إذا كنا بالفعل في خضم المراحل المبكرة لتحول جذري مرجح، فيجب على القادة أن يستعدوا لاحتمالية ظهور حقبة جديدة وأن يهيئوا أنفسهم لتشكيلها. وقد تدعو وجهة النظر الحالية إلى التشاؤم. ولكن رغم جميع حالات المد والجزر السابقة، استمر التقدم. إن عصرنا الحالي يتطلب العمل، لكن التاريخ يبعث...
بقلم: كريس برادلي
سيدني- أحيانا، لا يحدث سوى عام من التغيير على مدى عقد من الزمن، وأحيانا يحدث عقد من التغيير على مدى سنوات، وهو ما حدث خلال السنوات الثلاث الماضية- التي تميزت بجائحة كوفيد-19، والغزو الروسي لأوكرانيا، وأزمة كاملة فيما يتعلق بتكلفة المعيشة، وكلها أحداث تجري في ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة. وفي الواقع، تشبه هذه التغيرات ما حدث خلال سنوات صدمة النفط في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، التي أعقبتها جهود لاستعادة الاستقرار استغرقت ما يقرب من 20 عامًا. فهل يمكننا كتابة سرد جديد بشأن التقدم بوتيرة أسرع هذه المرة؟
لقد عشنا أحداثا صعبة في الماضي، أهمها الآثار المباشرة للحرب العالمية الثانية (1944-1946)، وأزمة النفط 1971-1973، وانهيار الإمبراطورية السوفيتية (1989-1992). وأحدثت كل من هذه الأحداث تغييرات جذرية، حيث غيّر كل منها المشهد العالمي، وأطلقت بصورة مفاجئة قوى أساسية قوية. وغيّر كل منها القواعد التي تحكم السمات الرئيسية لعالمنا، مما أدى إلى دخول العالم في حقبة جديدة. إلا أن التقدم استمر من خلال كل تلك الأحداث.
إذاً، هل نحن الآن على أعتاب حقبة جديدة؟ للإجابة على هذا السؤال، تتناول ورقة بحثية جديدة صادرة عن معهد ماكينزي العالمي خمسة أبعاد رئيسية لعالم اليوم: النظام العالمي (المؤسسات والأطر والقواعد التي تشكل الشؤون الدولية)؛ التكنولوجيا (المنصات والعلوم التطبيقية التي تمكّن من التطوير والابتكار)؛ التركيبة السكانية (الاتجاهات الهامة والخطوط الاجتماعية والاقتصادية في جميع أوساط فئات السكان)؛ الموارد والطاقة (أنظمة نقل الطاقة والمواد للاستخدام وتحويلها)؛ والرسملة (محركات العرض والطلب العالميين، والمسارات العامة للتمويل والثروة).
ويُنظر إلى كل هذه الأبعاد انطلاقا من تاريخ التحولات التاريخية التي حدثت في الماضي. إذ بعد زلزال الحرب العالمية الثانية، حدث انتعاش اقتصادي استمر تقريبًا حتى عام 1971. وأنشِئت الأمم المتحدة ومؤسسات "بريتون وودز"، وأصبح الدولار الأمريكي العملة الاحتياطية العالمية الفعلية المرتبطة بالذهب. وتحولت الاقتصادات والمجتمعات من التعبئة في زمن الحرب إلى إعادة الإعمار في زمن السلم. وفي مؤتمر "بوتسدام" الذي عُقد عام 1945، أنهت الولايات المتحدة رسميًا سياساتها الانعزالية وحملت راية الهيمنة. وتفاوض "جوزيف ستالين" على تقسيم أوروبا، وتسابقَ مع منافسيه لتطوير القدرات النووية للاتحاد السوفيتي. ووُضعت بذلك أسس الحقبة الأول، وهي فترة ازدهار ما بعد الحرب.
ولكن بعد ذلك بدأ ما نسميه "عصر الصراع"، الذي امتد من عام 1971 إلى عام 1989. إذ أدت الحرب المكلفة والصعبة في فيتنام إلى تقسيم الولايات المتحدة وكشفت عن حدود قوتها. ففي عام 1971، علق الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" فجأة قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وبدأ عصر النقود الورقية. وفي عام 1973، ساهمت صدمة نفطية سببها سعي أعضاء "الأوبك" للاستفادة من أصولهم- في ركود عميق وارتفاع تكاليف الطاقة على مدى 15 عامًا. وتحول الزخم نحو الشرق: تجاوز الناتج المحلي الإجمالي لليابان نظيره الألماني. وزار "نيكسون" الصين، مكسرا الجمود الدبلوماسي الذي استمر بين البلدين لمدة 25 عامًا.
وبعد ذلك، بدءًا من أواخر ثمانينيات القرن العشرين، تسببت ضغوط كامنة في حدوث زلزال آخر فتح حقبة جديدة أخرى. إذ سقط جدار برلين، وانهار الاتحاد السوفيتي، وأعيد تشكيل السطح الجيوسياسي لأوروبا. واجتاحت الحركات المؤيدة للديمقراطية أوروبا، وآسيا، وأفريقيا. وتم التوقيع على معاهدة "ماستريخت" في عام 1992، ومَثَّل ذلك قفزة إلى الأمام فيما يتعلق بالتكامل الاقتصادي والسياسي في أوروبا. وبعد أن أوقفت الصين التقدم، أعادت التزامها الكامل بإصلاحات السوق من خلال الجولة الجنوبية التي قام بها "دنغ شياو بينغ" عام 1992. وفي الوقت نفسه، أصبحت حرب الخليج فرصة تستعرض أمريكا من خلالها قوتها العسكرية الأمريكية.
وظهرت شبكة الويب العالمية أيضًا في عام 1989، وهو ما خلق ركيزة لثورة رقمية. ومضت الصين والهند قدما في الانضمام إلى الاقتصاد العالمي، مما أدى إلى تحقيق أكبر انخفاض للفقر شهدته البشرية على الإطلاق. ونُطلق على هذه الفترة اسم عصر الأسواق.
ويقودنا هذا إلى عصرنا الذي يتسم بالتقدم الملحوظ في مجالات الصحة، والثروة، والتعليم، وتعميق الترابط العالمي. وعموما، أصبح الناس أفضل حالًا. فقبل ثلاثة عقود، كان ما يقارب 35 في المائة من سكان العالم يعيشون في فقر مدقع. واليوم، انخفضت هذه النسبة إلى أقل من 9 في المائة. وكان التأثير التراكمي مذهلاً، والقواعد التي تحكمه كلها مستقرة تمامًا، على الأقل حتى الآن.
ولا نعرف حتى الآن ما الذي سينشأ عن الاضطراب الجديد. فعلى الرغم من أنه يمكننا رصد المسار الذي تتخذه التغيرات، إلا أن الأسئلة المعقدة فيما يتعلق بكل مجال من المجالات الخمسة لازالت عالقة. وفيما يتعلق بالنظام العالمي، يبدو أن هناك ميلًا نحو التعددية القطبية، لكننا لا نعرف حتى الآن كيف ستبدو الأمور عند ممارستها. هل سيبقى الاقتصاد عالميًا بطبيعته، وهل سنجد آليات عملية جديدة للتعاون غير الاقتصادي؟ هل يمكن لسنوات من الاعتدال النسبي في السياسة الدولية أن تفسح المجال لمزيد من الاستقطاب؟
وفيما يتعلق بالتكنولوجيا، رغم أن الدوافع الرئيسية للرقمنة والاتصال تقترب من نقطة التشبع، إلا أن موجة جديدة من التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، قد تخلق طفرة أخرى من الابتكار. فما هو تأثير ذلك على العمل والنظام الاجتماعي، وكيف ستتفاعل التكنولوجيا، والمؤسسات، والجغرافيا السياسية؟
وفيما يتعلق بالقضايا الديموغرافية، يتطور العالم الشاب إلى عالم حضري متقدم في السن أصبحت فيه الأمراض غير السارية الشغل الشاغل فيما يتعلق بالصحة. وفضلا عن ذلك، قد تخلق ظاهرة عدم المساواة داخل البلدان تحديا متزايدا للنسيج الاجتماعي. فهل "سنشيخ بصورة سليمة"، أم سيفشل رأس المال والمؤسسات في الاستجابة بصورة مناسبة لعدم المساواة؟
وفيما يتعلق بالموارد والطاقة، هناك رغبة قوية في تحويل الاستثمار نحو مصادر منخفضة الكربون، ولكن يبدو أن إجمالي الاستثمار في جميع أشكال الطاقة يكافح لمواكبة الاحتياجات. فهل يمكن للعالم أن يجد مسارًا ميسور التكلفة ومرنًا ومجديًا لاستقرار المناخ؟ ما هي الديناميكيات التي ستحدث بين من لديهم ومن ليس لديهم موارد مهمة؟
وأخيرًا، يبدو أن معدلات النمو الاقتصادي تعود إلى طبيعتها، وقد يتحول تزايد دعم التمويل والائتمان إلى ضغوط في الميزانية العمومية. وسوف يستمر قرن منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي في إفساح المجال أمام القرن الآسيوي.
وإذا كنا بالفعل في خضم المراحل المبكرة لتحول جذري مرجح، فيجب على القادة أن يستعدوا لاحتمالية ظهور حقبة جديدة وأن يهيئوا أنفسهم لتشكيلها. وقد تدعو وجهة النظر الحالية إلى التشاؤم. ولكن رغم جميع حالات المد والجزر السابقة، استمر التقدم. إن عصرنا الحالي يتطلب العمل، لكن التاريخ يبعث على آمال كبيرة.
اضف تعليق