يستمر لبنان بمواجهة تراكم أزمات خطيرة، بما يشبه الامتحان التاريخي، دون أن يكون مستعداً له على الإطلاق. بل إن مسار التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ينبئ بأن لبنان مقدم على كارثة لا عودة عنها من شأنها أن تمحو الصيغة التي كانت له بأمسه، وأن تزيل ما كان...
بقلم: حسن منيمنة
يستمر لبنان بمواجهة تراكم أزمات خطيرة، بما يشبه الامتحان التاريخي، دون أن يكون مستعداً له على الإطلاق.
بل إن مسار التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ينبئ بأن لبنان مقدم على كارثة لا عودة عنها من شأنها أن تمحو الصيغة التي كانت له بأمسه، وأن تزيل ما كان له من أفضليات، وتتركه أزمة متقرّحة لأهله، لجواره وللعالم أجمع.
وإذا كان ثمة حالة مشابهة لما يعيشه لبنان اليوم فهي الحالة الصومالية في مطلع التسعينات من القرن الماضي، يوم شهد الصومال تلاشي أجهزة الحكم وانحدار المجتمع إلى العشائرية والجماعات المسلحة وعصابات قطاع الطرق والقرصنة. الفارق بين الحالتين الصومالية واللبنانية هو أن الموقع الذي يسقط منه لبنان هو أكثر ارتفاعاً، ويمكن بالتالي الترقب أن تكون نتائج السقوط، رغم ما عاشه الصومال من ألم ودمار، أكثر فتكاً وأذى.
والكارثة قد بلغت للتوّ مستويات يعجز التصدي لها، وأصابت لبنان بجميع مقوماته، غير أن اعتبار حجمها ممكن عند النظر إلى ضررها في وجهين وحسب من الأوجه التي كان لبنان يعتمد عليها إلى أمس قريب.
القطاع المصرفي: ذهب ولن يعود
قبل الحرب التي عاشها لبنان بين العامين ١٩٧٥ و١٩٩٠، كان القطاع المصرفي اللبناني الأكثر تطوراً في منطقة الشرق الأوسط، وكانت الإيداعات فيه هي الأعلى. غير أن عودة هذا القطاع إلى العمل واسترجاعه لوهجه في عقود ما بعد الحرب لم يكن من خلال تحديث الأدوات وتطوير النظم لمنافسة المراكز المصرفية الصاعدة في المنطقة، من دبي والمنامة إلى عمّان.
بل كانت عودة هذا القطاع من خلال استقطاب المودعين والمستثمرين، وذلك ابتداءاً للاستفادة من مشاريع إعادة الإعمار الضخمة التي كانت مهيأة للبنان بعد خروجه من أتون الحرب. وحتى بعد أن تراجع طموح مشروع الإعمار إلى ما يقارب التلاشي، ولا سيما بعد مقتل رائده الأول، رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام ٢٠٠٥، فإن القطاع المصرفي في لبنان تمكن من المحافظة على جاذبيته من خلال تقديم مستويات مرتفعة جداً من الفوائد، بما يشكل استدانة مالية هرمية على حساب الأجيال التالية من اللبنانيين، دون بذل أي جهد يذكر لتبرير هذا التوجه من وجهة نظر السياسات النقدية أو المالية أو الاقتصادية.
بل إن الدولة اللبنانية، لتغطية نفقاتها المتصاعدة دون حساب، مع انخفاض الدخل نتيجة الرداءة المشهودة للاقتصاد اللبناني والذي يستنزفه الفساد السافر، عمدت إلى الاقتراض من المصرف المركزي، وذلك وفق تأطير قانوني تحوم الشبهات حول جوازه وصحته. ولتأمين الأرصدة الكافية لهذه القروض، عمد المصرف المركزي بدوره إلى «الهندسات المالية»، والتي شجعّت المصارف الخاصة على مضاعفة إيداعاتها في المصرف المركزي مقابل فوائد بنسب فائقة الارتفاع. ومعه أمسى من الأصلح، والأكثر أماناً وتحقيقاً للأرباح المضمونة، من وجهة نظر المصارف، إيداع ما لديها في المصرف المركزي بدلاً من استثماره في النشاط الاقتصادي المحلي.
بل سعت المصارف للاستفادة من هذه الفرصة إلى استجلاب رؤوس أموالها بالعملة الصلبة والمودعة في المصارف الخارجية، وإيداعها بدورها في المصرف المركزي حيث من شأنها أن تنمو بسرعة نتيجة الفوائد العالية. ولا شك قطعاً أن المخاطر المترتبة عن هذه المجازفة المالية الهرمية كانت مفهومة، إذ شهدت المصارف سحوبات دورية لمبالغ ضخمة من حسابات كبار المتمولين جرى تحويلها إلى الخارج مجدداً، لتستقرّ في الحسابات الشخصية للسياسيين وكبار رجال الأعمال ومن هم بمحيطهم.
ولكن، مع اقتراب استحقاق السندات الحكومية، ومع تدني الإيداعات الجديدة نتيجة الأحوال الاقتصادية العالمية، ظهرت ملامح انفراط عقد الترتيب الهرمي المخادع، وصولاً إلى انكشاف الحقيقة للمودعين في المصارف اللبنانية، أنه ليس ثمة احتياطي مالي يؤمّن إيداعاتهم، بل أن أرصدتهم هي وحسب قيود وهمية في سجلات المصرف المركزي على ذمة حكومة لبنانية لا خيار لها إلا التخلف عن الدفع. وفي حين أن المودعين محرومون من الحصول على إيداعاتهم، فإن المصارف ما زالت مستمرة بتحصيل الرسوم الدورية الباهظة لاحتفاظها بأموال ترفض إخلاء سبيلها، بل لا وجود فعلياً لها في حقيقة الأمر.
يوم يبلغ لبنان مرحلة ما بعد الكارثة، ويرتفع البحث عن حلّ للنهوض، فإن المعضلة الحقيقية التي تواجه اللبنانيين هي في كيفية التعويض عن المودعين، وجلّهم من اللبنانيين المقيمين والمغتربين، نظراً أن المتوفر كأساس للتعويض يقتصر على الأملاك العامة التي بيد الدولة، وهي على ندرتها، الحاجة إليها ماسة، دون أن ترتقي إلى المستوى الكافي، لاستنهاض الدولة والمجتمع والاقتصاد.
أما اليقين الذي لا يعتريه شك اليوم، بالنسبة لأي مودع ائتمن ماله للقطاع المصرفي اللبناني، فهو أنه لا مكان لديه للثقة بهذا القطاع والتعويل عليه في المراحل التالية. ومن منتهى الصعوبة استشفاف أحوال تسمح لهذا القطاع باسترجاع اهتمام المودعين والمستثمرين وثقتهم به. بل إن النتيجة الأقرب إلى التحقق الأكيد هي أن القطاع المصرفي اللبناني ذهب ولن يعود.
الكفاءات المهنية اللبنانية: استنزاف خطير
رغم تعرّض المؤسسات التربوية والجامعية في لبنان للتراجع الجدي في مرحلة الحرب بين العامين ١٩٧٥ و١٩٩٠، فإن القطاع التعليمي قد تمكن من النجاة، بل شهد استنهاضاً تصحيحياً وتطويرياً في عقود ما بعد الحرب. ومع أن ترتيب الجامعات اللبنانية عالمياً قد تراجع، فإن لبنان قد استمر في احتضان أوساط إبداعية أثمرت عن كفاءات مهنية نشيطة ومتطورة، يشهد عليها نجاح العديد من أصحاب المبادرات في تجاوز العوائق والقيود التي وضعتها أمامه النظم الإدارية البالية لتحقيق الإنجازات القيّمة في أكثر من مجال وقطاع. ثم أن العديد من الإخصائيين المتقدمين والحائزين على الشهادات العليا اختاروا البقاء في وطنهم، وذلك رغم تضافر الفرص في الخارج، ورغم المصاعب التي واجهوها في لبنان.
الواقع الجلي لشريحة أصحاب الكفاءات في المجتمع اللبناني هو أنها عالمية الطابع، توازن بين مصالحها ونمط حياتها، من مكان إقامة ومركز عمل ومكان دراسة ووجهات ترفيه، بين وطنها لبنان، والدول الغربية، ودول الخليج، وأفريقيا. إلا أن الظروف التي يواجهها لبنان منذ عامين، والتي كشفت عن الطبيعة المزيفة للاستقرار الاقتصادي فيه، قد أرغمت معظم شريحة أصحاب الكفاءات على اتخاذ قرارات صعبة، بحكم الضرورة لا الاختيار. ذلك أن فرص تحقيق الدخل قد تراجعت إلى ما يقترب من التلاشي، في حين أن البرامج والدوائر المهنية، في الجامعات والمستشفيات والمختبرات وغيرها تنحسر وتتضاءل، وتخفت إمكانية استمرارها. بل الواقع أن كافة أوجه الحياة التي يتوقعها أصحاب الكفاءات تتجه إلى أن تصبح متعذّرة في لبنان.
وقد أدّى كل هذا إلى حالة متفاقمة من الخروج والمغادرة، أي إلى استنزاف الكفاءات المهنية اللبنانية. وقد سبق أن شهد لبنان حالات مشابهة من النزوح المهني إلى الخارج لاعتبارات غالبها أمني، تلحقها عودة بعد انحسار الخطر. ولكن الحالة المستجدة، في إظهارها لتحديات تكشف واقعاً اقتصادياً غير مسبوق، قد أصابت الشرائح المهنية بأصول معيشتها. أي حتى إذا تمكن لبنان من تجاوز أزمته الحالية، فإنه يفتقد الموارد للاحتفاظ بشريحة محلية من الكفاءات المهنية القادرة على الإبداع والإنتاج، بل تكاد الطبقة المهنية في لبنان أن تتجه إلى الزوال.
ضياع ثقة المواطنين بالطبقة الحاكمة
خطر الانهيار المحتم الذي يواجهه لبنان يتجلى مادياً بأشكال عدة. وجهه الاقتصادي الأبرز هو انهيار قيمة العملة الوطنية وما يصاحبه من انخفاض قدرتها الشرائية، وانكماش الاقتصاد، والتضخم، والبطالة. على مستوى الحياة اليومية، يبلغ الإحباط أوجّه جراء الانقطاع المنهك للتيار الكهربائي، مع تراجع قدرة المولدات، والتي توفّر الطاقة الكهربائية الإضافية، على الإنتاج والتوزيع. ويظهر أيضاً في الرفع المتواصل والمرتقب للدعم عن السلع الغذائية الأساسية، وفي شحّة وقود السيارات والتدفئة وارتقاع أسعاره. الوجه الاجتماعي للانهيار واضح في تآكل الطبقة الوسطى وانحدار الشرائح الأقل يسراً إلى العوز والفقر المدقع، وفي تداعي بنى الدولة، وفي زوال المؤسسات الثقافية والاجتماعية. صحيّاً، يتضح الخطر في الإجراءات المبتورة لمواجهة الجائحة، وفي تداعي النظام الطبي والاستشفائي، في وجهيه العام والخاص، وفي افتقاد الصيدليات إلى المخزون المطلوب من الأدوية والمواد الطبية.
على أن الأزمة تتضاعف وتتضخم مع فقدان المواطنين لأية ثقة بالسياسيين وبمؤسسات الدولة وخدماتها. وقد جاءت التظاهرات التي اندلعت في السابع عشر من تشرين الأول ٢٠١٩ للتعبير عن ضياع هذه الثقة، فجمعت اللبنانيين في لحظة حماس، وفي توقع للتغيير الثوري والإصلاح البنيوي. على أن الطبقة السياسية قد تمكنت من احتواء ما واجه نفوذها من تحديات، وجيرّت الجائحة برشاقة مشهودة لتبديد الاندفاع الثوري ووأده.
ورغم نجاح الطبقة الحاكمة بضبط الأوضاع لصالحها، فإن الاحتقان في أوساط المواطنين بلغ حدّاً غير مسبوق نتيجة الانفجار في مرفأ بيروت، في الرابع من آب ٢٠٢٠، والذي شكل نموذجاً مصغّراً عن مصاب لبنان. فالانفجار قد كشف مجدداً عن مستوى الاختلال والفساد في مؤسسات الدولة، ولا سيما في اجتهاد الطبقة السياسية مجتمعة بمناورات تجنب الخضوع للمساءلة. وما زاد الغضب هو عودة كبار السياسيين إلى الانغماس بمناكفاتهم، كما كانت أحوالهم قبل تشرين الأول ٢٠١٩، وكأن شيئاً لم يكن، تاركين لبنان دون حكومة ترعاه في وقت الضيق الشديد. والأنكى هو أن الأدلة تواترت حول إقدام هؤلاء الشركاء المتخاصمين ضمن الشريحة السياسية على ترصّد الفرص الخلاقة للمزيد من الاستيلاء على الأموال الواردة من أية محاولة خارجية، دولية أو ثنائية، لتقديم الدعم للبنان في ساعة احتياجه.
أي على الرغم من خطورة المشاكل المادية التي يواجهها لبنان، فإن المسألة العميقة الأصلية هي ضياع ثقة المواطنين بالقادة السياسيين. ورغم هذه العلّة الخطيرة، فإن كل من الزعماء يبقى مطمئناً إلى قدرته على البقاء، من خلال اللجوء إلى التعبئة الطائفية، أي إلى استدعاء الدعم من قاعدته لحماية نفسه من الإدانة العامة للطبقة السياسية في وسطها.
ذلك أن اللبنانيين ككل متوافقون على الطعن بالطبقة السياسية مجتمعة، غير أنه في كل طائفة أعداد كافية من الذين هم على استعداد لإيجاد الأعذار للزعيم السياسي الخاص بطائفتهم، بما يستثنيه من الإدانة العامة. وحصيلة تكرار هذا النمط من طائفة إلى أخرى هو ضمان بقاء كافة كبار الزعماء السياسيين، بمن فيهم من ينال أشنع النعوت من مجموع المواطنين.
بصيص أمل في جيل جديد
وعلى الرغم من وقوع لبنان في عظائم الأمور، ثمة بصيص أمل لا يزال قائماً في رأسماله البشري.
والإجماع المتنامي في صفوف الناشطين من أجل الإصلاح هو أن مفتاح الخروج من المأزق يكمن في تعزيز التواصل بين المواطنين اللبنانيين على أساس «أفقي»، أي من خلال إبراز القضايا المعيشية المشتركة وتوسيع الاهتمام بها ليتجاوز الاصطفاف «العامودي» القائم. ذلك أن هذا الخط «العامودي» القائم على المشاعر الطائفية والمصالح الزبائنية هو الذي يتيح لزعماء الطبقة السياسية الاستمرار في مواقعهم.
ويبدو أن هؤلاء الزعماء يشعرون بالقلق إزاء الروابط «الأفقية» في المجتمع اللبناني، والتي قد تتجلى وتتعزّز من خلال تحقيق الإصلاح، ما يفسّر تخلّفهم عن التجاوب مع الدعوات الإصلاحية، سواء منها الصادرة عن المواطنين اللبنانيين أو عن القادة الدوليين. فالإصلاح لا يحرم الطبقة السياسية من كسبها الفاسد وحسب، بل يضرّ بقدرتها على توظيف الزبائنية لضمان ولاء القواعد الشعبية للزعماء، كل على حدة.
والطبقة السياسية اللبنانية ليست متجانسة إلى حد الأحادية. أي أنه فيها كذلك العديد من الذين يسعون صادقين إلى تحقيق الصالح العام والذين هم على استعداد مبدئي للشروع بالإصلاح. غير أن الواقع القائم اليوم هو أن مصلحة الطبقة السياسية ككل هي في المحافظة على حالة «التوازن المستقر» القائمة على النهب الممنهج والفساد، والضامنة لبقائها من خلال توفير القدرة للزعماء لمكافأة من يواليهم بما يحرم السياسيين الذين قد يختارون سبيلاً خالياً من الفساد من إمكانية الاستمرار. فالحقيقة المرّة في لبنان اليوم هي أنه من الأسهل على السياسيين والأنجع لهم اللحق بركاب الفساد.
على أن لبنان يشهد للتوّ تحوّلاً جيلياً. ذلك أن «جيل الحرب»، أي الذين تشكلت بنيتهم الذهنية خلال سنوات الحرب الخمس عشرة، يتراجع في القدرة على الإبداع وفرض الحضور على المجال العام رغم استمرار إمساكه بمفاصل الهيمنة الفعلية على النظام السياسي، ليحلّ محلّه «جيل الجمهورية الثانية»، أي الذين اكتملت بنيتهم الذهنية في تسعينات القرن الماضي والسنوات الأولى من الألفية الجديدة.
ليس هذا تحولاً جيلياً سلساً، بل أن الجيل الصاعد يشهد على الغالب دحراً وإقصاءاً من أية مشاركة فعلية لإعادة صياغة الدولة والمجتمع. وهذا التوصيف هو على أي حال إجمالي، متفاوت عند التفاصيل. ولكنه كذلك فرصة هامة نظراً إلى الاختلاف الملموس في منظومة القيّم التي تؤطّر التوجّه العام لكل من هذين الجيلين. بقدر من التبسيط يمكن القول بأن «جيل الحرب» قد أعاد تفسير تجربة الجيل السابق له، جيل «العصر الذهبي» للبنان والمتشكل بين العامين ١٩٦٠ و١٩٧٥، على أنها زائفة، وأن ازدهار لبنان كان في معظمه وهماً وسراباً.
الطاغي على «جيل الحرب»، في المراحل المتعاقبة، وإن دون تصريح، كان التشاؤم والشعور بأن الانهيار قادم لا محالة، ما طبع الكثير من أنماط سلوكه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وما تحوّل إلى قبول ضمني أوسع للفساد، وإلى رضوخ للاحتلالات المتعاقبة التي عاشها لبنان، وإلى تسليم وإن صامت أن أيام العزّ قد ولّت. في المقابل فإن «جيل الجمهورية الثانية» قد تشبّع تفاؤلاً وقناعة أن لبنان بوسعه أن يكون جزءاً من مجتمع دولي منفتح ومتطلع إلى الأمام، وإن واجهته الصعاب الآنية.
طبعاً، لا تتبدل التوجهات الاجتماعية والثقافية بشكل قطعي بين الجيل والآخر، والأجيال ليست وحدات مستقلة منفصلة. غير أنه يمكن استشفاف تبدل هام ودقيق في السلوك والقيم بين هذين الجيلين، مجدداً بالإجمال. فاللبنانيون من «جيل الحرب» قلّ إن خرجوا من بلداتهم أو قضائهم، فيما هم حافظوا على الوعي والتراتبية طبقياً ومناطقياً، كما كان قد توطّد لدي جيل «العصر الذهبي» السابق، بل زادوا على ذلك. أما اللبنانيون من «جيل الجمهورية الثانية»، فالعديد منهم قد نشأ مستكشفاً لبنان إلى مناطقه النائية، وتمكن من خلال اكتسابه الوعي العالمي واعتماده على وسائل التواصل الاجتماعي من تذليل الكثير من مزاعم العيوب التي سبق أن ألصقت بالأطراف.
بل إن «ثورة» تشرين الأول ٢٠١٩ كانت بوضوح حدثاً لـ «جيل الجمهورية الثانية» سواء من حيث تركيبة المشاركين فيها أو من حيث خطابها. وعليه فإنها قد أبرزت الطاقة الكامنة في هذا الجيل كما كشفت عن مواطن الضعف فيه.
لا يزال للبنان، بأجياله المتعاقبة، وانطلاقاً من ثروته الإنسانية والثقافية، وبناءاً على إطار الحرية النسبية للإبداع والتعددية، والذي تفاوض اللبنانيون للمحافظة عليه، قدراً لا يمكن التفريط به من الفرص للنهوض من الكارثة التي حلّت به.
من المفترض أن يشهد العام المقبل ٢٠٢٢ انتخابات نيابية. ولا شك أن الأفضلية لا تزال للطبقة السياسية الحاكمة. على أن البديل الحقيقي للأمر الواقع ربما قد بدأ يتشكل من صفوف المجموعات والأفراد المشاركين بتظاهرات تشرين الأول ٢٠١٩، وبما سبقها من حراك واحتجاجات. ولا سيما حين يعمد هؤلاء إلى التركيز على الأمور الحياتية الملموسة والتي فاقمت الأزمة الحالية من جسامتها، وإلى الإدانة العاقلة للممارسات الفاسدة والسجل الهزيل إلى حد العدم للطبقة السياسية.
المسائل المناطة بمن يتحمل المسؤولية السياسية في لبنان أربع: أولاً، توقيف انهيار مؤسسات الدولة والتصدي لتآكل البنية الاقتصادية والاجتماعية. ثانياً، توفير الدعم الأولي للذين أضرّ بهم ما حصل من انهيار. ثالثاً، استرجاع ما أمكن من الموارد المهدورة والتأسيس لإطار محاسبة ومساءلة. ورابعاً، الشروع بإصلاح الإطار الإداري والبنيوي بما يحقق الصالح العام ويمنع معاودة الانحدار إلى كارثة أخرى.
هذا حمل ثقيل يقارب الاستعصاء بالنسبة للبدائل السياسية اللبنانية إذ تتشكل، والصعوبة مضاعفة إذ تنال منظومة الفساد الدعم والتعزيز من جانب الاحتلال الإيراني الفعلي، والذي، بأمر من طهران، يهدد بحروب في المنطقة من شأنها القضاء على لبنان. ولكن ذلك لا ينفي أن العديد على بينة من جسامة المهمة وعلى استعداد للشروع بالتصدي لها بإصرار وواقعية. هؤلاء يسعون إلى التمكين، إلى الحصول على موطئ قدم في المجلس النيابي للشروع بمسار النهوض الطويل والخروج من المأزق والعودة بالسياسة في لبنان إلى دورها المتوقع بخدمة المواطن. في هذا الوطن، حيث لا حياء ولا خجل لدى الطبقة السياسية في إمعانها بالفساد، يتوجب على الأسرة الدولية بدورها، بما فيها الولايات المتحدة، ألا تردد بالتوجه إلى دعاة التغيير بما يحتاجون إليه من الانتباه والنصيحة والدعم المعنوي.
اضف تعليق