حيث نلاحق هدف التعددية، يتعين علينا أن نعمل على بناء القدرة على التصرف باستقلالية عند الضرورة. وكما زعمت قبل عام واحد، يتعين على الأوروبيين أن يواجهوا العالم على حاله، وليس كما نتمنى له أن يكون. ويجب أن يتعلم الاتحاد الأوروبي\"كيف يتحدث بلغة القوة...
بقلم: جوزيب بوريل
بروكسل ــ في عام 2020، عايش الناس في مختلف أنحاء العالم الحياة بالحركة البطيئة، في حين تسارعت التطورات السياسية. وفي الاتحاد الأوروبي، كان التعامل مع أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) شديد الصعوبة؛ ولكن على الرغم من الكثير من الاعتراضات، فإن الأوروبيين لا يقفون صفا واحد وحسب، بل إنهم نشأوا معا أيضا، وشكلوا كتلة أكثر تماسكا. في عام 2021، لابد أن يعود التعاون العالمي بقوة، ويجب أن يواصل الاتحاد الأوروبي ملاحقة هدف تحقيق "الاستقلالية الاستراتيجية" حتى يتمكن من حماية مواطنيه ومصالحه في السنوات والعقود القادمة.
إنها لحقيقة بدهية أن عام 2020 كان بمثابة نقطة تحول واضحة. الواقع أن العالم كان يمر بالعديد من التحولات التكتونية الهائلة لسنوات، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر تنامي حالة انعدام الثقة العامة، والاستقطاب وسياسات الهوية، والنمو الاقتصادي الفاتر، والديون المتزايدة، وأوجه التفاوت العميق. وقد شهدنا استخدام الاتكالية المتبادلة كسلاح. كما تحولت التجارة، والتكنولوجيا، والاستثمار، والسياحة، وغير ذلك من مجالات تعميق التعاون في السابق، إلى أدوات لفرض القوة الهيمنة ومجالات المنافسة الشديدة.
كانت هذه هي الصورة الكبيرة التي رأيناها نحن في قيادة الاتحاد الأوروبي عندما تولينا المنصب في ديسمبر/كانون الأول 2019، قبل أن تصبح الظروف أشد صعوبة. من منظور الأوروبيين، يبدو الأمر وكأن كل شيء عزيز علينا أصبح محل نزاع، سواء كان التعاون المتعدد الأطراف؛ أو التضامن بين الدول، والأجيال، والأفراد؛ أو حتى الاحترام الأساسي للحقائق والعلوم. بالإضافة إلى العديد من الأزمات التي تختمر في جوار الاتحاد الأوروبي وتصاعد التوترات الصينية الأميركية، تأتي جائحة كوفيد-19 لتضربنا فجأة، وتضاعف كل التحديات الأخرى الطويلة الأجل التي تبتلي أوروبا.
اختبار إجهاد الجائحة
لا أحد يستطيع أن ينكر أن الاتحاد الأوروبي ناضل بشدة خلال الأيام الأولى للجائحة. كنا جميعا غير مستعدين، وكانت العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي تميل في البداية إلى ترك كل شخص يدبر أمره بنفسه. لكن أعمال التضامن الحقيقية سرعان ما أعقبت ذلك، حيث بدأت بلدان عديدة تستقبل المرضى من البلدان الأشد احتياجا إلى المساعدة وترسل إليها معدات الطوارئ. ثم بدأت الإجراءات على مستوى الاتحاد الأوروبي بالكامل. فعمل البنك المركزي الأوروبي على توفير قدر هائل من السيولة، وأذنت المفوضية الأوروبية للبلدان الأعضاء بتحمل عجز كبير لدعم اقتصاداتها.
ثم تحولت المناقشة بسرعة إلى كيفية قيام الاتحاد الأوروبي بتقديم الدعم المالي للبدان الأشد تضررا، ثم توجت هذه المناقشات بإنشاء "صندوق التعافي" التاريخي. فقد جرى تخصيص مبلغ غير مسبوق، 1.8 تريليون يورو (2.1 تريليون دولار أميركي)، لإنشاء أداة جديدة تحت مسمى "الاتحاد الأوروبي الجيل التالي" وميزانية الكتلة للسنوات السبع المقبلة. علاوة على ذلك، جرى تحطيم اثنين من شعارات السياسة الاقتصادية العتيقة. فللمرة الأولى، وافق قادة الاتحاد الأوروبي على إصدار دين مشترك واسع النطاق والسماح بالتحويلات المالية، شريطة أن يتماشى الإنفاق مع الأولويتين المتمثلتين في تمويل التحول الأخضر وتأمين المستقبل الرقمي في أوروبا.
على الصعيد الدولي، كان موقف الاتحاد الأوروبي واضحا: "عالم الجائحة" يحتاج إلى حلول متعددة الأطراف. لقد عشنا بهذا الشعار حتى عندما كان آخرون يعملون بمفردهم. وكان مؤتمر التعهدات (الافتراضي) في مايو/أيار 2020 لجمع الأموال لتمويل أبحاث اللقاحات استعراضا مثاليا لنقاط القوة الفريدة التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي. وفي حين كانت كل من الولايات المتحدة والصين تمسك بخناق الأخرى، تقدمت أوروبا لتولي زمام القيادة في ما يتصل بهذه القضية الحاسمة. كما أننا فعلنا ذلك بطريقة أوروبية جوهريا (يمكنك أن تسميها "التعددية 2.0)، من خلال العمل ليس فقط مع الحكومات، بل وأيضا مع المؤسسات والقطاع الخاص.
منذ صيف هذا العام، كانت أوروبا تعاني من موجة ثانية من الإصابات بعدوى المرض وكانت تتصارع مع عمليات الإغلاق المتجددة. ورغم أننا نتمتع الآن بقدر أكبر كثيرا من المعرفة حول كوفيد-19 وكيفية علاجه، فقد انتشر "إجهاد الجائحة" على نطاق واسع. الأسوأ من ذلك أن الانتعاش الاقتصادي الأولي بدأ يتلاشى الآن، مما يشير إلى أن الأزمة ستستمر في الهيمنة على حياتنا لأشهر أخرى ــ وربما سنوات ــ مقبلة. وعلى هذا، يتعين علينا أن نستمر في التعبئة عبر جميع المجالات ذات الصلة، من الصحة العامة والاقتصاد إلى الأمن والحوكمة العالمية.
لحظة جديدة للتعددية
بالتالي، سيكون إحياء التعددية من أولويات الاتحاد الأوروبي القصوى في عام 2021. ومن الواضح أننا لا نستطيع تحقيق ذلك بمفردنا. لكننا نتوقع أن ينضم إلينا عدد أكبر من الشركاء في العام المقبل مقارنة بالحال في عام 2020. ومن المتوقع، مع خلافة جو بايدن لدونالد ترمب كرئيس، أن تعود الولايات المتحدة إلى الانضمام إلى اتفاق باريس للمناخ، وإلى دعم منظمة الصحة العالمية، فضلا عن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وتبني موقف أكثر إيجابية داخل منظمة التجارة العالمية.
الواقع أن عودة أميركا إلى المسرح العالمي سيكون لها فعل السحر في دفع عجلة التعددية. ونحن نأمل أن تحذو حذوها دول أخرى، بما في ذلك الصين وروسيا، في عكس اتجاه نهجها الانتقائي الأناني في التعامل مع جهود التعاون المتعددة الأطراف في الأمم المتحدة وأماكن أخرى.
من المؤكد أن مناشدات "التعاون القائم على القواعد" تبدو عادة أقل إلهاما من النداءات الرنانة من قبيل "استعادة السيطرة". لذا، يتعين علينا أن نضمن تحقيق التعددية لنتائج ملموسة للمواطنين. ولن يكون أحد منا آمنا حتى نحظى بلقاح جدير بالثقة، وعلى هذا فإن الأسئلة الأساسية حول التطعيم يجب أن تكون من سيحصل على ماذا، ومتى، وكيف. الواقع أن الأمر لا يخلو من خطر حقيقي يتمثل في "قومية اللقاح" أو "دبلوماسية اللقاح"، حيث تضع الدول الغنية والقوية نفسها قسرا في أول الصف. في أوائل عام 2020، استخدمت بعض الدول "دبلوماسية القناع" لانتزاع تنازلات سياسية في مقابل معدات الوقاية الشخصية المطلوبة بشدة. وسوف يصر الاتحاد الأوروبي على النهج المعاكس: إذ يجب التعامل مع اللقاحات على أنها منفعة عامة عالمية وتوزيعها على أساس الاحتياجات الطبية.
تتمثل الأولوية الكبرى الثانية في ما يتصل بالتعددية في عام 2021 في قضية تغير المناخ، وهو مجال آخر حيث أظهر الاتحاد الأوروبي القدرة على القيادة. فبعد أن حددنا بالفعل عام 2050 كموعد نهائي لتحقيق هدف حيادية الكربون، أصبحنا أقرب إلى التوصل إلى اتفاق بشأن تعهد ملزم بخفض الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي بنحو 55% بحلول عام 2030. علاوة على ذلك، يبدو أن هذه الجهود ألهمت آخرين: فقد أشارت الصين إلى اعتزامها تحقيق هدف حيادية الكربون بحول عام 2060، كما صرحت اليابان وكوريا الجنوبية بأنهما تعتزمان تحقيق ذلك الهدف بحلول عام 2050. ونحن الآن في احتياج إلى انضمام الولايات المتحدة والهند وروسيا، وغيرها من الدول الأكثر إطلاقا للانبعاثات الغازية، إلى النادي.
يُـعَـد تغير المناخ التحدي الوجودي في عصرنا. وكما هي الحال مع جائحة كوفيد-19، أصبحت علامات التحذير مرئية للجميع، في ظل إجماع علمي متين حول ما يتوجب علينا أن نقوم به من عمل. الفارق هنا بطبيعة الحال هو أننا لن نجد أبدا لقاحا لتغير المناخ. ولهذا، يتعين علينا أن نعمل على دفع منحنى الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي إلى الانخفاض في أسرع وقت ممكن.
الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية
أخيرا، في ذات الوقت حيث نلاحق هدف التعددية، يتعين علينا أن نعمل على بناء القدرة على التصرف باستقلالية عند الضرورة. وكما زعمت قبل عام واحد، يتعين على الأوروبيين أن يواجهوا العالم على حاله، وليس كما نتمنى له أن يكون. ويجب أن يتعلم الاتحاد الأوروبي "كيف يتحدث بلغة القوة".
لقد أكدت الجائحة على الحاجة إلى الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، وهو المفهوم الذي نشأ في دوائر الدفاع، لكنه يمتد الآن إلى الصحة العامة والعديد من المجالات الأخرى. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن الاعتماد على عدد قليل من موردي السلع المهمة ــ وخاصة عندما يكون المورد دولة يتعارض نظامها القيمي بشكل جوهري مع نظامنا ــ لا يأتي دون تكلفة. ويتلخص حل هذه المشكلة في التنويع، وعند الضرورة، تقصير سلاسل التوريد.
لا يتعلق هذا بإخفاقات السوق في مجال الإمدادات الطبية وحسب، بل ترتبط الاستقلالية الاستراتيجية بالكيفية التي تعالج بها أوروبا نقاط الضعف القائمة عبر مجموعة واسعة من المجالات ــ من التكنولوجيات ومشاريع البنية الأساسية الحيوية (مثل الشبكات الرقمية والحوسبة السحابية) إلى المعادن الأرضية النادرة والمواد الخام اللازمة للتحول الأخضر. يتعين علينا أن نتجنب الاعتماد المفرط على الموردين الخارجيين في هذه القطاعات الاستراتيجية. ليس المقصود بهذا أن نتبنى الاكتفاء الذاتي أو سياسات الحماية، بل حماية استقلالنا السياسي حتى يتسنى لنا أن نظل أسياد اختياراتنا ومستقبلنا.
بدأ وضع بعض عناصر هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ في عام 2020. والآن أصبح لدى أوروبا آلية لفحص الاستثمارات الأجنبية، وقد بدأنا معالجة الآثار التشويهية المترتبة على إعانات الدعم الأجنبية. كما نعمل الآن على تعزيز الدور الدولي الذي يضطلع به اليورو، ونعد العدة لاتخاذ تدابير إضافية في ما يتصل بقضايا مثل المشتريات الحكومية. في الوقت الحالي، تكاد سوق المشتريات في الاتحاد الأوروبي تكون مفتوحة بالكامل تقريبا، في حين لا تزال بعض الأسواق الأخرى مغلقة بالكامل تقريبا. ويتعين علينا إما أن نضمن المعاملة بالمثل أو نتخذ الخطوات اللازمة لاستعادة التوازن.
ينطبق مبدأ الاستقلالية الاستراتيجية أيضا على القضايا المتعلقة بالفضاء السيبراني. فكيف تدير أوروبا البيانات؟ يتعين علينا أن نتجنب حالة الانقسام حيث تنتمي البيانات إما إلى منصات التكنولوجيا الكبرى (مع أقل قدر من الإشراف الحكومي) أو تنتمي إلى الدولة (بما في ذلك ارتباطاتها بالأجهزة الأمنية). كان التشريع الرئيسي الأخير الذي استنه الاتحاد الأوروبي لتنظيم التكنولوجيا متمثلا في اللائحة العامة لحماية البيانات في عام 2018، وقد تغير الكثير بالفعل منذ ذلك الحين.
كل هذا ليس سوى غيض من فيض من التحديات العديدة التي سيضطر الاتحاد الأوروبي إلى الإبحار عبرها في عام 2021. وسوف يكون الإبحار صعبا، لكننا سنخرج من كل هذا وقد أصبحنا أكثر قوة إذا أبقينا تركيزنا على أولويتين كل منهما تكمل الأخرى: إحياء التعددية وبناء الاستقلالية الاستراتيجية.
اضف تعليق