q

في عام 1951 كتب E.M.Forster مقالا شهيرا بعنوان "مزيتان اثنان للديمقراطية"(1)، لكنه سرعان ما سحب موافقته الكاملة على المقال. الواقع يكشف منذ كتابة ذلك المقال عن نتائج محبطة لمدى الموثوقية في وضع المبدأ الديمقراطي قيد التطبيق. آلية المبدأ تقوم على منح السلطة السياسية عبر التصويت السري. هذه العملية تفرض على المتنافسين على الحكم الدخول في سباقات محمومة من العطاءات الدورية. المزايدون او اصحاب العروض يقدمون الموارد لأحد اطراف المجتمع مقابل اصواتهم، بينما يأخذون هذه الموارد من اطراف اخرى، وهو إجراء يراه المبدأ الديمقراطي لا غبار عليه وربما يستحق الثناء.

في هذه العملية المتكررة، تسعى الحكومات لإدامة التوسع في الدولة، مستخدمة اياه كماكنة لامتصاص الموارد، وتحويلها، ثم توزيعها مرة اخرى على اناس آخرين مقابل كسب اصواتهم الانتخابية. في هذه العطاءات، لا تتوقف المبالغ المدفوعة على القدرة الضريبية. انها تمتد الى الدين العام. المديونية الثقيلة تجعل الاقتصاد يترنح ومهمة الحكومة تصبح اكثر صعوبة. الوعود بالرفاهية لجذب الناخبين لا يمكن تحقيقها بالكامل، حيث ان الناخب سيصبح حاد المزاج وغير متعاون ويرغب الاستماع للحمقى من المتشددين.

الليبرالية الكلاسيكية جرى فهمها على نطاق واسع باعتبارها توفر العلاج لهذه الآمال المحبطة والآفاق الشديدة العتمة. هذه الليبرالية تعد بحكومة محدودة، وبعبارة اكثر دقة انها تضع حدوداً لحجم الدولة الذي يُثبّت بصرامة بفعل عمليات المبادئ الدائمة اللازمنية التي تعمل كحاجز لا يتزعزع. اذا كانت الحكومة محدودة جدا فان العملية الديمقراطية ستتجمد عند مرحلة ثابتة ولن تستطيع الافلات من مصيرها المشؤوم. الثناء الذي تستحقه الليبرالية الكلاسيكية يعتمد على مدى نجاحها في تحسين وكبح جماح النمو الديمقراطي المفرط.

مبدأ (منع الضرر) المؤذي

تميل المذاهب السياسية لتتخذ عناوين تتضمن كلمات مختصرة تطرح فيها توجهاتها الاساسية. دكتاتورية البروليتاريا او الملكية العامة للهياكل الاساسية للاقتصاد تشير لمختلف انواع الاشتراكية. التبادل الحر بين البالغين المتراضين، او اقصى الحريات المنسجمة مع نفس النوع من الافراد الاخرين، انما يفصح عن ميول ليبرالية مع انها ليست بتلك الدرجة من الوضوح. "الحد الادنى من الاكراه الضروري" لدى فردريك هايك (2) يناشد اي نظام بان لا يطبق اكراها اكثر مما هو ضروري في متابعة اهدافه، مهما كانت. يعتقد المرء عادة بان الطريق للنتائج غير السارة يكون معبّدا بشعارات مصممة جيدا. احد اهم الشعارات التي اريد بها ان تعمل كأساس للعقيدة الليبرالية هو مبدأ الأذى الذي صاغه جون ستيوارت مل: "الهدف الوحيد الذي تُمارس فيه السلطة بعدالة على اي عضو في الجماعة المدنية ضد رغباته، هو لمنع الأذى عن الاخرين". لسوء الحظ، ان اي فعل غير مؤذي فيه تُستخدم موارد معينة سيكون مؤذيا لأي فرد آخر لأن الاخير سيفقد الفرصة باستخدام هذه الموارد. اذا كان هذا التعميم شديد التجريد للقارئ، فان الاخير سينجذب لما يمليه المنطق الواقعي بانه لو لم تُمارس سلطة على أعمال الفرد فهو ربما يعمل جيدا للافراد او الجماعات الذين يختارهم، تاركا الآخرين خارج الاعتبار. اذا كان هذا هو النظام الليبرالي العادل، فان العديد من الناس سيرفضونه باعتباره جائر ومتقلب، وعاجز عن ادراك ان العقيدة الليبرالية لا تمتلك المؤسسة الفارضة للعدالة، كأحد اهدافها الرئيسية.

ومع ذلك، جرى اخذ مبدأ الضرر على محمل الجد الى ربع او نصف او ثلاثة ارباع الطريق. وهكذا فهو يقرر ويلوّن السياسات التي يرى فيها الرأي العام سمات ليبرالية مرغوبة. اثنان من تلك السياسات الرئيسية هما الأمن والتضامن. الأمن يُفرض على الناس وعلى مؤسساتهم للحيلولة دون وقوع الأذى او عوائق تبنّي المخاطرة او خلق البيروقراطية. اما التضامن، يُفرض على الناس الذين لا يريدون ممارسته برغبتهم الشخصية، فهو يمنح الدولة قوة الزامية هائلة في سعيها للمساواة في الموارد وبذلك فان شرعيتها الاخلاقية هي عرضة للشكوك.

القواعد وفرض القواعد

الرأي المتواضع يجب ان يشجب عبارة "حكم الناس بواسطة الناس" باعتبارها وسيلة خبيثة لخداع البسطاء في التفكير. الخيار الجمعي يُصنع لأجل الجماعية ولكن ليس بواسطتها. انه يُصنع بواسطة جزء اصغر من ذاته. الخيار يتم بواسطة الجماعية الكلية فقط عندما يكون باتفاق تام. الاجماع هو حالة مقيِّدة فيها يتحد الخياران الجمعي والفردي وان الفرد يصبح بإمكانه الرفض او القبول، ولكن دون ان تكون لديه اية خيارات اخرى. وعلى الحافة الاخرى نجد الدكتاتور يستطيع ان يقرر الجماعية، مفشلا ما يقوم به الافراد من خيارات شخصية. طريقة اخرى للنظر للمسألة، هي حول إحباط الإجماع، حيث ان الخيار الجمعي هو دائما اقوى من الخيار الفردي ويستطيع تجاوزه. وكتبسيط ملائم فان عالم المواقف العامة يمكن تجزئته الى جزء مختار جماعيا وآخر مختار فرديا. الجزء المختار جماعيا يمكنه انتهاك الجزء الفردي، ولكن ليس العكس. وفي احسن الاحوال، النصفان قد يتوقفان عن الحركة على اي جانب من الحاجز. هذا الحاجز هو جوهر اهتمام الليبرالية الكلاسيكية.

ان اختيارات الدكتاتور يمكن ان تكون عشوائية واقرب الى الجنون، لكنها بالمعنى اللارسمي هي حكم ملزم بمعنى انها دائما يجب ان تتم بواسطة الدكتاتور وبمقدرته الدكتاتورية. وبشكل عام، الخيار الجمعي يُصنع بقاعدة الاختيار. مثلا، يجب ان يصوت عليه مجلسان للنواب باسلوب معين. المجلسان يجب ان يأتيا من مكان ما. مثلا، عضوية النواب قد تنشأ من نظام ملكية الارض. ان الشكل العام، هو القاعدة التي تنظم قاعدة عمل الاختيار. في التاريخ الحديث، هذه القاعدة من عمل الاختيار تميل لتكون جزءا لا يتجزأ من الدستور.

نطاق هذه المقالة هو محدود قصدا. انها لا تتعامل مع اثنين من الاسئلة الاساسية اللذان يمتدان الى ما وراء الليبرالية الكلاسيكية. احدهما يسأل (باستثناء في حالة حصول اجماع خارق) كيف يمكن منح الشرعية لقاعدة عمل القاعدة التي ليس لها قاعدة اعلى من ذاتها؟. السؤال الآخر، وهو السؤال الاكثر جوهرية هو ما اذا كان الخيار الجمعي شرعيا دائما. هذان السؤالان جرى تجنبهما هنا، وما افتُرض كحقيقة هو ان معظم الدول الموجودة حاليا لديها دستور وظيفته إقرار قوانين، هذه القوانين ربما تُنجز او لا تُنجز بخيارات جمعية من جانب الدولة المسترشدة بحكومتها.

كيف تفرض الدولة معارضة ذاتها؟

افعال الدولة لها ثلاثة مظاهر: التشريع، والتنفيذ، وفرض القوانين. الوسائل لتوفير الاخيرة كالمحاكم والشرطة والجيش هي متوفرة ويتم توجيهها من قبل الدولة بدرجة معقولة. فرض القوانين يتضمن العقوبات والتعويضات او التسويات او كلاهما. ليس بالضرورة ان تكون مثالية، لكنها محتملة.

المأزق الكبير في فرض القوانين هو الموقف حين تكون مصلحة الجهة الفارضة للقانون هي بان يكون الفرض الناجح لقاعدة معينة يتطلب ان يكون له احتمال ضعيف جدا. لكي نوضح، لننظر في حالة وجود دستور يمنع الحكومة من قيادة الخيار الجمعي الى حدود تتجاوز حاجزا معينا عبر زيادة الانفاق العام. زيادة الانفاق العام وبشكل دائم هو، بالطبع، الوسيلة الضرورية المستخدمة في عملية العطاءات لأجل نيل السلطة السياسية التي بواسطتها تستطيع الحكومة او منافسيها السيطرة على اجهزة الدولة وفرض القوانين.

حماية الافراد ومواردهم من الخيار الجمعي بوسائل مرتكزة على القاعدة تتطلب فقرة دستورية تحد من الانفاق العام. الدساتير لا تمتلك مثل هذه الفقرات. انها تمتلك فراغا يجب ان تشغله مثل هذه الفقرة. (استثناء وحيد لتلك الفقرة في الدستور الالماني التي تحدد العجز الفيدرالي، مع انها لا تحدد الانفاق العام).

لكي تعمل هذه الفقرة هو امر يصعب تصوره. انها تكبح الاهداف المتواصلة للحكومة المتبعة من جانب الدولة والتي تُفرض من جانب الدولة ذاتها. الدولة سوف لن تطيع الدولة وسوف تعاقب ذاتها بعمل كهذا. حاجة الفارض للقانون لكبح ما يرغب به تمثل حالة من العجز المنطقي، انها تشويه، وسبب لإضطرابات عميقة. انها تختبئ تحت سلسلة من الاكاذيب وهو ما يقلّص مساحة الحرية. في الحقيقة، ان ذلك لن يحدث لأن الدساتير ببساطة لا تريده.

ان احتمال الانحراف في فرض القوانين يبيّن وبشكل عميق ان الحدود الدستورية للحكومة غير موثوق بها. هذا اللاتناسب المنطقي المؤذي يمكن معالجته لو نظرنا للدستور، كما يقترح توماس شيلنك بمساواة الدستور مع الوعد (vow). الوعد خلافا للالتزام الحقيقي، تتم المحافظة عليه طالما انت تختار المحافظة عليه لأي سبب كان. على عكس التعهد (promise) الى شخص آخر (والذي هو اقوى من الوعد ولكنه اقل من الالتزام) فان خرق الوعد لا ينتهك الحق الذي منحه التعهد (promise) تجاه طرف اخر ولذلك يستلزم مخاطرة قليلة في الانتقام. هنا لن تبرز اي مشكلة حقيقية في فرض القوانين. المنطق مقنع لكن المذهب الكلاسيكي الليبرالي كشف انه يعاني من ضعف كبير في اساسه، وهو الدستور الذي يحدد الحكومة. هذا الدستور لا تبدو هناك حاجة للكثير من هتافات التأييد والتهليل له.

* Library Economics Liberty, October 6, 2014

................................
الهوامش
(1) مقال"استحقاقان للديمقراطية" two cheers for democracy للكاتب E.M. Forster نُشر عام 1951، وفيه يؤكد الكاتب جدارة الديمقراطية في مسألتين اثنين هما اولا دفاعها عن الفردية واعترافها بالتنوع، والثانية سماحها بالنقد. يمكن تجزئة المقال الى نصفين، الاول كُتب قبل واثناء الحرب العالمية الثانية، يهاجم فيه النازية، ويتخذ المقال هنا صبغة فلسفية وسياسية. اما النصف الثاني يتعلق بنقد الادب والفن والموسيقى، وضرورة الدفاع عن الثقافة، وخطر انظمة العقائد، والحاجة للتسامح. هو يقول" انه وجد من خلال التجربة ان الفن يعمل كترياق لمشاكلنا الحالية، وايضا كمساعد لإنسانيتنا المشتركة.
(2) حول رؤية هايك Hayek للإكراه انظر فصل 9 من "الإكراه والدولة" في فردريك هايك، دستور الحرية (مطبوعات جامعة شيكاغو، 1960).
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق