على مستوى الإطار، فيبدو أنه سيستغل إنهاء التيار الصدري اعتصامه للدعوة إلى عودة المؤسسة التشريعية للعمل، والبدء في آليات تشكيل حكومة، يقودها هو؛ ما يدل على تسرّع الصدر في الاستقالة من مجلس النواب، لأن كتلته كانت ستشكّل حاجزًا ضد انتخاب حكومة محاصصة جديدة، وهو ما سيفرض انتخابات جديدة...
بلغت الأزمة السياسية التي يعيشها العراق، منذ انتخابات مجلس النواب العراقي المبكرة التي جرت في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ذروتها في 29 آب/ أغسطس 2022؛ حين تحولت الأزمة إلى مواجهة مسلحة بين التيار الصدري وبعض قوى الإطار التنسيقي، الذي يضم قوى وتنظيمات قريبة من إيران، سقط فيها أكثر من 30 قتيلًا ومئات الجرحى[1]. جاء هذا التصعيد بعد نحو شهرٍ من اعتصام مفتوح لأنصار زعيم التيار الصدري (التيار)، مقتدى الصدر، في مبنى مجلس النواب العراقي، في المنطقة الخضراء ومحيطه، احتجاجًا على ترشيح قوى الإطار التنسيقي (الإطار)، عضو مجلس النواب العراقي، محمد شياع السوداني، لتولي منصب رئاسة الحكومة[2]. وقد اعتصم مناصرو الإطار أمام بوابة الجسر المعلّق خارج المنطقة الخضراء، ردًّا على اعتصام أنصار التيار، مطالبين بتشكيل حكومة جديدة وإنهاء تعليق عمل مجلس النواب[3]. ورغم احتواء المواجهات المسلحة التي شهدتها البلاد يوم 29 آب/ أغسطس[4]، لا يبدو أنّ الأزمة السياسية في طريقها إلى الحل.
من الانتخابات إلى الاحتجاجات
أُجريت انتخابات مجلس النواب المبكرة في العراق في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، بوصفها نتيجة للحركة الاحتجاجية التي انطلقت في خريف 2019، وقادت إلى استقالة حكومة عادل عبد المهدي (تشرين الثاني/ نوفمبر 2019)، وتشكيل حكومة مصطفى الكاظمي (أيار/ مايو 2020)، التي تَمثّل هدفها الرئيس في إجراء انتخابات مبكرة. وقد فاز التيار الصدري بأكبر عدد من مقاعد مجلس النواب، بحصوله على 73 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا، وسعى إلى تشكيل تحالف برلماني باسم "إنقاذ وطن" مع تحالف "السيادة" (يمثل المحافظات السنّية) الذي حصل على 37 مقعدًا، والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي حصل على 31 مقعدًا. في المقابل، ظهر تحالف الإطار التنسيقي، وهو تجمع برلماني تشكّل في آذار/ مارس 2021 من أجل تنسيق مواقف القوى الشيعية الموالية لإيران، وأهمها ائتلاف دولة القانون وتحالف الفتح وآخرون، بقوة برلمانية قوامها 58 نائبًا[5]؛ ما يعني تراجع التأييد لإيران والميليشيات المسلحة في المحافظات الشيعية لمصلحة قوى تؤكد على الدولة والوطنية العراقية.
وبعد فوز التيار الصدري، دعا زعيمه مقتدى الصدر، إلى تشكيل حكومة أغلبية سياسية[6]، في حين عُدَّ ذلك خروجًا على تقاليد المحاصصة التي تكرست منذ عام 2003. ويقوم نظام المحاصصة في العراق على مستويين. فالمستوى الأول هو توزيع المناصب السياسية الرئيسة على المكونات الإثنية والدينية والطائفية، وفق معادلة ثابتة تقريبًا للمكونات الرئيسة أو الكبرى (العرب الشيعة "50 في المئة +1"، والعرب والسنة "20 في المئة"، والكرد "20 في المئة")، مع "كوتا" للأقليات الأخرى. أمّا المستوى الآخر، فهو توزيع المناصب التنفيذية داخل القوى السياسية الممثلة لكل مكوّن، بحسب حجمها الذي تفرزه الانتخابات.
حاول الصدر تشكيل حكومة أكثرية، مع قوى كردية وسنّية من دون أن يسبق ذلك توافق شيعي، وهو الأمر الذي فجّر حالة الصراع القائم حاليًّا؛ إذ تداعت القوى الشيعية الأخرى - بالتحالف مع القوى التي لم تنخرط في الائتلاف الذي دعا إليه الصدر - إلى منع انعقاد جلسة انتخابات رئيس الجمهورية، الذي يتولى تكليف مرشح الكتلة الكبرى بتشكيل الحكومة، وفقًا للمادة 76 من الدستور[7]؛ وذلك بمنع اكتمال النصاب القانوني. وينص الدستور العراقي (المادة 70/ أولًا) على أن انتخاب رئيس الجمهورية يكون بأغلبية ثلثي الأعضاء[8]. وقد جرى الاصطلاح على تسمية الثلث الذي تملكه القوى الشيعية المعارضة للصدر بـ "الثلث المعطل"[9]. هكذا جرى تعطيل نشوء حكومة أغلبية أفرزتها نتائج الانتخابات؛ فقد أدى الفشل في انتخاب رئيس جديد للعراق إلى تعطيل قدرة التيار الصدري وتحالفه على تشكيل حكومة جديدة. وبررت قوى الإطار موقفها هذا بأنّ مقترح التيار لتشكيل حكومة أغلبية يهدد النظام التوافقي القائم في العراق منذ عام 2003[10]، بمعنى أنه يُخرجها من عملية اقتسام موارد الدولة التي ينظر إليها على نطاق واسع من القوى السياسية باعتبارها "غنيمة"، علمًا أن الانقسام بين القوى الشيعية لا يقتصر على تشكيل الحكومة، بل يتعداها إلى طريقة إدارة الدولة ووجود الميليشيات وطبيعة العلاقة مع إيران[11]. ومن المهم تذكّر أن الحراك الثوري الذي شهده العراق منذ عام 2019 كان عنوانه ربط الفساد الإداري والمالي بالمحاصصة الحزبية الطائفية؛ هذه المحاصصة التي لم تكتفِ باقتسام المناصب العليا، بل إنها امتدت أيضًا إلى وظائف الدولة كلها على حساب الكفاءة والمهنية وحسن الأداء.
وفي ضوء إفشال رؤية التيار المتصلة بتشكيل حكومة أغلبية سياسية والعمل السياسي من داخل مجلس النواب، قرر نوابه الاستقالة، في 12 حزيران/ يونيو 2022، امتثالًا لقرار زعيمهم الذي برر انسحابه بعدم رغبته في المشاركة مع "الساسة الفاسدين" في إدارة شؤون البلاد، وذلك في ضوء الضغوط المتزايدة عليه لتشكيل حكومة محاصصة[12]. وبدت هذه الخطوة مقدمةً لانتقال الصراع من الإطار المؤسسي إلى الشارع؛ ففي 27 تموز/ يوليو 2022، اقتحم عشرات الآلاف من أتباع الصدر مبنى مجلس النواب العراقي، ودخلوا في اعتصام مفتوح في مبنى المجلس ومحيطه[13]، ثم اقتحموا مقر مجلس القضاء الأعلى في بغداد، واعتصموا أمامه في 23 آب/ أغسطس 2022. وقد عبّر أنصار التيار الصدري بتحركهم هذا عن رفض ترشيح الإطار، الذي أصبح الكتلة الأكبر في مجلس النواب، بعد استقالة نواب الكتلة الصدرية، محمد شياع السوداني، لرئاسة الحكومة الجديدة[14].
حسابات الصدر وتياره
يشكّل انسحاب نواب الكتلة الصدرية من مجلس النواب جزءًا من استراتيجية يعتمد فيها زعيمها - الذي يستمد جزءًا مهمًّا من قوته من كونه سليل عائلة سياسية ودينية عراقية مؤثّرة - على قدرته على الحشد والتعبئة داخل الشارع الشيعي، مستندًا إلى الاستياء العام في الشارع العراقي الناجم خصوصًا عن فشل الحكومات العراقية المتعاقبة في التصدي للأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة. وكان الصدر قد استعمل هذه الاستراتيجية في احتجاجات ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عندما طلب من أنصاره دعم الاحتجاجات ومطالبها بتغيير "الطبقة السياسية الفاسدة"، والعمل على تشكيل حكومة جديدة، قبل أن يعود ويطلب من مؤيديه الانسحاب من ساحات التظاهر في ساحة التحرير والساحات الأخرى في المحافظات العراقية لدعم مقترحه "تجديد الثورة الإصلاحية السلمية"[15].
وقد سعى الصدر، من خلال نقل معركته إلى الشارع، إلى إجبار الإطار التنسيقي على قبول مرشحه لرئاسة الحكومة من جهة، ومنعه من تشكيل الحكومة من جهة أخرى، لتتشكل ديناميكية يجري فيها التوجه إلى انتخابات مبكرة، نتيجةً لاستمرار حالة "الاستعصاء السياسي". ويتوقع الصدر أن تعزز أي انتخابات جديدة موقعه باعتباره القوة السياسية الأكبر في البلاد. ويُعتقَد أن الصدر قد يذهب حتى إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فربما يسعى إلى إطاحة النظام السياسي الذي تأسس عام 2003. من هنا، أطلق التيار على حراكه الاحتجاجي الجديد اسم "ثورة عاشوراء"[16]. وفي كل الأحوال، لا يبدو أن الصدر في وارد ترك الفراغ ليملأه خصومه في قوى الإطار التنسيقي. فعلى الرغم من إعلانه الانسحاب من العملية السياسية في حزيران/ يونيو 2022، فإنه أراد، عبر جولة الاحتجاجات الأخيرة، أن يعلن عودته بقوة إلى العملية السياسية؛ من خلال الشارع هذه المرة. ويبدو أنه ظل مترددًا في الانسحاب من مجلس النواب حتى قبل الإعلان عنه بوقت قريب، فقد جاءت الخطوة بعد أيام من تمرير قانون "الدعم الطارئ للأمن الغذائي والتنمية" الذي دعمه باعتباره "انتصارًا آخر لفسطاط الإصلاح"[17]. لكنّ أسبابًا عديدة دفعت الصدر إلى حسم موقفه في اتجاه الانسحاب والتوجه إلى الشارع؛ ففضلًا عن رغبته في تعزيز شرعيته، فإنه يسعى إلى إظهار مكانته داخل النظام السياسي، وإظهار أنّ له قاعدة جماهيرية متماسكة، وأنه قادر على حشدها وتعبئتها أنّى يشاء، وأنه قادر على إفشال مساعي خصومه السياسيين في تشكيل حكومة جديدة بعيدة عنه.
ردود فعل الإطار التنسيقي
سعى الصدر، من خلال نقل معركته إلى الشارع، إلى إجبار الإطار التنسيقي على قبول مرشحه لرئاسة الحكومة من جهة، ومنعه من تشكيل الحكومة من جهة أخرى، لتتشكل ديناميكية يجري فيها التوجه إلى انتخابات مبكرة، نتيجةً لاستمرار حالة "الاستعصاء السياسي". ويتوقع الصدر أن تعزز أي انتخابات جديدة موقعه باعتباره القوة السياسية الأكبر في البلاد. ويُعتقَد أن الصدر قد يذهب حتى إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فربما يسعى إلى إطاحة النظام السياسي الذي تأسس عام 2003. من هنا، أطلق التيار على حراكه الاحتجاجي الجديد اسم "ثورة عاشوراء".
عوّلت قوى الإطار على سياسة "شارع مقابل شارع". فقد قابل الإطارُ السياسة التي اعتمدها الصدر، بشارع مقابل، من خلال إطلاقه اعتصامًا أيضًا في حدود المنطقة الخضراء وسط بغداد؛ إذ أعلنت قوى أنصار الإطار، في 12 آب/ أغسطس 2022، بَدْء اعتصام مفتوح على أبواب المنطقة الخضراء في بغداد، ردًّا على احتجاجات أنصار التيار الصدري، وإن بدت قدرتها على الحشد محدودة مقارنةً بقدرة الصدر. وعلى نحوٍ موازٍ، حاولت قوى الإطار احتواء الصدر من خلال الدعوة إلى الدخول في حوار بدلًا من التعبئة الشعبية. وقد أيد هذا التوجه جلّ زعماء الإطار التنسيقي، بمن فيهم نوري المالكي، الذي تنازل عن قيادة الحوار مع الصدر لمصلحة زعيم كتلة الفتح، هادي العامري، وذلك في اجتماع قوى الإطار، في 3 آب/ أغسطس 2022[18]. ويبدو أن الهدف من هذه الحركة كان إقناع الصدر بالحوار مع أطراف أكثر مقبولية لديه داخل قوى الإطار؛ أخذًا في الحسبان بالخصومة الشخصية الشديدة التي تميّز علاقة الصدر بالمالكي. وفي المقابل، وضعت قوى الإطار التنسيقي شروطًا للحوار مع مقتدى الصدر والقبول بمبادرته؛ من أبرزها حلّ مجلس النواب والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وإقالة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، وتشكيل حكومة مؤقتة يعيَّن رئيسها بالتوافق ما بين التيار والإطار، وأن تكون مهمتها إجراء انتخابات مبكرة في موعد لا يتجاوز أيلول/ سبتمبر 2023، على أن يجري ذلك كله داخل قاعة مجلس النواب[19].
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه القوى التي جمعها التصدي لصعود الصدر حتى لا يكون القوة الشيعية الرئيسة، لم تتفق فيما بينها على سياسة معيّنة لمواجهته، بعد اعتصام أنصاره في مجلس النواب، وقد بدا ذلك بوضوح في الانقسام الذي حصل داخلها بشأن الدعوة إلى مواجهة الشارع الصدري بشارع مقابل. لكنّ هذا الانقسام لا يلغي حقيقة أن المالكي يبقى القوة الرئيسة داخل تحالف الإطار التنسيقي حيث يحاول فرض رؤيته على شركائه بخصوص التعامل مع خصمه[20].
آفاق الانسداد السياسي
أسفرت المواقف المتشددة التي اتخذها التيار والإطار، بعد أن أصر الصدر على مطلبه المتمثّل في إجراء انتخابات مبكرة، مقابل إصرار الإطار على مرشحه لرئاسة الحكومة، عن نقل الأزمة إلى مواجهة مسلحة. وبغض النظر عن الكيفية التي بدأت فيها المواجهة (أنها أعقبت اقتحام أنصار التيار للمنطقة الخضراء ولرئاسة الجمهورية)، فإنها قد عبرت عن حالة انسداد الأفق التي بلغها الطرفان. فعلى مستوى التيار، لم يستطع الصدر حشد القوى التي تشكّل العمود الفقري للاحتجاج إلى جانبه، ولا سيما القوى المدنية والعلمانية، وفي قلبها قوى الحراك الثوري لعام 2019. ومن ثم، فإنه عجز عن تحويل ما سمّاه "ثورة عاشوراء" إلى ثورة عامة، وهو أمرٌ كان سيضفي شرعية وطنية أكبر على حركته. لقد ظلت قوى تشرين وناشطوها مترددين في الانضمام إلى الصدر، بسبب تجربة التحالف السابقة معه في إطار الحركة الاحتجاجية، سواء كان ذلك في احتجاجات 2015/ 2016، أو في الحراك الثوري 2019، التي وصلت إلى الصدام. أما على مستوى الإطار، فيبدو أنه سيستغل إنهاء التيار الصدري اعتصامه للدعوة إلى عودة المؤسسة التشريعية للعمل، والبدء في آليات تشكيل حكومة، يقودها هو؛ ما يدل على تسرّع الصدر في الاستقالة من مجلس النواب، لأن كتلته كانت ستشكّل حاجزًا ضد انتخاب حكومة محاصصة جديدة، وهو ما سيفرض انتخابات جديدة. ولكن حكومة الإطار، التي ربما تتشكل بعد عودة المجلس إلى العمل، قد لا تكون حكومة مستقرة لناحية وضعها الشعبي.
خاتمة
تمثّل المواجهات المسلحة في 29 آب/ أغسطس 2022 "تمرينًا مصغرًا" لما يمكن أن يقود إليه صدام شيعي - شيعي، في بلد أصبحت فيه الميليشيات أقوى من الدولة، ولديها من السلاح الكثير. وقد دفعت هذه المخاوف إلى إطلاق مختلف الأطراف دعوات للعودة إلى طاولة الحوار، للاتفاق على ظروف إجراء "انتخابات مبكرة"، بحسب ما جاء في خطاب رئيس الجمهورية، برهم صالح، في اليوم التالي للمواجهات[21]. وقد تفضي هذه الديناميكية إلى تشكيل حكومة مؤقتة تقود إلى إجراء الانتخابات. غير أن هذا المخرج السياسي المؤقت، وإن قاد العراق إلى انتخابات وحكومة جديدتين، فإنه لا يحل الأزمة؛ ذلك أنها أزمة منظومة حزبية طائفية تستغل دستورًا ديمقراطيًّا لتحوّل النظام إلى نظام محاصصة طائفية.
اضف تعليق