يتعين على واشنطن في المرحلة المقبلة وضع استراتيجيةٍ أكثر شموليةً تجاه مصر تشمل تقديم مساعداتٍ اقتصاديةٍ أكبر، وتسهيل الاستثمار من خلال ضمانات القروض، ودراسة خيارات الإعفاء من القروض، والاستفادة من نفوذ الولايات المتحدة على صندوق النقد الدولي. وقد يكون من المفيد أيضاً الطلب من الشركاء الخليجيين النظر...
بقلم: بين فيشمان
في ظل المهمة الشاقة المتمثلة باحتواء المعارضة الشعبية وتنفيذ الإصلاحات التي يطلبها "صندوق النقد الدولي" من دون إثارة حفيظة قاعدته العسكرية، قد يكون الرئيس السيسي أكثر استعداداً لتغيير مواقفه الجدلية من حيث حقوق الإنسان والسياسة الخارجية.
بينما يستعد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لزيارة القاهرة في 29 و30 كانون الثاني/يناير الجاري، يواصل الاقتصاد المصري التدهور إلى مستوياتٍ جديدة. ولا شكّ في أن الصدمة المزدوجة الناجمة عن انتشار جائحة كورونا واندلاع الحرب في أوكرانيا قد أثّرت بشدّة على البلاد نظراً لاعتمادها الكبير على الموارد المهددة مثل القمح وعائدات السياحة من روسيا وأوكرانيا. إلا أن السبب الرئيسي لمعاناة مصر يعود إلى انتشار سوء الإدارة الاقتصادية فيها في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بدءً من التلاعب بالعملة ووصولاً إلى سوء تحديد أولويات الإنفاق والمشاريع الضخمة المُهدرة وتحكُّم الدولة والجيش غير المبرر بالاقتصاد.
ومنذ آذار/مارس 2022، فقدت العملة المصرية نصف قيمتها ووصلت حالياً إلى 30 جنيه للدولار الأمريكي الواحد. ويعود ذلك إلى هروب الدولارات واشتراط "صندوق النقد الدولي" اعتماد سعر صرفٍ مرن، مما أدى بالنتيجة إلى ارتفاع معدل التضخم الرسمي بواقع 15 نقطة عما كان عليه في نهاية عام 2021 ليقارب نسبة 22% في كانون الأول/ديسمبر الماضي. وبالتالي، تنقطع الموارد بشكلٍ متكررٍ، وارتفعت أسعار السلع الأساسية بنسبة 40% تقريباً، وسيكون من الصعب ضبط ارتفاع سعر الخبز، الذي هو سلعة أساسية، لمزيدٍ من الوقت.
وفي غضون ذلك، ارتفعت نسبة الدَيْن المصري إلى "الناتج المحلي الإجمالي" إلى 95%، لتسجّل رقماً قياسياً بلغ 100 مليار دولار من دفعات القروض المستحقة خلال السنوات الأربع القادمة. وتخصص ميزانية مصر لعام 2022-2023 أكثر من 50% لخدمة الديون وسداد القروض، وسيزداد هذا الرقم المرتفع جداً أكثر فأكثر بمرور الوقت لأن القروض محتسبةٌ بالدولار.
لا بدّ لأحدٍ أن ينكسر
للخروج من هذه الأزمة المتفاقمة، وقّع "صندوق النقد الدولي" ومصر اتفاقيةً لمدة أربع سنوات بقيمة 3 مليارات دولار في 15 كانون الثاني/يناير بعد أسابيعٍ من التأجيل، وهي الاتفاقية الرابعة من نوعها بين الطرفين منذ عام 2016، لتصبح مصر بذلك الدولة ذات الديون الأكبر لـ"صندوق النقد الدولي" في العالم بعد الأرجنتين.
ولكن شروط الاتفاق الجديد أكثر صرامةً نظراً لأن القاهرة تجاوزت حصة الاقتراض السابقة المخصصة لها. فبالإضافة إلى اشتراط خفض الإنفاق الحكومي واتباع سياسةٍ مرنة بشأن العملة (مما يخفّض قيمة الجنيه المصري)، ينص برنامج "صندوق النقد الدولي" على تقليص الدولة دورها في الاقتصاد إلى حدٍّ كبير، بما في ذلك المصانع والشركات المملوكة للجيش. وفي المقابل، "من المتوقع أن يُحفز البرنامج الجديد تمويلاً إضافياً بحوالي 14 مليار دولار من شركاء مصر الدوليين والإقليميين، ويشمل ذلك تمويل جديد من دول ["مجلس التعاون الخليجي"] وشركاء آخرين من خلال البيع المستمر لأصول الدولة، فضلاً عن الأساليب التقليدية للتمويل من جهاتٍ دائنة ثنائية ومتعددة الأطراف".
وكان بعض هذه الخصخصة قد بدأ بالفعل مع شراء كل من قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أسهم في شركة "فودافون" مصر وعدة شركات أخرى (مثل شركات الأسمدة والخدمات اللوجستية). ولكن على الرغم من أن كل دولة من هذه الدول أودعت مليارات الدولارات في "البنك المركزي المصري" في وقتٍ بدأ فيه المستثمرون بسحب أموالهم في آذار/مارس الماضي، لم تنجح إضافاتها لاحتياطات القاهرة من النقد الأجنبي في وقف التراجع السريع للجنيه المصري.
وفي عام 2021 أفاد "صندوق النقد الدولي" بأن مصر تملك ما يقرب من ألف مؤسسة مملوكة للدولة أو مشاريع مشتركة و53 هيئة اقتصادية تعمل في عدة قطاعاتٍ استراتيجية مثل الخدمات اللوجستية والزراعة والنفط والغاز والكهرباء و"هيئة قناة السويس". وشهد قطاع التصنيع وحده انخراط المؤسسات المملوكة للدولة في مجالات صناعة الأنسجة والطباعة والتعبئة والهندسة والمواد الكيميائية والأغذية والمشروبات والمستحضرات الصيدلانية والمعادن، مما يشير إلى مدى ضلوع الدولة في الاقتصاد. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من هذه الشركات غير كفوءةٍ وفاسدة، وغالباً ما تحصل على إعفاءاتٍ ضريبيةٍ هائلة، ولا سيما تلك المملوكة للجيش.
ورداً على الضغط الخارجي بشأن هذه القضية، وافق السيسي على "سياسة ملكية الدولة" في 29 كانون الأول/ديسمبر ووضع أهدافاً جديدة للحدّ من هذه الممارسة. ولكن على الرغم من أهمية خصخصة هذه الصناعات لتعافي الاقتصاد المصري، سيكون من الصعب ضمان إنجاز هذه الخصخصة بشفافية نظراً للأسلوب الاستبدادي الذي تنتهجه الحكومة. وتجدر الإشارة إلى أنه عندما أعلن وزير المالية المصري أحمد جلال عن تخفيضاتٍ جديدة في الانفاق في مختلف الوزارات الشهر الماضي، استثنى منها وزارات الدفاع والداخلية والخارجية والصحة.
المعضلات المستقبلية
ربما تكون أصعب معضلةٍ يواجهها السيسي حالياً هي تحديده إلى أي مدى سيجازف بإغضاب مناصريه الأساسيين في الجيش من خلال بيع الشركات التي يديرونها أو خفض إنفاقهم على السلع المتطورة مثل الغواصات والطائرات المقاتلة المتقدمة. فحتى إذا خفّض عمليات الخصخصة إلى حدّها الأدنى، سيتعين عليه فرض ضريبةٍ أكبر على الشركات التي يديرها الجيش تنفيذاً للاتفاقية الجديدة لـ "صندوق النقد الدولي". فما هو عدد الامتيازات الاقتصادية التي سيفقدها الجيش قبل أن تتعرض قيادته للتهديد؟ وكان السيسي قد استبدل أساساً عدداً كبيراً من كبار الجنرالات على مدى العام الماضي ووضع فرع استخبارات الجيش تحت سلطته المباشرة.
أما فيما يتعلق بالمعارضة الشعبية، فقد يكون السيسي واثقاً من أنه يستطيع السيطرة على الاحتجاجات بالقمع بالرغم من التدهور السريع في الظروف المعيشية. فالاحتجاجات الشعبية التي كان من المتوقع أن تندلع خلال "مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ" في شرم الشيخ (COP27) الذي انعقد في تشرين الثاني/نوفمبر لم تحدث أبداً، ولكن ثمة إشاراتٍ تدلّ على ازدياد المعارضة، لا سيما عبر الإنترنت.
وقد يعتقد السيسي أيضاً أن بإمكانه الاعتماد على دعم دول الخليج إذا أصبح الوضع خطيراً للغاية، إلا أن قطر والسعودية والإمارات لم تفِ إلا بجزءٍ ضئيلٍ فقط من المليارات التي تعهدت بها لحكومته في السنوات الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، لم تحضر السعودية والكويت القمة التي انعقدت في 18 يناير/كانون الثاني الجاري في دولة الإمارات مع مصر والأردن، ما قد يشير إلى تراجُع دعم الدول المانحة للسيسي. وفي حين أن بيع أسهم الشركات المملوكة للدولة إلى دول الخليج يمكن أن يساعد القاهرة على اجتياز تحدي الخصخصة، إلّا أن ذلك لن يعود بالفائدة على القطاع الخاص في مصر.
وقد يحسب السيسي أن أصدقاءه في دول الخليج سيستمرون في إنقاذه إذا تأزّمت الأمور - بعبارةٍ أخرى، أن مصر أكبر من أن تفشل (مجدداً). ولكن عندما تصل الأزمة إلى هذا الحد، ستصعب الاستفادة من التمويل الخليجي الإضافي في الوقت المناسب لعكس مفاعيل الأزمة.
دور الولايات المتحدة
لطالما ركّزت العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر على أهمية القاهرة لأمن المنطقة، ولا سيما على دورها في الوساطة مع حركة "حماس" وفي الحفاظ على علاقاتٍ أمنيةٍ إيجابيةٍ مع إسرائيل. وتشير التقارير المصرية إلى أن هذه الأولويات تعزّزت عندما قام مدير "وكالة الاستخبارات المركزية" وليام بيرنز بزيارة السيسي في 23 كانون الثاني/يناير.
ومع ذلك، يتعين على واشنطن في المرحلة المقبلة وضع استراتيجيةٍ أكثر شموليةً تجاه مصر تشمل تقديم مساعداتٍ اقتصاديةٍ أكبر، وتسهيل الاستثمار من خلال ضمانات القروض، ودراسة خيارات الإعفاء من القروض، والاستفادة من نفوذ الولايات المتحدة على "صندوق النقد الدولي". وقد يكون من المفيد أيضاً الطلب من الشركاء الخليجيين النظر في طرق للحد من اعتماد مصر على المساعدات. وفي المقابل، يجب على القاهرة أن تتقبل إحداث تغييرٍ كبيرٍ في سياساتها بشأن روسيا والصين وحقوق الإنسان وليبيا.
روسيا. حافظ السيسي حتى الآن على موقفٍ حيادي بشأن الحرب في أوكرانيا لتفادي استفزاز موسكو ودفعها إلى قطع خط التجارة والمبيعات العسكرية والسياحة. على سبيل المثال، تقوم إحدى الشركات الروسية ببناء محطةٍ لتوليد الطاقة النووية بقيمة 30 مليار دولار في مصر، بتمويلٍ كبير من موسكو، بينما وضعت شركات روسية أخرى قدمها في المنطقة الصناعية في السويس. وحاولت موسكو تسهيل التجارة ودعم الجنيه المصري بربطه بالروبل. ومع ذلك، لا يزال بإمكان الولايات المتحدة إبعاد مصر عن روسيا من خلال تقديم حوافز إضافية إذا تفاقمت الأزمة.
الصين. يجب أن تُحذّر إدارة بايدن مصر من التقرب جداً من الصين للحصول على الدعم. فالتاريخ يُظهر أن الاستثمارات الأجنبية الصينية غير موثوقة ومشروطة باستيراد العمال الصينيين في غالب الأحيان، ولن يساعد ذلك السيسي في معالجة معدلات البطالة المرتفعة في مصر. علاوةً على ذلك، قد تؤدي شروط القروض الصينية إلى إغراق القاهرة في المزيد من الديون.
حقوق الإنسان. تعدّ حكومة السيسي من أكثر الحكومات انتهاكاً لحقوق الإنسان في العالم. فقد تم اعتقال نحو 60 ألف معتقل سياسي خلال عهد السيسي، وتوفي عدة مئات منهم في السجون، بمن فيهم أصحاب الجنسيات المزدوجة. وردّت الولايات المتحدة على هذا السجل الحافل بالانتهاكات باقتطاع مبلغ 130 مليون دولار من "التمويل العسكري الأجنبي" السنوي البالغ 1.3 مليار دولار الذي لطالما ساعد مصر على الحفاظ على معداتها العسكرية وضمان استمرار البلاد في شراء الأسلحة الأمريكية. ويشترط الكونغرس الأمريكي اليوم الحصول على تنازلٍ من جانب وزير الخارجية الأمريكي يؤكد أن مصر تتعامل مع مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان قبل تقديم مبلغ 300 مليون دولار من هذا التمويل، علماً بأن مجلس الشيوخ اقتطع مبلغ 75 مليون دولار إضافي من مخصصات العام الماضي. وفي هذا الإطار، أصدر الوزير بلينكن الإعفاء عن العامين الماضيين، ولا يزال المبلغ الكبير من "التمويل العسكري الأجنبي" على ما هو عليه.
ولكن بشكلٍ عام، لم يحسّن استخدام "التمويل العسكري الأجنبي" سجلّ حقوق الإنسان في مصر بشكل ملحوظ. يتعين على القاهرة خفض إنفاقها العسكري في جميع الأحوال، لذلك ليس من المنطقي أن تواصل واشنطن نزاعها الداخلي السنوي حول مبالغ "التمويل العسكري الأجنبي" التي لا تلبي الاحتياجات الحقيقية لمصر. وقد يركز النهج الأكثر فاعلية على كيفية قيام الولايات المتحدة بتسهيل الاستثمار في البلاد حالما يتحسن وضع الحريات المدنية فيها بشكلٍ ملموس.
ليبيا. لا تزال مصر تشكّل عائقاً كبيراً أمام إرساء الاستقرار في ليبيا. فبعد أن دعمت القاهرة خليفة حفتر في مغامراته العسكرية الضارة ضد طرابلس بين عامَي 2014 و2015 وأيضاً بين عامَي 2019 و2020، ترفض القاهرة اليوم الاعتراف بـ "حكومة الوحدة الوطنية" أو الانضمام إلى الاتفاقات الدولية التي تحدد الخطوات المستقبلية في هذا الصدد. ويمكن تفهُّم بعض المخاوف لدى مصر، فهي تعارض بشدّة وجود تركيا في ليبيا وتخشى عواقب انتخاباتٍ محتملة لا يمكنها السيطرة عليها. ولكن في الوقت نفسه، يمكن أن تدرّ ليبيا المستقرة ما يقدَّر بنحو 100 مليار دولار من الإيرادات إلى مصر وتمكين عشرات الآلاف من العمّال المصريين من العودة إلى وظائفهم عبر الحدود. وبناءً على ذلك، يجب على إدارة بايدن تغيير مسار الحوار بشأن ليبيا ولفت انتباه القاهرة إلى الفوائد الاقتصادية التي تنجم عن تعزيز بناء دولةٍ مجاورةٍ مستقرة لا تعاني من صراعٍ دائم.
اضف تعليق