الرسالة حملت توقيع آلاف الضباط. أما المرسل إليه فهو ايمانويل ماكرون، رئيس فرنسا. والمحتوى تعبير عن قلق عما اعتبره الموقعون أخطاراً جسيمة تواجه الدولة الفرنسية. حتى ميعاد الرسالة حمل معنى: بالضبط في الذكرى الستين لتحدي جنرالات في الجيش الفرنسي لقرار الرئيس الفرنسي وقتها، شارل ديغول...
بقلم: طارق عثمان، كاتب ومعلق سياسي
الرسالة حملت توقيع آلاف الضباط. أما المرسل إليه فهو ايمانويل ماكرون، رئيس فرنسا. والمحتوى تعبير عن قلق عما اعتبره الموقعون أخطاراً جسيمة تواجه الدولة الفرنسية. حتى ميعاد الرسالة حمل معنى: بالضبط في الذكرى الستين لتحدي جنرالات في الجيش الفرنسي لقرار الرئيس الفرنسي وقتها، شارل ديغول، بالخروج من الجزائر. وقد كان ذلك التحدي الوحيد من العسكرية الفرنسية للسلطة المدنية المنتخبة في كل تاريخ فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الرسالة أثارت جهات عديدة في السياسة الفرنسية. والغالب أن عدداً كبيراً من الضباط الموقعين سيتعرضون للمساءلة، والبعض قد يتعرض لعقوبات. لكن ذلك لا ينفي ما احتوته الرسالة، والتداعيات التي سوف تترتب عليها.
المحتوى مهم:
الموقعون عبّروا عن مشاعر قوية عند مجموعات كبيرة من الشعب الفرنسي - مشاعر ترى في الهجرة من دول ذات غالبية إسلامية، وترى في غالبية المهاجرين من أصول إسلامية، مشكلة كبيرة في المجتمع الفرنسي. كثيرون في هذه المجموعات يوصفون المشكلة على انها خطر على المجتمع والدولة.
توصيف تلك المشاعر على أنها كره عرقي لا يُغير من واقع أنها موجودة وعلى نطاق واسع. على العكس، عدم النظر بوضوح لتلك المشاعر والتمعن في ما تؤدي إليه يعني إبقاءها تحت السطح. وذلك سيؤدي إلى ازديادها وتوغلها في طبقات مختلفة من المجتمع.
وهنا مربط الفرس: أن عدداً من النافذين في واحدة من أهم مؤسسات الدولة، بواحدة من كبرى الديمقراطيات في أوروبا، رأوا في ما يروه خطراً يستدعي، ليس فقط تحذير السلطة التنفيذية المنتخبة، ولكن أيضًا الخروج على واحد من أهم مبادئ الديمقراطية في الدول الغربية – وهو عدم تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة.
وهنا يجب النظر الى التداعيات:
أولا: إن نوعاً من التدخل قد حدث بالفعل .. صحيح أن الجيش كمؤسسة لم يتدخل، ولكن عدد الموقعين، واختلاف مواقعهم وأجيالهم، يعني ان فكرة التدخل في السياسة، وبمنطق الحفاظ على الدولة وعلى المجتمع، موجودة في دوائر عديدة في المؤسسة، وأن البعض أعطى نفسه ذلك الحق بالفعل.
ثانيًا: هناك سياسيون أيدوا ذلك التدخل. صحيح أن أهمهم كانت ماري لوپان، زعيمة حزب على أقصى اليمين. لكن لوپان كانت منافساً رئيسياً في انتخابات الرئاسة الفرنسية الماضية، وهي المتحدي الأهم لماكرون في الانتخابات القادمة. والحاصل من ذلك، أنه، بأقل تقدير، هناك ثلث من الناخبين الفرنسيين مع فكرة أن هناك خطر كبير على المجتمع والدولة، وأن الحالة قد وصلت الى ما يستدعي رسالة قوية من الجيش (المؤسسة الحافظة للدولة). وذلك تقدير يستدعي التوقف أمامه، لأننا مرة أخرى نتحدث عن واحدة من أهم الديمقراطيات الأوروبية.
ثالثًا: احتمالية أن نرى تدخلًا من مؤسسة الجيش يُغير من قواعد السياسة الفرنسية، أو يوقف أهم أسس الممارسة الديمقراطية (نتائج الانتخابات) ضئيلة للغاية - لكن، احتمالية أن يكون للتدخل الذي حدث نتائج، عالية جدًا.
ذلك لأن أي سياسي جاد في فرنسا الآن يرى بوضوح قوة المشاعر التي أدت الى تلك الرسالة، إلى درجة أنها وصلت الى تحفيز حراس الدستور الفرنسي على تخطي واحد من أسس الديمقراطية الفرنسية من أجل التعبير عن تلك المشاعر. وذلك سيجعل من الصعب الاستهانة بتلك المشاعر أو وصفها بشكل مطلق على انها دعاوى وهرطقات أقصى اليمين. والحاصل من ذلك، أن محتوى الرسالة سيكون قد أدى دوره، وأن الرسالة ستكون قد أتت بمرادها، بغض النظر عن تعرض بعض مرسليها للمساءلة.
رابعًا: ما حدث سيكون له عواقب على انتخابات الرئاسة في فرنسا. من المؤكد الآن أن هناك من سيصوتون ضد لوپان من منطلق رفض تدخل الجيش في السياسة. لكن ايضًا من المؤكد أن هناك ممن يتعاطفون مع محتوى الرسالة، ممن سيصوتون لصالح لوپان من منطلق تأييد ما عبّر عنه الضباط. خاصة وأن العسكرية الفرنسية لديها من التقدير، بالذات بين الطبقة الوسطى، أكثر مما لدى غالبية السياسيين الحاليين في فرنسا.
النقطة الخامسة تأخذنا الى ما هو أبعد من فرنسا. مشكلة ضعف السياسة وتراجع التقدير للسياسيين بشكل عام موجودة في عدد كبير من الدول الأوروبية. ولعله مفيد تذكر أن ألمانيا تقودها انجلا ميركل منذ 15 عامًا وأن غيابها عن ساحة السياسة الألمانية بعد سبتمبر القادم قد أوضح بالفعل مدى الفراغ الموجود، سواء في اليمين أو اليسار هناك. كما أن إيطاليا يقودها رئيس وزراء غير منتخب أتى الى الحكم على أثر خبرته كرئيس سابق للبنك المركزي الأوروبي. وبالطبع فإن عدداً من الدول في القارة، مثل النمسا والمجر والتشيك وبولندا تقودها أحزاب من اعتى اليمين بعد فشل متلاحق للأحزاب التقليدية في تلك الدول .. والنقطة المهمة هنا هي أن الكثير من ثوابت الديمقراطية في أوروبا قد بدأت في التغير منذ عدد من السنوات. وأغلب التغيرات تُضعف المبادئ الليبرالية التي بُنيت عليها الديمقراطيات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.
بالطبع هذه المبادئ، وقبلها بكثير المبادئ التي بُنيت عليها الجمهورية الأمريكية، وقبلها بكثير تلك التي أسس عليها النظام السياسي البريطاني – ليست منزهة غير قابلة للنقاش او التغيير. لكن في المقابل هذه المبادئ كانت أهم العوامل التي أخذت تلك المجتمعات إلى تجارب العيش الحر المبني على الاحترام الحقيقي لحقوق الفرد.
الرسالة الفرنسية ليست حدثاً عابراً. بل تطور له ما سبقه من مخاوف ومن تراكمات قلق، وسيكون له ما سيعقبه.
اضف تعليق