أن 48 في المئة فقط من سكان أميركا اللاتينية لا يزالون يعتقدون بأن الديمقراطية هي أفضل من أي شكل آخر من أشكال الحكم، في جميع أنحاء أميركا اللاتينية يحظى الزعماء المستبدون مثل رئيس السلفادور بشعبية كبيرة، وقد لقي حماسة كبيرة في أعقاب الحملة الصارمة التي شنها على العصابات...
بقلم: دانييل بوليتي، إيفا فيرغارا
يتذكر العالم الجنرال أوغوستو بينوشيه باعتباره الديكتاتور الذي تورط نظامه في تعذيب وقتل وإخفاء 3065 شخصاً تحت عنوان "مكافحة الشيوعية"، لكن في الوقت الذي تحيي فيه تشيلي الإثنين المقبل الذكرى الـ 50 للانقلاب الذي أوصل بينوشيه إلى سدة الحكم وتوليه السلطة مدة 17 عاماً تقريباً، لا ينظر الجميع في البلاد إلى هذه الذكرى باعتبارها مناسبة حزينة، ففي خضم التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد وارتفاع معدل جرائم العنف، تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن عدداً من التشيليين لا يعتبرون حقوق الإنسان ذات أولوية ملحة.
وفيما يسعى هؤلاء إلى التخلص مما يعتبرونه الإرث المعقد الذي خلفه بينوشيه، أشار عدد كبير من منظمي استطلاعات الرأي إلى أن المواطنين في البلاد باتوا يفقدون الثقة في الديمقراطية، وإحدى هؤلاء هي بائعة تذاكر اليانصيب آنا ماريا رومان فيرا (62 سنة) التي تقول "في الماضي لم يكن هناك مقدار كبير من الفلتان كما هي الحال عليه الآن، ولم تكن حوادث السرقة والسطو منتشرة".
في غضون ذلك أظهر استطلاع للرأي أجراه "مركز الدراسات العامة" Center for Public Studies الذي يتخذ من تشيلي مقراً له، أن 66 في المئة من الذين شاركوا فيه خلال يوليو (تموز) الماضي باتوا يقرون بمقولة إنه بدلاً من القلق المفرط على حقوق الأفراد فإن البلاد في حاجة إلى حكومة حازمة وقوية، ونسبة هؤلاء هي أكثر من الضعف لنسبة الـ 32 في المئة للذين كانوا يعطون الأولوية للحريات قبل أقل من أربعة أعوام.
وتاريخ الـ 11 من سبتمبر (أيلول) في تشيلي كان بمثابة محطة بارزة قبل وقوع الهجمات الإرهابية في هذا اليوم بالتحديد داخل الولايات المتحدة عام 2001، والسبب هو أنه التاريخ الذي وقع فيه انقلاب عام 1973 في الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية، لكن هذه الأهمية آخذة في التغير، إذ إن استطلاعات الرأي تظهر أن أكثر من ثلث التشيليين باتوا يبررون اليوم ذلك الانقلاب العسكري على حكومة منتخبة ديمقراطياً، إضافة إلى ما حدث بعدها من انتهاكات لحقوق الإنسان وقتل معارضين وإلغاء الانتخابات وتقييد وسائل الإعلام وقمع النقابات العمالية وحل الأحزاب السياسية.
مارتا لاغوس، مديرة شركة "لاتينو باروميترو" Latinobarómetro الإقليمية لاستطلاعات الرأي ومؤسسة شركة استطلاعات الرأي "موري تشيلي" Mori Chile، اعتبرت أنه "يجب أن تكون هناك غالبية ساحقة من التشيليين الذين يدينون الديكتاتورية والانقلاب العسكري، ويعترفون بأن الجيش قضى على الديمقراطية في البلاد، ويفترض أن يكون هذا هو الشعور الطبيعي في بلد عادي، لكن المسألة ليست على هذا النحو".
وكان الرئيس اليساري غابرييل بوريك قد كشف أواخر الشهر الماضي عما ستكون عليه فعلياً أول خطة ترعاها الدولة في محاولة لتحديد مصير نحو 1162 شخصاً من ضحايا الديكتاتورية الذين ما زالوا في عداد المفقودين.
لكن حتى في الوقت الذي تخطط فيه حكومة بوريك ومنظمات معنية بحقوق الإنسان لإحياء ذكرى الانقلاب، يبدو أن كثيرين في تشيلي لا يرون أن الإطاحة بزعيم منتخب ديمقراطياً تصرف خاطئ، فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته في وقت سابق من هذا العام "شركة لاغوس" أن 36 في المئة من التشيليين يعتقدون أن الجيش "حرر تشيلي من الماركسية"، وذلك عندما أطاح بالرئيس اليساري المنتخب ديمقراطياً سالفادور أليندي الذي وصل إلى السلطة عام 1970 وانتحر في يوم الانقلاب، وتبين من الاستطلاع أن 42 من التشيليين قالوا إن الانقلاب قضى على الديمقراطية، والنسبة هذه هي الأدنى منذ عام 1995.
وقاد بينوشيه الانقلاب خلال فترة كانت البلاد تعاني فيها أزمة اقتصادية شديدة شملت نقصاً في الغذاء ومعدلات تضخم متسارعة وصلت إلى متوسط سنوي قارب الـ 600 في المئة، وعندما تولت القوات المسلحة الحكم طبق نظام اقتصاد السوق الحرة، وهذا يعني أن الأشخاص الذين يمتلكون إمكانات كافية كان في مستطاعهم مواصلة الاستهلاك حتى مع ارتفاع معدلات الفقر.
المحاسب المتقاعد سيرجيو غوميز مارتينيز (72 سنة) رأى أنه "لحسن الحظ أن أوغوستو بينوشيه قام بالانقلاب" ضد حكومة أليندي الاشتراكية، وأكد أن وضعه الاقتصادي تحسن خلال حكم الحكومة العسكرية اليمينية لأنه فرض النظام وأسهم في زيادة فرص العمل، كما بدأ الريف والقطاعات الصناعية بالإنتاج.
لكنه في المقابل أطلق العنان لقمع المعارضين يوم الانقلاب، وخلال الأيام التالية أغلق مبنى الكونغرس وحل الأحزاب السياسية مع سيطرة المجلس العسكري على مختلف مفاصل المجتمع، وتعرض معارضو النظام للسجن والتعذيب بصورة منتظمة، وأجبر مئات الآلاف على مغادرة تشيلي والعيش في المنفى.
وقال غوميز إن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال أعوام حكم بينوشيه "كان من الممكن تجنبها"، لكن يبدو أن تلك الانتهاكات لم تكن المحور الرئيس لذكرياته عن تلك الحقبة، فخلال حكم بينوشيه ذهب نحو 200 ألف مواطن بحسب بعض التقديرات إلى المنفى لأسباب سياسية، كما سجن وعذب قرابة 28 ألف معارض للنظام.
وهو ليس وحده الذي يعتقد بهذا المنظور، إذ يشير استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "موري" إلى أن نحو 40 في المئة من التشيليين يرون أن حكم بينوشيه أثناء الفترة الممتدة ما بين عامي 1973 و1990 أسهم في تحديث بلادهم، وإضافة إلى ذلك يعتبر 20 في المئة من المشاركين في البحث أنه كان أحد أفضل حكام تشيلي خلال القرن الـ 20.
وفي دراسة استقصائية أوسع نطاقاً أجرتها مؤسسة " لاتينو باروميترو" هذا العام، تبين أن 48 في المئة فقط من سكان أميركا اللاتينية لا يزالون يعتقدون بأن الديمقراطية هي أفضل من أي شكل آخر من أشكال الحكم، مما يعد انخفاضاً بنحو 15 نقطة مقارنة بعام 2010.
واللافت أنه في جميع أنحاء أميركا اللاتينية يحظى الزعماء المستبدون مثل رئيس السلفادور ناييب بوكيلي بشعبية كبيرة، وقد لقي بوكيلي حماسة كبيرة في أعقاب الحملة الصارمة التي شنها على العصابات، على رغم سجله الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان.
وفي المقابل شهد غابرييل بوريك الذي أصبح أصغر رئيس لتشيلي على الإطلاق بعمر 36 سنة، تراجعاً كبيراً في معدلات التأييد له بعد موجة من الاحتجاجات قادها الطلاب في مارس (آذار) عام 2022، سلطت الضوء على التفاوتات الاقتصادية التي استمرت منذ فترة الديكتاتورية السابقة في البلاد.
وإضافة إلى ذلك رفض المواطنون على نطاق واسع الجهود التي بذلت العام الماضي لاستبدال دستور البلاد الذي يعود لعصر الديكتاتورية بما كان ليصبح أحد أكثر المواثيق تقدماً في العالم أو Magna Cartas، وفي وقت لاحق اُنتخب أعضاء محافظون لصياغة مسودة الدستور الجديد.
ويشير الرسام إفرين كورتيس تابيا (60 سنة) إلى أن أكثر ما يراوده من ذكريات عن أعوام الديكتاتورية لا يشمل "القمع" وحسب، بل أيضاً "تقييد الاستماع إلى فرق موسيقية شعبية كانت محظورة"، فبالنسبة إليه فرضت الديكتاتورية "قيوداً حتى على التطور الثقافي وأرست شعوراً بالخوف والرهبة".
وبينما يواصل المجتمع التشيلي محاولاته للتأقلم مع مشاعره المختلطة في شأن الديكتاتورية، تظل هناك توقعات بأن المحاكم ستكشف تدريجاً عن مزيد من التفاصيل حول مدى القمع الذي مورس طوال تلك الأعوام.
وتوجد نحو 1300 قضية جنائية مفتوحة تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة الديكتاتورية، مع ما يقارب 150 شخصاً يقضون في الوقت الراهن عقوباتهم في "سجن بونتا بيوكو" Punta Peuco Prison، وهو مرفق خصص حصراً للمدانين بارتكاب جرائم خلال حقبة الديكتاتورية.
وإضافة إلى ذلك تنظر إدارة بوريك إلى الخارج في محاولتها الحصول على أجوبة، مطالبة الولايات المتحدة برفع السرية عن الوثائق التي يمكن أن تسلط الضوء على الدور الذي اضطلعت به واشنطن في دعم الانقلاب.
وفي أواخر أغسطس (آب) الماضي رفعت "وكالة المخابرات المركزية الأميركية" CIA السرية عن أجزاء من الموجزات اليومية للرئيس الأميركي المتعلقة بتشيلي، خلال الفترة الممتدة ما بين الثامن والـ 11 من سبتمبر عام 1973 تؤكد أن الرئيس الأسبق الراحل ريتشارد نيكسون كان على علم باحتمال وقوع انقلاب.
وخلال زيارة قامت بها أخيراً لتشيلي، قالت ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، وهي نائبة ديمقراطية في الكونغرس الأميركي من نيويورك، إن "من المهم للغاية الاعتراف بدور الولايات المتحدة في الانقلاب والتفكير فيه".
وبقي أوغوستو بينوشيه في السلطة حتى عام 1990، ثم تنحى بعدما صوتت غالبية التشيليين ضد الحكم العسكري عام 1988، لكنه لم يختف عن المسرح وأصبح على الفور القائد الأعلى للجيش حتى عام 1998، ثم بعد ذلك عضواً في مجلس الشيوخ مدى الحياة، وهو منصب أنشأه لنفسه، واستقال عام 2002 وتوفي عام 2006 من دون أن يدان داخل المحاكم التشيلية، على رغم احتجازه مدة 17 شهراً في لندن بأمر من قاض إسباني.
وترى مارتا لاغوس أخيراً أن "التشيليين اعتادوا العيش مع بينوشيه"، مضيفة "أعتقد أن بينوشيه الديكتاتور الوحيد في التاريخ الغربي المعاصر خلال هذا القرن والقرن الماضي الذي لا يزال يحظى بعد مرور 50 عاماً على انقلابه بتقدير 30 أو 40 في المئة من سكان أي بلد".
اضف تعليق