q
ومن المرجح أن تؤدي هزيمة عدو إلى ظهور عدو آخر من نوع وقوة مختلفين ولكن ليس أقل خطورة، إذ إن التفاعلات الاجتماعية تولد حتماً الاحتكاك والمنافسات والعزلة السعيدة تدعو إلى الحسد والصداقات والتحالفات هي استجابة للعداوة ومصدر لها. بغض النظر عن مدى صعوبة محاولتنا العيش في علاقات متناغمة...
بقلم: فيديل سبيتي

مجرد الاعتراف بوجودهم يغير الطريقة التي نتصرف بها لتعديل نظرتنا إلى المستقبل

يوفر الأعداء الشعور بالتماسك، ويساعدنا تحديد العدو وماهيته وهويته في تعزيز هويتنا

الأعداء يعززون معنى الحياة. قبل عقود جادل عالم الاجتماع جورج سيميل بأنه لا شيء يوحد أمة أو أي مجموعة من الناس مثل وجود عدو مشترك.

كذلك الأبحاث الحديثة تشير بما يشبه الإجماع إلى أن وجود أعداء لنا كأفراد أو كجماعات أو كأمم يوفر فوائد نفسية واجتماعية تنافسية كثيرة على رأسها الاتحاد وما ينتج عنه من شعور بالأمن والطمأنينة وبقوة اعتصام الجماعة حول قضية واحدة في مواجهة قضايا الأعداء التي يريدون فرضها بالقوة أو بطرق تبدو سلمية بينما تبتغي التأثير المباشر في نمط حياة فرد أو جماعة ما أو قومية من القوميات أو عرق من الأعراق أو طائفة دينية أو حتى فريق كرة قدم مثلاً.

العدو حاجة أبدية

في تقرير استراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2017 جاء أن الولايات المتحدة تواجه منافسين أشداء وأن العالم ليس على طريق حتمي نحو الانسجام وستتطلب العقود المقبلة توحيد المواطنين الأميركيين وحلفاء الولايات المتحدة إذا كانوا يريدون الحفاظ على التوازن السياسي الذي يضمن حريتهم.

وأكمل التقرير أنه ومع ذلك "لا ينبغي أن يكون وجود الأعداء سبباً لليأس، فبادئ ذي بدء وجودهم ليس حالاً شاذة ولكنه ثابت عبر التاريخ والأعداء والمنافسون لن يختفوا أبداً، ومن المرجح أن تؤدي هزيمة عدو إلى ظهور عدو آخر من نوع وقوة مختلفين ولكن ليس أقل خطورة، إذ إن التفاعلات الاجتماعية تولد حتماً الاحتكاك والمنافسات والعزلة السعيدة تدعو إلى الحسد والصداقات والتحالفات هي استجابة للعداوة ومصدر لها. بغض النظر عن مدى صعوبة محاولتنا العيش في علاقات متناغمة مع الآخرين، فإن الأعداء هم حقيقة لا مفر منها ودائمة للحياة السياسية".

يوفر الأعداء الشعور بالتماسك، ويساعدنا تحديد العدو وماهيته وهويته في تعزيز هويتنا من جهة وأن نتوقع ما قد يحدث من جهة أخرى، والأهم أن نجد طرفاً نعزو إليه ما يقع لنا من سوء، حتى لو كان هذا السوء لم يقع بسبب هذا العدو.

ومن المثير للاهتمام أنه في دراسة أجريت في الولايات المتحدة على طلاب في الدراسات الجامعية العليا اعتبر هؤلاء أن العالم كان أقل خطورة وفوضوية قبل وجود تنظيم "القاعدة" أي العدو الذي احتل مركز الصدارة منذ نهايات القرن الـ20 وبداياته تحديداً بعد عملية الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 على مركز التجارة العالمي في نيويورك.

واستنتج القائمون على هذا البحث أن الناس يخلقون أعداء من أجل الحفاظ على رؤية مستقرة ومتماسكة وواضحة للعالم عبر إرجاع سلبيات العالم وشروره إلى هؤلاء الأعداء، وهذا وللمفارقة، يجعلهم يشعرون بأنهم أكثر أمناً. ومن المحتمل أيضاً أننا نصنع أعداءنا من أجل أن يكون لحياتنا معنى أكثر جدوى، بحسب ما توصل إليه ناثان هيفليك وهو محاضر أول في علم النفس في جامعة لينكولن في المملكة المتحدة.

مجلة علم النفس العالمية المعروفة "سيكولوجي توداي" طرحت سؤال "هل نحن بحاجة إلى عدو مشترك؟" واعتمدت المجلة الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة كمثال، فهذا الاستقطاب أعلى من أي وقت مضى حول القضايا الرئيسة، إذ إن الديمقراطيون والجمهوريون يرفضون بشكل متزايد التعامل مع خصوماتهم السياسية بالحوار والتفاهم كما كانت تجري العادة.

وتجيب المجلة بأنه من غير الواضح ما إذا كان الاستقطاب السياسي مشكلة نريد حلها بالفعل. ربما يكون خصومنا السياسيون يملأون حاجات مهمة في حياتنا ويعطوننا كبش فداء نلومه وأعداء مشتركين نتحد في مواجهتهم وهكذا نحول المشكلات المعقدة إلى قضايا بسيطة طالما نعرف من يقع عليه اللوم.

وتوصلت دراسة حديثة إلى أن الأعداء يمكن أن يمنحونا الراحة في مواجهة عدم اليقين، إذ وجد عالم النفس الاجتماعي دانيال سوليفان وزملاؤه أنه عندما قدموا للمشاركين فقرة تصف الحكومة الأميركية والهيكل الاقتصادي بأنهما فوضويان وغير منظمين، كان الناس أكثر استعداداً لينسبوا هذه المشكلات إلى عدو خارجي وهو "الإرهاب العالمي".

وعايش مواطنو العالم ومنهم الأميركيون تحديداً مثل هؤلاء الأعداء في الداخل والخارج أيضاً، كما في حال ملاحقة الشيوعيين الأميركيين في الخمسينيات من القرن الـ20 في القضايا التي عرفت في ما بعد بـ"المكارثية" نسبة إلى السيناتور الذي قرر تطهير المجتمع الأميركي من الشيوعيين وطاولت تلك الملاحقات أعظم المفكرين الأميركيين وكان من بينهم شارلي شابلن على سبيل المثال، والأمر نفسه تكرر في الحرب الكوبية وفي الحرب الباردة وفي حقبة تداول وصول الكائنات الفضائية إلى كوكب الأرض وحال الرهاب العامة التي أصابت الولايات المتحدة والعالم في حينه.

في هذه الحالات جميعاً كان العدو الخارجي سبباً لتوحيد المواطنين، سواء كان هذا العدو من الفضاء الخارجي أو من الداخل أو "الإرهاب" العالمي (الإسلاموي) وقبله اليساري مع "الجيوش الحمراء" المتطرفة التي تصاعدت قوتها مع تصاعد الحرب الباردة ومع بروز دور الفصائل الفلسطينية في مواجهة إسرائيل، وعُرف من هؤلاء وديع حداد وكارلوس وكوزو أكوموتو من الجيش الأحمر الياباني الذي قام بعملية مطار اللد في إسرائيل.

وقبل الإرهابين الإسلامي واليساري كان المد الشيوعي وقبله النازي يمثلان العدو اللازم للدخول في حروب كثيرة خارج الولايات المتحدة، في فيتنام أو في كوريا أو في الشرق الأقصى وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية، فالعدو الخارجي وسيلة وحجة لنقل الصراعات من داخل الجغرافيا الخاصة بأمة معينة إلى خارجها.

الأمان والانتماء الوطني

يكتب جاكوب غريجيل الأستاذ المشارك في السياسة بالجامعة الكاثوليكية الأميركية عمل في إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب كمستشار أول في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية، أنه بعد الأحداث الهائلة وما نتج من عملية الـ11 من سبتمبر 2001 عبّر المواطنون الأميركيون عن شعورهم المتزايد بالوحدة والوطنية، فشعروا بأنه بإمكانهم تجاهل الانقسامات الحزبية والتوحد ضد عدو مشترك، إذ إن الأعداء المشتركين يجعلون الصداقات تزداد قوة.

وبالعودة لتحقيق "سيكولوجي توداي" وجدت إحدى الدراسات أن الناس أكثر عرضة للترابط بسبب كراهية مشتركة ويمكن أن يؤدي تشويه سمعة العدو أيضاً إلى تعزيز احترامنا لذواتنا من خلال جعلنا نبدو أفضل مقارنة بهذا العدو المشترك.

عالم الاجتماع الأميركي بلوتارخ كتب حول ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة في مواجهة أعدائها، إذ يجب أن ينصب التركيز على تحسين الذات والحرية الفردية من أجل حياة فاضلة، وهذا لا يعالج مسائل الأمن القومي أو التنافس الجيوسياسي لكنه يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، بالتالي يكون له بعض التطبيق على المجال الأوسع للتفاعلات السياسية بما في ذلك تلك التي تسري بين الدول.

وبرأي بلوتارخ أن الدول ليست "صناديق سوداء"، بل تعمل بنفس طرق عمل البشر الأفراد. لذلك فإن الديناميات التي تميز العلاقات الشخصية في الصداقات والعداوات تشبه تلك التي تشكل التفاعلات الإستراتيجية بين الأنظمة السياسية.

وقال إن الأعداء سيكونون موجودين دائماً لأن المنافسات بسبب الدافع الاستحواذي للرجال يدفعنا إلى الرغبة في ما لا نملكه، أما السبب الثاني لاستمرار وجود الأعداء، فهو البحث عن الأصدقاء "لأن صداقاتنا ذاتها تورطنا في العداوات"، فأن يكون لديك أصدقاء هو ما يخلق بحكم الواقع أعداء، ويخلص إلى أن مجرد الاعتراف بوجود العدو يغير الطريقة التي نتصرف بها لتعديل نظرتنا إلى المستقبل وكيف نستعد له وكيف ننظم أنفسنا.

العالم العربي

في عالمنا العربي تبدأ العداوة البينية بين الدول العربية بسبب الخلافات الحدودية أولاً، وهذا العداء المستتر لا يؤدي إلى توحيد شعوب هذه الدول حول قضية دولتهم لأن الشعوب العربية في العموم تختلف في مواقفها السياسية عن حكوماتها في ما يتعلق بالعلاقات مع الشعوب العربية الأخرى، خصوصاً أنها عموماً تتمحور حول الوحدة العربية، لذا فإن العدو الإسرائيلي المشترك لطالما كان باباً لتوحيد الشعوب المختلفة في ما بينها أي في داخل حدود الدولة أو خارج الحدود، على سبيل المثال، الحدود الكويتية- العراقية، أو الحدود الجزائرية- المغربية، أو المصرية- السودانية أو اللبنانية- السورية، لذا تمكنت القضية المركزية أي قضية الشعب الفلسطيني من توحيد الشعوب العربية على رغم كثرة أسباب الخلاف.

وعند خفوت القضية الفلسطينية كانت سلطات الدول العربية تجد عدواً بديلاً، سواء الطائفة الأخرى كما الحال في لبنان والعراق، أو الجماعات الإرهابية المنظمة كما في الجزائر ومصر، أو اللجوء إلى التقسيم كما في السودان وجنوبه وفي الصحراء الغربية في بعض دول شمال أفريقيا العربية حيث الأمازيغ والطوارق.

https://www.independentarabia.com/

اضف تعليق