وفي ظل تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا اليوم وتنامي زخم ائتلاف المعارضة على ما يبدو، ناهيك عن التشدّد الكبير في موقف بوتين، سيعمد أردوغان ربما إلى إعادة النظر في سلوكه السابق. فقد أظهر التاريخ أنه سياسي براغماتي قادر على إجراء تبدّلات كبرى في مواقفه السياسية. من الصعب التكهّن...
بقلم: مارك بييريني
في مشهد عالمي يزداد ضبابيةً، يمكن توقّع أن تكون السياسة الخارجية التركية مراوغة بالمثل.
منذ انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، انتهجت تركيا سياسة متوازنة، محاولةً استخدام نفوذها لتيسير الاتصالات بين البلدَين. سعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طوال سنوات إلى التوفيق بين عضوية بلاده في حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة وعلاقاتها مع روسيا من جهة أخرى. وقد تجلّت هذه المقاربة من خلال موافقة أنقرة على التزوّد بمنظومة الدفاع الجوي الروسي من طراز إس-400 في شهر تموز/يوليو 2019. لكن تنبّؤ مسار السياسة الخارجية التركية بات أصعب بعد التهديدات التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الفائت من خلال إعلانه التعبئة الجزئية للقوات المسلحة الروسية وتلميحه إلى إمكانية استخدام الأسلحة النووية، إضافةً إلى أولويات أردوغان الانتخابية.
اعتمد أردوغان منذ أشهر قليلة، في وجه الهموم الاقتصادية التي تواجهها تركيا والتراجع الملحوظ في شعبيته بحسب استطلاعات الرأي، سردية "الالتفاف حول العلم الوطني" لتأجيج المشاعر القومية في معسكره وتحييد منافسيه. في غضون ذلك، انكبّ الجهاز الإعلامي في أنقرة على الترويج لدور أردوغان بصفته صانع سلام وتوسّطه مع أمين عام الأمم المتحدة من أجل إبرام اتفاق بين روسيا وأوكرانيا. ومن خلف كواليس هذه السياسة، واصلت تركيا تزويد كييف بطائرات بيرقدار المسيّرة، فيما تملّصت من تطبيق العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، ووافقت على التحويلات المالية من كيانات روسية، وأبرمت صفقات مالية مع مؤسسة روساتوم وشركات النفط الروسية لتخفيف وطأة الأعباء الاقتصادية التركية.
في الوقت نفسه، حرص أردوغان على تعزيز صورته على الساحة الدولية، إذ رعى اتفاق تصدير الحبوب وحضر قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي عُقدت في سمرقند بصفته "شريكًا في الحوار" وليس عضوًا. لكن صورته بهتت إلى حدٍّ ما نظرًا إلى غيابه عن مراسم جنازة الملكة إليزابيث (التي لم يُدعَ بوتين إليها) وعدم لقائه الرئيس الأميركي جو بايدن في منظمة الأمم المتحدة.
لقد تفاقمت الأوضاع بوتيرة متسارعة الأسبوع الفائت على خلفية قرار بوتين التعبئة الجزئية في 21 أيلول/سبتمبر وإعلان عزمه على ضم مناطق أخرى من أوكرانيا، وتهديده باستخدام أسلحة الدمار الشامل، ما دفع الدول الغربية إلى إدانة موسكو والإعراب عن دعمها لكييف. وواجهت السياسة الروسية اعتراضات غير متوقّعة من الاتحاد الأفريقي والصين والهند.
لا شكّ أن استراتيجية الكرملين الجديدة تقلب المعادلة على المستوى الدولي. فقد قرّر بوتين تسريع عملية ضم منطقتَي دونيتسك ولوهانسك ومناطق أخرى من خلال إجراء استفتاءات صورية وزائفة، كي يتمكّن من اعتبار أن الدعم الغربي لأوكرانيا يشكّل "هجومًا على روسيا"، ويفتح مواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وقد بدأت إدارة بايدن، إلى جانب فرنسا والمملكة المتحدة وحلف الناتو، بتعديل استراتيجياتها. كذلك، بدأت الصين والهند بتكييف تصريحاتهما مع الوقائع الجديدة، وبالمثل ستضطر تركيا إلى مراجعة سياساتها.
تحمل تهديدات بوتين الجديدة تداعيات خطيرة بالنسبة إلى تركيا تحديدًا. ففي حال قرّرت روسيا استخدام الأسلحة النووية التكتيكية (أو أي أسلحة) ضد جزء من الأراضي المنضوية تحت لواء حلف شمال الأطلسي، ستكون تركيا مقيّدة بفعل البند الخامس من معاهدة حلف شمال الأطلس الذي ينص على أن الاعتداء على أي دولة في الحلف هو بمثابة اعتداء على الدول الأعضاء كافة، وبالتالي، ستنهار فورًا "سياسة التوازن" التي تنتهجها. مع ذلك، لا تزال أنقرة ترزح تحت وطأة ضغوط شديدة من الكرملين في المجالات العسكرية والمالية والسياحية والتجارية وشؤون الطاقة، وتعوّل كذلك على استمرار بوتين في تطبيق اتفاق تصدير الحبوب أو تعديله.
كان لتشديد الموقف الروسي تأثير فوري آخر في أنقرة، نظرًا إلى أنه يصعّب على أردوغان دور الوساطة. فهل من رئيس أوكراني أو غربي سيكون مستعدًا للحضور إلى اسطنبول من أجل مناقشة اتفاق وقف إطلاق النار أو أمن محطة الطاقة النووية فيما ترزح أوكرانيا والغرب تحت تهديد أسلحة الدمار الشامل الروسية؟ واقع الحال أن موقف الكرملين المشين أثار تساؤلات حول "التقارب" الذي تتفاخر به تركيا من بوتين.
أما النتيجة الثالثة التي قد تتكبّدها تركيا، فترتبط بمنطقة محورية لسياستها الخارجية، وهي منطقة شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط، ولا سيما قبرص واليونان وإسرائيل ومصر ولبنان وليبيا وفلسطين وسورية. لا تزال قضايا هذه المنطقة مهمة، بيد أن أهميتها تضاءلت فجأةً بفعل التهديدات الروسية الأخيرة، ونتيجةً لذلك، تراجعت قدرة تركيا على ممارسة نفوذها أو تحقيق مصالحها في جوارها المباشر.
إذًا، تواجه أنقرة راهنًا وقائع أصعب من ذي قبل. فهي لا تزال تعتمد بشكل كبير على علاقاتها الاقتصادية مع الدول الغربية، ولا سيما الاتحاد الأوروبي، في حين أن روسيا أو الدول الخليجية لا يمكن أن تقدّم لها سوى دعم مالي محدود. وقد أثارت مواقفها الحازمة حول قبرص أو اليونان أو سورية اعتراضات من المجتمع الدولي الغربي أو روسيا، بحسب كل حالة. فعلى سبيل المثال، سرت شائعات مفادها أن اعتراض الكرملين على تنفيذ تركيا عملية عسكرية خامسة في شمال شرق سورية دفع أنقرة إلى إرسال رئيس جهاز استخباراتها إلى دمشق لعقد اجتماعات رفيعة المستوى، وهذا أمر نادر الحدوث. صحيحٌ أن توقّع نتائج هذه المحادثات على المدى القصير مستحيل، إلا أنها تمثّل تغيُّرًا ملحوظًا في الموقف التركي.
وفي ظل تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا اليوم وتنامي زخم ائتلاف المعارضة على ما يبدو، ناهيك عن التشدّد الكبير في موقف بوتين، سيعمد أردوغان ربما إلى إعادة النظر في سلوكه السابق. فقد أظهر التاريخ أنه سياسي براغماتي قادر على إجراء تبدّلات كبرى في مواقفه السياسية.
من الصعب التكهّن بالخطوة التالية التي سيُقدم عليها الرئيس التركي خلال الأسابيع المقبلة. لكن ما نعرفه في الوقت الراهن هو أنه سيتعامل مع هذه التحديات واضعًا نصب عينيه هدفًا مهمًا واحدًا يتمثّل في ضمان إعادة انتخابه كرئيس للبلاد في حزيران/يونيو 2023. وهذا يعني أن المستقبل سيحمل معه المزيد من الضبابية واللايقين لسياسة تركيا الخارجية.
اضف تعليق