يُشكّل سعي حميدتي لفرض سلطته في العاصمة تحوّلًا رئيسًا في الوضع القائم المستمر منذ قرن من الزمن. وفي نهاية المطاف، سيستند تقدّمه على البرهان إلى قدرة قوّاته على التغلّب على القوة النارية المتفوّقة للقوات المسلّحة السودانية في المدن. تصبّ الأوضاع الإنسانية المتدهورة والضغوط الدولية في صالحه، فكلما طالت...
بقلم: مهنّد الحاج علي، علي علي
سيفرز النزاع المتعدّد الأبعاد في السودان على الأرجح حالةً من عدم الاستقرار قد تمتّد لتطال دولاً مجاورة.
منذ 15 نيسان/أبريل، يشهد السودان مواجهات بين القوات المسلّحة السودانية وقوات الدعم السريع في مناطق مختلفة، ولا سيما في العاصمة الخرطوم، أسفرت عن مقتل أكثر من 528 شخصًا وإصابة ما يزيد عن 4,599 آخرين. نشب القتال بعد أشهر من التوترات بين قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الذي يتولّى رئاسة مجلس السيادة الانتقالي، وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي" الذي يشغل منصب نائب رئيس المجلس.
يُعتبر النزاع على السلطة في السودان متعدّد الأبعاد. تأسّس مجلس السيادة الانتقالي بقيادة الجيش في نيسان/أبريل 2019، عقب الانقلاب ضدّ الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي حكم السودان طيلة ثلاثة عقود وأنشأ تحالفًا بين كبار الضباط العسكريين والإسلاميين، لكن الكفّة مالت لصالح العسكريين خلال سنوات حكمه الأخيرة. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2021، أطاح البرهان وحميدتي بحكومة مدنية ترأسها الخبير الاقتصادي في الأمم المتحدة عبدالله حمدوك. وبعد تعرّضهما لضغوط خارجية، أعاداه إلى رئاسة الحكومة بعد فترة وجيزة، إلا أنه بقيَ في منصبه حتى كانون الثاني/يناير 2022 فقط، وسط تزايد حدّة التوترات مع الجيش وتنامي الاحتجاجات في الشارع.
كانت المنافسة بين البرهان وحميدتي واضحةً منذ تولّيهما منصبَيهما في مرحلة ما بعد البشير. ينتمي البرهان إلى مؤسسة رسمية، يتحدّر معظم قادتها البارزين من وسط السودان وشماله، أي الولاية الشمالية والخرطوم، فيما يقود حمديتي ميليشيا طرفية لا يتجاوز عمرها عقدَين من الزمن وأُنشئت لمحاربة التمرّد في إقليم دارفور الذي يُعاني من تهميش الدولة المركزية ونخبها.
مع ذلك، حافظ الجنرالان على تحالفهما في وجه المطالب المتنامية للحركة الاحتجاجية عقب إزاحة حمدوك. تمحور المطلب الأول للمفاوضين من المعارضة، المُمثَّلة بقوى إعلان الحرية والتغيير التي يقودها مدنيون، حول دمج قوات الدعم السريع مع القوات المسلّحة، بما معناه نهاية نفوذ حمديتي في البلاد. وفي كانون الأول/ديسمبر 2022، نصّ الاتفاق الإطاري التفاوضي الرامي إلى الشروع في عملية انتقالية من أجل إرساء حكم مدني، على دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. لكن الطرفَين اختلفا حول مهلة إنجاز هذا الدمج، إذ أراد الجيش فترة انتقالية مدتها عامان، فيما أرادت قوات الدعم السريع فترة انتقالية أطول تصل إلى عقد. وقد فاقم ذلك الخلافات بين الطرفَين.
يتمثّل بعدٌ آخر من النزاع الراهن في دور الإسلاميين. فقد ذكر أعضاء قوى إعلان الحرية والتغيير مخاوف متعلقة بعودة الإسلاميين إلى السلطة، ما لا يُعتبر بعيدًا تمامًا عن الواقع. فقبل شهر على اندلاع أعمال العنف، أشارت تقارير إلى حمل إسلاميين السلاح بمساعدة من الجيش. كما أُطلق أخيراً قادة من النظام السابق من سجن كوبر في الخرطوم. لا يزال من غير المعروف من أفرج عنهم، وسط تبادل الاتهامات بين قوات الدعم السريع والقوات المسلّحة. وكان أحمد هارون، أحد أبرز مساعدي البشير، من بين الذين أُطلق سراحهم، مع العلم بأنه أحد قادة الحركة الإسلامية السودانية ومطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية. وقد انتشر له تسجيل صوتي أبدى فيه تأييده للقوات المسلحة، ما عزّز المخاوف من احتمال عودة الإسلاميين.
البعد الثالث للصراع بين البرهان وحميدتي نابعٌ من خلفية الرجلَين. يتحدّر حميدتي من منطقة دارفور المهمّشة في غرب البلاد، في حين أن البرهان من بلدة قندتو الواقعة في شمال السودان، وهي منطقة هيمنت على المشهد السياسي طوال عقود. على الرغم من أن قوات الدعم السريع، التي كانت تُعرَف سابقًا بميليشيا الجنجويد، أُنشئت للمساعدة في القضاء على المجموعات المتمردة في دارفور، إلا أنها جنّدت عناصر من قبائل عربية يجمعها تاريخٌ من التهميش مع ضحاياها غير العرب في دارفور.
يُشكّل سعي حميدتي لفرض سلطته في العاصمة تحوّلًا رئيسًا في الوضع القائم المستمر منذ قرن من الزمن. وفي نهاية المطاف، سيستند تقدّمه على البرهان إلى قدرة قوّاته على التغلّب على القوة النارية المتفوّقة للقوات المسلّحة السودانية في المدن. تصبّ الأوضاع الإنسانية المتدهورة والضغوط الدولية في صالحه، فكلما طالت فترة صموده، تعزّزت حظوظه بامتلاك أوراق رابحة عند التوجّه إلى طاولة المفاوضات. ومن جهة أخرى، من الممكن أن يلجأ حميدتي، في حال طردته القوات المسلّحة السودانية من العاصمة، إلى تعبئة القبائل العربية في دارفور وخارجها، ما قد يهدّد وحدة السودان.
كذلك، يؤثّر القتال سلبًا على الحركة الاحتجاجية السودانية التي قادها في البداية تجمّع المهنيين السودانيين، ثم لجان المقاومة المحلية. وقد دفعت الاحتجاجات بمجلس السيادة الانتقالي إلى القبول باتفاق انتقالي بعد الانقلاب على حمدوك. ولكن بسبب القتال في الخرطوم اليوم، غالب الظن أن الحركة الاحتجاجية التي تعاني أصلًا من الضعف ستفقد مزيدًا من الزخم وكذلك القدرة على إجراء الإصلاحات. والحال هو أن أي تسوية مستقبلية قد تشهد اتفاقًا لتقاسم السلطة بين كلٍّ من الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، والمدنيين الذين يدورون في فلكهما.
من الممكن أن ترسم هذه النتيجة معالم المشهد السياسي السوداني، في ضوء نزوح أعداد كبيرة من المدنيين. علاوةً على ذلك، قد يُولّد النزاع الدائر التباسًا في ما يتعلق بالعمليات المختلفة لإنهاء حركات التمرّد المسلّح في مختلف أرجاء البلاد. وقد كانت هذه العمليات جزءًا من الاتفاق الإطاري أيضًا. والآن، بعد التحوّل التام الذي شهدته الأوضاع في البلاد، ليس واضحًا ما إذا كانت عمليات السلام هذه ستسلك طريقها نحو التنفيذ. على الأرجح أنها ستفشل، شأنها في ذلك شأن جميع الاتفاقات الانتقالية السابقة.
أخيرًا وليس آخرًا، ينطوي النزاع أيضًا على بعد إقليمي. تُقدّم مصر الدعم للجيش السوداني، في حين أن قوات الدعم السريع تحصل، كما يُزعَم، على المؤازرة من أفرقاء إقليميين، من ضمنهم الإمارات العربية المتحدة، وقائد الجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر، ومجموعة فاغنر الروسية. يكمن مصدر التمويل الأكبر لقوات الدعم السريع في مناجم الذهب، ما أدّى إلى تنامي نفوذها بشكل هائل على حساب الخزينة والمشاريع الإنمائية التي تشتدّ الحاجة إليها. قبل الانقلاب في العام 2021، كانت الحكومة المدنية تعاني من ضائقة مادّية ويحاصرها الجيش الذي كان يسيطر على حصّة كبيرة من الاقتصاد، ومن قوات الدعم السريع التي كانت تحصل على التمويل من أحد الموارد الأكثر تحقيقًا للأرباح في البلاد. لدى البرهان وحميدتي مصلحة مشتركة في إضعاف المعارضة المدنية، بغضّ النظر عن إعلانهما خلاف ذلك.
ولكن إذا استمرّت المواجهة العسكرية بينهما، فقد تضعف قبضتهما على السلطة، وقد يلجأ أفرقاء عسكريون آخرون –سواء كانت مجموعات متمردة قائمة حاليًا في المحافظات أو مجموعات جديدة– إلى تصعيد أعمال العنف، ما قد يتسبب بموجة نزوح أكبر في صفوف المدنيين. فحتى قبل النزاع الحالي، كان السودان يضم 1.1 مليون لاجئ و2.5 مليونَي نازح داخلي. والقتال، الذي تسبب حتى الآن بموجة نزوح واسعة من الخرطوم وأسفر عن خروج 60 في المئة من المراكز الصحية في العاصمة من الخدمة، قد يولّد سريعًا أزمة إنسانية كبرى ذات تداعيات إقليمية.
يجب أن يأخذ أي تدخّل سياسي دولي في الاعتبار الحاجة إلى إعادة إرساء التوازن في المشهد السياسي السوداني. ويعني ذلك تنفيذ عملية انتقالية تؤدّي إلى تعزيز القاعدة التمثيلية للمدنيين وتوسيع نطاقها بهدف المضي قدمًا بخطوات ثابتة. ومن شأن ممارسة ضغوط على الأفرقاء الإقليميين للانخراط في العملية بطريقة بنّاءة، أن يُساعد أيضًا في تمهيد الطريق من أجل إرساء سلام أكثر ديمومة. ذلك أن البديل قد يعني استمرار حالة انعدام الاستقرار في السودان، والتي قد تمتدّ لتطال دولاً مجاورة.
اضف تعليق