فمثلا، لأهداف تنظيمية، يسعى الاقتصاديون الى حساب قيمة انقاذ الحياة. لنرى كيف يتم ذلك؟
احد الاتجاهات هو قياس المقدار الذي يرغب الفرد بدفعه، كمتوسط، ليتجنب مخاطرة الموت. لو كنت ارغب بدفع الف دولار لتجنب شيء يسبب لي مخاطرة موت بنسبة 1%، عندئذ يمكن القول باني اقيّم حياتي بـ 100 الف دولار. لاحظ ان هذا الحساب يتطلب علاقة خطية ، انها تشير الى اني سأدفع الف دولار لتجنب وفاة باحتمال 1%، ذلك معناه (خطيا) اني سأدفع مائة الف دولار لتجنب حادث موت مؤكد (مائة بالمائة).
وكما توضح منهجية قيمة الحياة، هناك طرق ذكية للوصول للرقم الذي يمثل قيمة موضوعية. لكن صلاحية ذلك الرقم هي عرضة للتساؤل. من وجهة النظر النمساوية، مثل هذه الحسابات ملتبسة وزائفة.
قضايا السياسة عادة تُناقش كما لو ان قضية القيمة الذاتية لم تكن ذات صلة. احد السياقات الذي عُرضت فيه كان خلال "مناقشة الحسابات الاجتماعية"، حول ما اذا كان المخططون المركزيون لديهم معلومات كافية لتخصيص الموارد بفاعلية. رغم ان الجانب الاجتماعي للنقاش لم يذعن، لكنه من الصواب القول انه حاليا هناك القليل من الاقتصاديين يدّعون ان الجانب الاجتماعي هو الرابح. الاقتصاد المخطط مركزيا سيعاني من نقص المعلومات ، حسبما يدّعي مذهب القيمة الذاتية.
هذه الاعتبارات تبدو مناسبة لتدخلات الحكومة في قطاعات مثل الصحة والتعليم والاسكان واعمال المصارف. كل هذه التدخلات تنتهي باستبدال القيم الذاتية بالقيم التي يتم التوصل اليها من جانب خبراء الحكومة. ربما يعتقد أحد ان المدافعين عن مثل هذه السياسات سيحاولون الانخراط بالقضايا التي اثارها النمساويون في نقاش الحسابات الاجتماعية.
بدلا من ذلك، اختار مؤيدو الحكومة مهاجمة النمساويين بشأن "اساسيات السوق الحرة". بدلا من مواجهة الاسئلة التي اثارها النمساويون حول ما اذا كان التكنوقراط لديهم المعلومات الضرورية لحساب القيمة بشكل دقيق، تيار الاقتصاديين السائد يتّهمون النمساويين بالاعتقاد ان الاسواق "تامة"، اي، انها تلبي خصائص مثالية، مثل وجود عدد كبير من الشركات ووجود زبائن لديهم وعي تام في السوق. اذا لم تتحقق تلك الخصائص، يقال ان الاسواق "ستفشل" وتظهر الحاجة لتدخّل الحكومة. غير انه، في ظل مذهب القيمة الذاتية، لن يوافق النمساوي بان تدخّل الحكومة سينجح فقط لأن السوق غير تام.
افرض ان تيار الاقتصاديين منخرط في نقاش حول مدى صلاحية معايير القيمة التي يضعها الباحثون المستقلون. فماذا يقولون؟
احدى الحجج هي ان مذهب القيمة الذاتية هو موغل في العدمية. اذا لم تكن هناك طريقة لقياس القيمة موضوعيا، عندئذ كيف يمكن قول اي شيء هام حول الآداء الاقتصادي؟ مثلا، كيف يمكننا القول ان اقتصادات السوق تعمل بشكل عام افضل من الاقتصادات الشيوعية؟ اذا لم تكن لديك طريقة لحساب القيمة الموضوعية ، كيف تعرف ان تدخّل الحكومة هو امر خاطئ؟
لو طلب الينا إظهار ان الرأسمالية هي افضل من الشيوعية، احد الميول الطبيعية للمرء هو ان يقارن اجمالي الناتج المحلي GDP للفرد في دول متشابهة مثل كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. لكن الناتج المحلي الاجمالي ليس الاّ محاولة اخرى للوصول الى قياس موضوعي للقيمة.
ان معيار الناتج المحلي الاجمالي هو معيار تقريبي وجاف. صحيح ان الفروقات الكبيرة في الناتج الاجمالي ضمن الدولة وبمرور الزمن هي ذات معنى. لكن من الخطأ اعتبار الناتج المحلي الاجمالي او القيم الاخرى المحتسبة كما لو انها دقيقة او انها اكثر دقة من المعلومات التي يستخدمها الافراد للوصول لقراراتهم الفردية.
ان مبدأ القيمة الذاتية لا يعيق اوتوماتيكيا تدخّل الحكومة. ولا يمنع ايضا محاولة الوصول لتقديرات موضوعية للقيمة. لكنه بالفعل يذكّرنا لنكون واعين بالمعلومات التي تُهمل جانبا عندما يحاول الباحث الاجتماعي تقدير القيمة، وان لا نتعامل مع هذه التقديرات كما لو انها حقيقة مطلقة. المعيار السائد في التطبيق هو التعامل مع هذه الحسابات كما لو انها دقيقة تماما. هذا الافتراض الضمني يقود المناصرين للمبالغة في تقدير احتمال نجاح تدخّل الحكومة. في عالم فيه معرفة القيمة لها عنصر ذاتي كبير، فان التصرف كما لو ان القيمة موضوعية يشكّل ممارسة خطيرة.
اضف تعليق