انقلب النظام العالمي رأساً على عقب، وأظهرت أحداث العام الماضي أن العالم انتقل إلى حقبة جديدة من السياسات الوحشية التي تتبعها القوى العظمى. ففي وقتنا الحاضر، تعيش الديمقراطيات الغربية عالماً لم تعد فيه المؤسسات المتعددة الأطراف قادرة على توفير الاستقرار أو الأمن الذي وعدت به من قبل...
توم توغندهات
،، يشهد العالم نقطة تحول وربما نهاية نظام ما بعد الحرب الباردة ،،
بعد ستة أشهر من الغزو غير المبرر الذي شنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على دولة ديمقراطية في أوروبا، يستيقظ الغرب على حقيقة مروعة ألا وهي عودة الدولة القومية. لقد ضعفت المؤسسات التي أنشئت من أجل تقييد اللاعبين المارقين، وبطريقة موازية، منحت التكنولوجيا الأنظمة الاستبدادية أشكالاً جديدة من النفوذ. وبدلاً من أن تلفظ القومية ألفاظها الأخيرة، جاء الهجوم على أوكرانيا ليظهر الاتجاه الجديد الذي تفرضه القوة.
فالمخاطر التي كانت ممكنة في السابق زاد احتمال حدوثها الآن أكثر. ويبدو أن ارتياب دول البلطيق بشأن روسيا في السابق أصبح له ما يبرره حاضراً. أما عن حياد فنلندا والسويد، والذي تم التغني به في الماضي، فلم يعد مناسباً أبداً. حتى تهديدات بكين ضد تايوان تبدو تحضيراً لشيء أكثر منه استعراضاً.
وفي الوقت نفسه، تعتبر حدة الرد الدولي على العدوان الروسي جديرة بالملاحظة أيضاً. لسنوات، كانت موسكو واضحة في خططها، هجمات إلكترونية على إستونيا عام 2007، احتلال جورجيا في عام 2008، والهجوم على أوكرانيا في عام 2014، ولكن كالعادة تعاملت أوروبا والغرب باستهتار مع هذه الأحداث وكأنها مجرد يوم آخر في العمل. لكن الأمور مختلفة هذه المرة، إذ تثبت الحكومات من طوكيو إلى ستوكهولم دعمها القوي لأوكرانيا من خلال المساعدات العسكرية والعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا.
لقد انقلب النظام العالمي رأساً على عقب، وأظهرت أحداث العام الماضي أن العالم انتقل إلى حقبة جديدة من السياسات الوحشية التي تتبعها القوى العظمى. ففي وقتنا الحاضر، تعيش الديمقراطيات الغربية عالماً لم تعد فيه المؤسسات المتعددة الأطراف قادرة على توفير الاستقرار أو الأمن الذي وعدت به من قبل. وبالنسبة إلى دولة مثل المملكة المتحدة، التي يعتمد نموذجها الاقتصادي والدبلوماسي على وضعها كدولة تملك علاقات عالمية، فإن الحالة الجديدة من عدم الاستقرار تمثل تهديداً بالغاً.
وحتى الآونة الأخيرة، كانت استجابة المملكة المتحدة لهذا العالم الجديد المتناقض غير ملائمة إلى حد خطير. فالسياسة الخارجية البريطانية، التي شكلتها عقود من العولمة في فترة ما بعد الحرب الباردة، وجدت نفسها غير مستعدة لمواجهة عودة الاستبداد والصراعات الجديدة المتفجرة التي رافقت ذلك. فضلاً عن ذلك، إن اعتماد الدولة على الآخرين للحصول على الطاقة والتكنولوجيا قد عرضها لأشكال جديدة وقوية من الضغوط الخارجية التي أضعفت أسسها الاقتصادية.
في كثير من الأحيان، كان رد فعل المملكة المتحدة هو تجاهل المشكلة أو التقوقع على نفسها، لكن ما عليها فعله بدلاً من ذلك هو استغلال نقاط قوتها التقليدية المتمثلة بالتواصل والدبلوماسية والتأثير على الغير، من خلال البحث عن أنواع جديدة من الشراكات مع الحلفاء الحاليين ومراكز القوة المستقبلية. ويجب أن تفعل ذلك في الوقت نفسه الذي تعمل على تقليل تعرضها للقوى الخبيثة وبناء مرونتها الاقتصادية في الداخل. نعم إن تحقيق الأمرين معاً سيكون أمراً صعباً، بيد أن الفشل في القيام بذلك قد يخاطر بتقليص دور البلاد لتصبح مجرد دولة تابعة للنظام العالمي الجديد. فكلفة الحفاظ على الوضع الراهن واضحة بالفعل، وهي لا تترجم في بانعدام أمن الطاقة بشكل متزايد والألم الاقتصادي الشديد فحسب، بل أيضاً في الزوال التدريجي للقيم الليبرالية التي تدعم الحرية.
داخل عالم خطير
لم تنطلق السياسة الخارجية البريطانية من هنا بالطبع. على مدى العقود الثلاثة الماضية، ومنذ نهاية الحرب الباردة وحتى العقد الأول من هذا القرن، ترسخ الترابط المتزايد والشراكات المتنامية في جميع أنحاء العالم. كذلك، عملت المؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، بكفاءة على العموم. حتى بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، كان التهديد الناجم عن الإرهاب الدولي غير متماثل ومحدود نسبياً، ولم يؤثر إلا على أجزاء صغيرة من الشبكة العالمية في الوقت نفسه، حتى لو وقعت حوادث معينة بشكل متكرر على نطاق أوسع. وفي الأماكن التي ظهرت فيها صراعات جيوسياسية، كتفكك يوغوسلافيا الفوضوي في تسعينيات القرن الماضي أو الحروب التي اشتعلت مجدداً في السودان واليمن، يبدو أنها نادراً ما هددت المؤسسات التي تدعم النظام الدولي.
خلال هذه السنوات، أدى تقدم الاتصال بشبكة الإنترنت إلى ازدهار وحرية ملحوظين لدى مئات الملايين من الناس، ليس في الغرب فحسب بل في جميع أنحاء العالم. وبطريقة موازية، وعدت التكنولوجيا والإنترنت بتوفير الفرص والانفتاح إذ إن حركة التجارة وتدفق المعلومات حققا نمواً وأقاما روابط جديدة بين البلدان والمجتمعات.
وقد وصلت تلك الحقبة المليئة بالأمل إلى ذروتها قبل بضع سنوات فقط. وهي لم تتسم بعلاقة تجارية مميزة بين المملكة المتحدة والصين فحسب، بل أيضاً بالاستراتيجية الصناعية التي استخدمتها ألمانيا، المبنية على الاعتماد بشكل متعمد على الطاقة الروسية عبر خطوط أنابيب بحر البلطيق. كذلك اتخذ صانعو السياسات والشركات آلاف القرارات الثانوية بناء على افتراض أن المنافسين الجيوسياسيين ما عادوا يشكلون تهديدات وأن المنافسة الاقتصادية كانت قائمة على قواعد ثابتة.
،، في المكان الذي رأى فيه القادة الغربيون مجالاً لازدهار جديد، وجد خصومهم نقاط ضعف جديدة ،،
لكن خلال العقد الماضي، انهارت تلك الافتراضات، إذ إن قوة العولمة التي جعلت المملكة المتحدة أكثر ثراء، وساعدتها على تخفيض نفقاتها، وربطت مواطنيها بشبكة عالمية، قامت أيضاً بمساعدة الحكومات الاستبدادية أيضاً في إنشاء الاحتكارات وتحويل المحاور [التجارية] الدولية إلى نقاط اختناق. على سبيل المثال، فإن هيمنة الصين على التصنيع، تجعل المواطنين البريطانيين يعتمدون طبياً على مدينة غوانزو الصينية للحصول على سلع لم تعد تصنع في أوروبا، هذا في الوقت الذي أصبحت فيه التجارة الآنية ليست مجرد مبدأ معتمد في سلسلة التوريد بل أصبحت طريقة يستخدمها الخصوم لتجميع القوة، وأدى البحث عن الفاعلية والكفاءة إلى الاعتماد على الغير، فيما زادت التكنولوجيا من وتيرة هذا التغيير الحاصل.
بيد أن هذه الأمور ليست الوحيدة التي تقوض الاستقرار العالمي. فإذا نظرنا من منظور بكين وموسكو، إلى الكوارث التي أحدثها الغرب، كالانسحاب الفاشل بقيادة الولايات المتحدة من كابول في عام 2021، فسنرى أن ذلك قد عزز مفهوم الضعف [الغربي]. عند مشاهدة إخفاقات واشنطن في أفغانستان، حيث أدى نفاد صبرها الاستراتيجي إلى ترك حلفائها مكشوفين، استنتج المستبدون أن الديمقراطيات الغربية فقدت الإرادة على التحمل. ربما يكون هجوم موسكو على كييف قد فشل، بيد أن الصين تراقب وتتعلم كيف تهدد تايوان. لقد انتهى إذا عصر "الخلاف القائم على الاحترام"، الذي كانت الديكتاتوريات تستفيد خلاله من استخدام الأنظمة القائمة، لا من كسرها. وفي المكان الذي رأى فيه كثير من القادة الغربيين، الذين يعتبرون أول جيل من فترة ما بعد الحرب الباردة، أن العولمة تزيد الاعتماد المتبادل وترفع من الكفاءة، وجد خصومنا فيها خلق نقاط ضعف جديدة.
يشهد العالم نقطة تحول وربما نهاية نظام ما بعد الحرب الباردة. لقد أعادنا هذا التحول إلى جو من المنافسة بين القوى العظمى، حيث تبني الدول الكبرى نفوذها وتؤكد مصالحها من خلال القوة وليس التفاوض.
هذه هي التطورات التي شهدناها، ومحفزات التغيير التي كنت أدعو إليها خلال السنوات الخمس التي قضيتها كرئيس للجنة الشؤون الخارجية في البرلمان. بدءاً من رد فعل الحكومة على سباق التسلح الجديد هذا وسرطان الحكم الفاسد الذي تحركه الأموال في لندن وويستمنستر، ووصولاً إلى التأثير المتزايد للأنظمة الاستبدادية في الجامعات البريطانية والمجتمع المدني. فاللجنة دعت إلى إعادة التفكير في سياسة الحكومة ككل وليس في الدبلوماسية فحسب، انطلاقاً من إعادة تقييم القوى الاقتصادية والجيوسياسية التي تشكل الدولة الآن. لفترة طويلة، تعاملت بريطانيا مع كثير من تلك التطورات على أنها قضايا سياسة خارجية منعزلة، عوضاً عن اعتبارها أعراضاً لمشكلات أكبر في الجسم السياسي بأكمله يستحيل حصرها في الشؤون الخارجية فحسب. ويكمن التحدي الآن في إيجاد طرق جديدة لتحقيق طموحات الشعب البريطاني من خلال تحديد الإجراءات في الداخل والخارج وسط الاضطرابات العالمية الهائلة.
خلال العام الماضي، أدت الأزمة الأوكرانية إلى إدراك متزايد لهذا التهديد الأكبر. في الواقع، أصبح كثيرون يفهمون الآن أن المملكة المتحدة لا يمكنها الازدهار، أو حتى البقاء حرة، إذا اضطرت للاختيار بين السماح بالتوسع المطرد للسلطة الاستبدادية أو مشاهدة اقتصادها يعاني بينما يفرض الطغاة ثمناً أعلى من أي وقت مضى وسط اضطرابات في الاقتصاد والطاقة. من الواضح الآن أنه سيتعين على البلاد أن تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير لضمان الأمن والمرونة الاقتصادية.
أقل هشاشة وأكثر رشاقة
في عهد سياسات القوى العظمى الجديد هذا، ينبغي ألا يتمثل رد الفعل بالانغلاق والتقوقع. عوضاً عن ذلك، يجب على المملكة المتحدة أن تعتمد على نقاط القوة التي عملت على صقلها على مدى عقود. بالنسبة إليها، تعد الشراكات مصدر قوة، إذ من الممكن معالجة التبعية الاقتصادية والافتقار إلى المرونة اللتين أصبحتا نقطتي ضعفها الرئيستين من خلال بناء العلاقات وليس الصواريخ فحسب.
فإذا ما عدنا إلى الوراء لوجدنا أن إنشاء التحالفات لمواجهة أكثر القضايا إلحاحاً في عصرنا كان الطريقة التي استخدمتها البلاد في خوض الحرب الباردة والفوز بها. وهذا أيضاً ما يجب القيام به للحرب والفوز في حروب المستقبل. فبعد انتصار الحلفاء في أوروبا واليابان، ساعدت المملكة المتحدة في جمع الحلفاء معاً من أجل إعادة تشكيل العالم. وقامت منظمة التجارة العالمية ونظام بريتون وودز النقدي بترسيخ التجارة والتعاون بين البلدان التي اعترفت بسيادة القانون كأولوية. على مدى العقد المقبل، سيتعين بناء شراكات جديدة لتوفير أساسات داعمة في عالم يتضاءل الاستقرار فيه أكثر فأكثر، والمملكة المتحدة في وضع ملائم يسمح لها بالقيام بدور رائد في بناء تلك الأساسات.
فلندن تستضيف واحدة من أكثر الشبكات الدبلوماسية شمولاً في العالم وتتمتع بنفوذ عالمي من خلال وسائل الإعلام وتقاليدها القانونية العريقة. كذلك، تمتلك المملكة المتحدة الموارد اللازمة لبناء جسور قد تمنع تركز القوة الاقتصادية والدبلوماسية لدى الأنظمة الاستبدادية، التي سعت باستمرار إلى زيادة اعتماد البلدان الأخرى عليها لكي تحمي نفسها من عواقب عدوانها.
لكن مثل هذا النهج لا يمكن ببساطة أن يتم من خلال استنساخ الشبكات العالمية التي كانت في العقود الماضية. ففي صميم الاستراتيجية البريطانية الجديدة يجب أن تكون هنالك فكرة بسيطة: على الرغم من الفائدة التي قد تجنيها من بناء علاقات تجارية مع مختلف بلدان العالم، ينبغي ألا يأتي ذلك على حساب الشراكات الأعمق بين الحلفاء المقربين الذين يشددون على الأمن ويتشاركون معها القيم. وعوضاً عن إعادة فتح التجارة والحوارات الاقتصادية مع الصين، يجب أن تركز الجهود على الشراكات مع دول الكومنولث وأوروبا وغيرها، مثل إندونيسيا، التي تسير على طريق أقرب إلى الغرب. فالتجارة التي تبنى على أساس الثقة تقوي القدرة على الصمود بدلاً من أن تضعفها.
،، يجب ألا تأتي العلاقات التجارية على حساب الأمن والقيم المشتركة ،،
بدءاً من الهياكل التعاونية المخصصة، يمكن للمملكة المتحدة أن تجعل الأنظمة الاقتصادية والدبلوماسية أكثر استجابة لاحتياجات الشعب البريطاني. وعوضاً عن السعي إلى بناء مؤسسة واحدة جديدة، يجب أن تسعى الدولة إلى سلسلة من الشراكات المتداخلة التي تغطي التجارة والطب والعلوم والدفاع والتكنولوجيا والهجرة في مناطق مختلفة من العالم. وفي الواقع، يمكن لهذه الشراكات الأصغر والأكثر رشاقة، أن تبني أساساً للتعاون في شأن القضايا الأكثر أهمية اليوم، مثل التكنولوجيا وتغير المناخ والأمن، كما يمكن تعميقها بمرور الوقت.
وتعتبر أوكوس (AUKUS)، وهي الاتفاقية الأمنية الثلاثية التي أبرمت بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في عام 2021، خير مثال على هذا النهج، وهي لا تحل محل الأمم المتحدة أو حلف الناتو، لكنها توفر إطاراً لتعاون أعمق في ما يتعلق بالتقنيات الحساسة والاستراتيجية، والأهم من ذلك أنه يمكن توسيع نطاقها، ومع نمو العنصر التكنولوجي للاتفاقية، يمكن لأجزاء مختلفة من الاتفاقية أن تشمل التعاون مع اليابان وألمانيا وربما فرنسا.
كذلك، تمهد الاتفاقية الجديدة عبر المحيط الهادئ، أو ما يعرف بـ"الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ" (CPTPP)، مساراً مشابهاً من خلال الشراكات التجارية بين دول المحيطين الهندي والهادئ السريعة النمو. وتعتبر المملكة المتحدة محقة في السعي إلى الانضمام إلى تلك الاتفاقية، إذ إنها من خلال النهج الذي حددته تلك الشراكة، يمكنها العمل مع القوى الاقتصادية الصاعدة، التي لا تشمل أعضاء رابطة دول جنوب شرقي البلاد فحسب بل أيضاً البرازيل والمكسيك ونيجيريا.
في هذا العصر الجديد من التنافس بين القوى العظمى، سيبقى للتعاون متعدد الأطراف دور يلعبه، لكن يجب على المملكة المتحدة إعطاء الأولوية للإصلاح في المجالات التي تتطلب حقاً إجماعاً عالمياً، مثل تغير المناخ. يمكن للبلاد أن توسع نطاق تأثيرها عن طريق توظيف خبراتها القانونية في صياغة اتفاقيات تستند إلى النفوذ إلى المحاكم البريطانية، وبناء المعايير العالمية حول الديمقراطية وسيادة القانون، إضافة إلى ذلك، سيتعين على الحكومة البريطانية أن تنظر في العقبات التي أوجدتها للآخرين، من التأشيرات والمؤهلات المهنية وصولاً إلى التعريفات والحصص [كمية البضائع المسموح استيرادها من بلد آخر]، والذين يسعون إلى استخدام رأس مالها وأسواقها. بالاعتماد على خبرتها في التجارة والمساعدات الخارجية والدبلوماسية والدفاع، تستطيع المملكة المتحدة تمكين استراتيجية أكثر مرونة واستجابة تجمع الشراكات الأصغر مع مزيد من الإجراءات العالمية عند الحاجة.
اقتصاد مقاوم للديكتاتورية
لكن الغرب يواجه أيضاً تحدياً اقتصادياً واسع النطاق. وكما هو الحال مع نظرائها، طالما أن المملكة المتحدة لا تزال تعتمد على التكنولوجيا الصينية والغاز الروسي، فسياستها الخارجية معرضة للخطر من جهات معادية، وهذا ببساطة يعني أن الدولة تحتاج إلى التفكير أكثر في ما قد تجنيه من معالجة نقاط الضعف الاستراتيجية الطويلة الأجل بصرف النظر عن الكلفة المباشرة، فلقد أظهرت الحرب في أوكرانيا ما يمكن أن يحدث عندما تكون دول قوية على استعداد لاستخدام قواها الاقتصادية وجبروتها العسكري، بالتالي سيكون من الحماقة ألا تحمي المملكة المتحدة نفسها من الهجمات التي تستهدف الاقتصاد البريطاني نفسه.
وهذا لا يمكن أن يعني العزلة، إذ إن الانفصال عن الاقتصاد العالمي ليس خياراً مطروحاً. في الواقع، تعتمد المملكة المتحدة على تايوان في أشباه الموصلات [Semiconductors] وعلى وادي السيليكون في خدمات البيانات وأشياء أخرى كثيرة، ولكن حتى مع الأصدقاء والحلفاء، تحتاج الحكومة البريطانية إلى التفكير في نقاط الضعف الخفية الكامنة في سلاسل التوريد الخاصة بها. وعلى نحو مشابه، هناك مجالات متعددة في قطاع الخدمات التي تعتمد بشكل متزايد على مجموعة صغيرة من الشركات، على غرار "شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات" (TSMC)، وشركة "أمازون"، وهذا من شأنه أن يزيد من الخطر على الاقتصاد.
تعني المرونة الاقتصادية أن نعالج بالشكل المناسب نقاط الضعف الهيكلية التي تشجع التبعية، ومع عودة المنافسة بين القوى العظمى، ستصبح الحرب الاقتصادية أكثر تواتراً، ولهذا ستحتاج المملكة المتحدة إلى بناء دفاعاتها وفقاً لذلك. فلا يمكن أن تحظى الدولة بسياسة خارجية مستقلة وقوية ما لم تكن أسسها أقل عرضة للصدمات.
،، الانفصال عن الاقتصاد العالمي ليس خياراً مطروحاً ،،
والمجال الأكثر وضوحاً في ذلك السياق هو الطاقة، لقد بني التفكير البريطاني في شأن الطاقة على أساس الافتراض الضمني بأن الوصول إلى أسواق الغاز العالمية يمكن أن يوفر الحماية التي تحتاج إليها بريطانيا من أجل إجراء التخفيضات المؤلمة والضرورية في مستوى انبعاثات الكربون ليصل إلى صفر، بيد أن استعمال روسيا لأسعار الطاقة كسلاح كشف ضعف هذا النهج.
إذاً، ستحتاج الدولة إلى توليد مزيد من الطاقة محلياً، سواء من خلال السماح بإنشاء محطات إضافية للطاقة النووية وتطوير صناعة نووية محلية أقوى، أو تسريع اعتماد مصادر الطاقة المتجددة عن طريق تقصير الفترات الزمنية اللازمة لبناء البنية التحتية اللازمة لها أو تحديثها، أو حتى تعزيز الاستكشاف في بحر الشمال من خلال منح مزيد من التراخيص. وربما تكون الخطوة الأكثر إلحاحاً، هي أن تعمل المملكة المتحدة مع شركاء مثل كندا لكي تثبت أهمية قيام الدول الديمقراطية باستكشاف وتصدير مزيد من موارد الطاقة، وذلك بهدف ضمان الحصول على الوقود الأحفوري من الحلفاء، وليس من الأعداء.
وينطبق المبدأ نفسه على المجالات الأخرى التي تعاني الندرة، من أشباه الموصلات إلى المعادن الحيوية، والجدير بالذكر أن الصين بذلت جهوداً منسقة لإنشاء احتكارات في هذه المجالات، فإذا ما أحسناً النية فبكين قد تريد من ذلك حماية احتياجات سوقها المحلية، أما من وجهة النظر الأكثر واقعية فهي أنها تسعى إلى الاستفادة من قوتها الاقتصادية من أجل التأثير على المنافسين، ولكن حتى الآونة الأخيرة، لم تفعل المملكة المتحدة سوى القليل جداً لحماية صناعاتها الحيوية، على الرغم من مشاركة المنافسين في سرقة منهجية للابتكارات البريطانية وحقوق الملكية الفكرية.
تتطلب هذه المشكلة مزيداً من التدقيق في عمليات البيع إلى جهات أجنبية. وفي سياق متصل، يمنح قانون الأمن القومي والاستثمار (National Security and Investment Act) الجديد الصلاحيات التي تحتاج الدولة إليها، ومن المفترض أن تكون الآن مستعدة لاستخدامها والنظر إلى ما وراء تأثير السوق، إلى الآثار الأعمق لأي صفقة دولية. وهذا ما يستدعي نهجاً أكثر صرامة للتعاون في البحوث الدولية والشركات البحثية الجامعية [شركات تم تشكيلها خصيصاً لتطوير التكنولوجيا الناشئة من الجامعة أو معهد البحث]، كما يستدعي فهماً أفضل لمجالات العلوم والابتكار البريطانية التي تستحق الحماية، وتعتبر استراتيجية الحكومة للمعادن الحيوية، المعلن عنها في يوليو (تموز) الماضي، التي توضح كيف ستوفر الدولة سلاسل التوريد لهذه الموارد، خير مثال على النهج المطلوب لتحديد مجالات الضعف الاستراتيجي وإيجاد حلول لها. وحاضراً، يطلب الشيء نفسه في مجالات مثل أشباه الموصلات والبيولوجيا التركيبية.
القيادة من خلال الدعم
فوق كل شيء، تستطيع المملكة المتحدة زيادة مرونتها من خلال الاستفادة من شراكاتها الاستراتيجية مع الشركاء الديمقراطيين الرئيسين. وفي ذلك الإطار، تظهر الشراكة مع الولايات المتحدة في مجال الاستخبارات والتكنولوجيا النووية كيف يمكن للحلفاء الموثوق بهم تعزيز القوة المشتركة وخفض الكلفة. وبتوسيع نطاق نظرنا، من الممكن تصور شبكة تجارية أكثر تكاملاً من شأنها تقليل الاعتماد على المصادر غير الموثوقة. وكما أظهر التاريخ، لا تتعلق التجارة بالربح فقط. فبإمكان بريطانيا والولايات المتحدة تأسيس محورٍ جديدٍ للنمو من خلال تعزيز خدماتهما الرامية إلى زيادة الترابط وتعزيز التنمية والانفتاح في جميع أنحاء العالم، ما يمثل تحدياً لشبكة التعاملات الصينية. أكان في الولايات الفردية أو في الحكومة الفيدرالية، فإن من شأن هذا الانفتاح أن يعزز رفاهية المواطنين الأميركيين والبريطانيين ويفتح الأسواق أمام الملايين.
وتجدر الإشارة إلى أن الأمر لا يقتصر على الحلفاء الرئيسين. ففي مواجهة التهديدات المتزايدة من الأنظمة الاستبدادية في السنوات الأخيرة، ارتقت دول متعددة إلى مستوى القيادة. ففي الدفاع عن الديمقراطية، كانت ليتوانيا مثلاً واضحة وقوية في الوقوف إلى جانب تايوان. في المقابل، تولت إستونيا دوراً ريادياً على الصعيد العالمي في تحديد معايير جديدة للحوكمة الرقمية، في مجالات تتراوح بين الخدمات العامة الرقمية إلى الأمن السيبراني. ومنذ عام 2008، استضافت مركز التميز للدفاع الإلكتروني التعاوني التابع لحلف شمال الأطلسي (NATO”s Cooperative Cyber Defense Center of Excellence)، الذي يسمح لأعضاء الحلف بمشاركة المعلومات وتطوير استراتيجيات جديدة لمواجهة الحرب السيبرانية. بالنسبة إلى كلا البلدين، يمكن للدعم البريطاني القوي أن يعزز تأثير جهود مماثلة ويساعدهما في تحقيق النتائج المرجوة لشعبيهما وللمملكة المتحدة. ومن خلال دعم مبادرات أخرى مشابهة، يمكن للحكومة البريطانية تقوية حلفائها وتشجيع الاستقرار والقيم الديمقراطية.
ولا يتعلق الأمر بالمملكة المتحدة فحسب، بل أيضاً بمصير الديمقراطية والحرية والقدرة على مواجهة الأمور على الصعيد العالمي. إن قدرة الديمقراطيات على التكيف وإعادة البناء هي السبب الرئيس وراء تفوقها على الأنظمة الاستبدادية، إذ يمكن أن تستدير وتغير وجهتها من دون أن تفقد توازنها، فتقلب الضعف الهيكلي الذي تضخه القوى الاستبدادية المركزية في اقتصاداتنا المتشابكة، ما يجعل المجتمعات أقوى، والجدير بالذكر أن القيم الأساسية للمجتمعات المنفتحة هي على المحك: الحق في اختيار وتغيير القادة والتوجهات، والحق في النقد والتصحيح، والتجربة والنجاح، وبالطبع، الحق في الفشل أيضاً. هذه أمور مفيدة لكل أمة بغض النظر عن طريقة الحكم فيها.
إن تقسيم عالمنا الحالي إلى دول قومية حازمة حديثة التكوين سيؤدي إلى خلق احتكاكات، ولكن باستخدام أشكال جديدة من التعاون، من الممكن تحويلها إلى نقطة قوة بالنسبة إلى ديمقراطيات العالم، ما يدفعها إلى بناء شبكات جديدة تتضمن في جوهرها منافسة وقيماً يمكن أن تولد المرونة التي يحتاج الغرب إليها، هذا هو الدور الذي قد تلعبه المملكة المتحدة، فيما تبني تحالفات وشراكات أكثر فاعلية، ولكن لا يمكنها القيام بذلك إلا إذا أدركت حجم التحدي، وحشدت القوى اللازمة لتحقيقها.
اضف تعليق