قديما، اعتقد الناس الاذكياء ان العالم متساوي. وحين انطلقت العولمة، اشار الاقتصاديون الى ان انتشار قوى السوق سمحت للمستهلكين بشراء اشياء متشابهة بنفس الاسعار في جميع انحاء العالم. آخرون ناصروا تمدد الليبرالية والديمقراطية بعد الحرب الباردة. ولفترة ما، بدا كما لو ان الطرق السياسية والاقتصادية للغرب هي المنتصرة.
لكن الايام الزاهية لقصة العالم المسطح بدت الآن كحقبة من الماضي، حل محلها القلق والكآبة. الصدمة الاقتصادية عام 2008، الشلل الاقتصادي للولايات المتحدة، صعوبات اوربا المالية، الاحلام المبددة للربيع العربي، شبح المنافسة من الدول الرأسمالية غير الليبرالية مثل الصين كل ذلك أطفا الحماس بمصير ومستقبل الغرب. هذا الغرب الذي اُعتبر نموذجا (لباقي العالم) هو الآن امام التساؤل. حتى المناصر للغرب فرنسيس فوكاياما يتحسس الظلام الآن محذرا في كتابه بجزئين عن تاريخ النظام السياسي بان المستقبل ربما لا يكمن في الاماكن التي برزت فيها في الماضي الليبرالية العالمية والديمقراطية.
ومن بين افضل الكتب التي صدرت اخيرا والتي لامست هذه الروح التشاؤمية هو كتاب (لماذا تفشل الامم) لـ Daron Acemoglu and James Robinson وكتاب (رأس المال في القرن الواحد والعشرين) لـ توماس بكتي (1). والشيء ذاته تؤكده خارطة او تصنيف صدر عام 2012 عن معهد ماكنزي العالمي، يرسم حركة جاذبية مراكز الاقتصاد العالمي بدءاً من الصين في السنة 1، وبالكاد تصل غرينلاند عام 1950(الاقرب الى نيويورك)، والآن تعود مرة اخرى الى من حيث بدأت. انها كانت فقط مسألة وقت قبل ان يؤثر هذا الاضطراب على العالم الانيق للمؤرخين. وبما ان المستقبل يبدو متاحاً للجميع، كذلك هو الماضي. التنبؤ هو كالتالي، اذا كانت قصة المؤرخين للمعجزة الاوربية وصعود الرأسمالية متفائلة بالنصر، فان مستقبل الغرب سيكون جيدا، بينما اذا كانت القصة لا تشي بالانتصار، فان المستقبل سيكون اكثر شؤما. مجموعة من الكتب الاخيرة حول تاريخ الرأسمالية العالمية تعطي القراء طيفا واسعا من التصورات. (تاريخ كامبردج للرأسمالية) وهو من جزئين، مراجعة اثنين من كبار المؤرخين الاقتصاديين، يعرض للقراء نافذة للأصول العميقة للرأسمالية. Joel Mokyr في كتابه (الاقتصاد التنويري) يوضح كيف انطلقت الرأسمالية متحررة في زاوية بعيدة من القارة الاوربية. (امبراطورية القطن) للمؤرخ العالمي البارز Sven Beckert، يعرض قصة اكثر سوادا للرأسمالية، فيها وُلدت من رحم الامبراطوريات والعنف العالمي.
القصة الداخلية
ان القصة التقليدية لنشأة الاقتصاد العالمي هي داخلية internalist اي انبثقت في الاصل من داخل الغرب. القصة تذهب كالتالي: بعد الثورة الزراعية وتحول العالم من الصيد وجمع البذور الى الزراعة منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، استقرت مختلف زوايا العالم في مستويات معيشية متساوية تقريبا. من الصين الى مكسيكو كان متوسط الفرد متساويا في الارتفاع (من خمسة اقدام الى خمسة اقدام وست انشات)، وسنوات الحياة المتوقعة كانت تتراوح بين 30 و35 سنة. المجتمعات اختلفت في انجازاتها الهندسية واشكال القوانين وانظمة العقائد. لكنها من الوجهة الاقتصادية حققت انجازات موحدة: علم معادن متقدم، جدران كبيرة، اهرام ضخمة.
واذا كانت هناك مآسي فهي من الكوارث الطبيعية كالملاريا والآفات وليس من صنع الانسان. ذلك لا يعني التقليل من شأن تدمير المغول لبغداد عام 1258 وقتلهم 200 ألف شخص من سكان المدينة البالغ مليون نسمة لدرجة اصطبغت معها دجلة بلون الدماء. لكن تلك الاحداث المروعة لا تقرر الرفاهية الاجتماعية وفق قياس مستوى الدخل الفردي في المدى الطويل. تلك الارقام بقيت ثابتة حتى عام 1500. بهذا المعنى، العالم كان مسطحا (متساويا). هذه الرؤية حظيت بالإجماع. لكن النقاش هو حول ما جاء لاحقا. البعض يقول ان جماعات من الاوربيين خاصة البروتستانت في الشمال بدأوا بنيل المكافئات من زيادة الانتاجية التي نتجت من عاداتهم الفردية. آخرون يجادلون بان الاوربيين عثروا على التوازن الصحيح للحوكمة الجيدة والمصلحة الذاتية الخيرة. ومهما يكن، اوربيو القرون الوسطى المتأخرون وجدوا وصفة النجاح، راهنوا عليها، حوّلوها الى ما عُرف في القرن التاسع عشر بالرأسمالية.
المكتبة البريطانية
يجادل الداخليون بان الرأسمالية ولدت اوربية، وبالذات بريطانية، ثم اصبحت عالمية. هي كنظام من الشعوب والاجزاء المترابطة، انتقل اشعاعها من القليل من النقاط الاصلية الساخنة، وبمرور الزمن استبدلت الانظمة التي واجهتها في اماكن اخرى. "الاستبدال" هو في الحقيقة طريقة مهذبة للوصف. المدافعون عن الرأسمالية سيقولون "تحررية". الماركسيون سيسمونها "احتلال". لكن مسار القصة هو ذاته: اوربا صدّرت ابتكاراتها لبقية العالم وبعملها هذا تكون قد خلقت العولمة.
صعود الرأسمالية
ان القصة الداخلية تبقى هي الطريقة الاكثر قبولا في توضيح الخروج المفاجئ من الفترة الطويلة لما بعد الثورة الزراعية. (تاريخ كامبردج للرأسمالية) يجادل بان عناصر الرأسمالية وُجدت منذ ماقبل التاريخ وكانت منتشرة في كل انحاء الكوكب. سمات الفرد التفضيلي optimizer كانت زُرعت في جيناتنا الوراثية. الالواح الطينية القديمة تسجل اجراءات قانونية بأرقام تعطي برهانا على متاجرة الرأسمالي ببضاعته في بلاد ما بين النهرين. القُطع الاثرية للمراكز التجارية في آسيا الوسطى تتعقب اثر التفضيلي القديم الى مناطق السهوب. صحيح ان الرأسماليين كانوا لمئات السنين غير متناسقين ويتميزون بالهشاشة وسرعة التأثر. لكن أصل الرأسمالية يعود الى ابعد من ذلك حين وجد الاركولوجيون بقايا لفعاليات سوق منظّم. كما يوضح (نيل) في مقدمته (ان عالم الاقتصاد الحالي كان ولوقت طويل في طور الصنع). في هذا التفسير، بقاء الرأسمالين يشبه ما حصل بالنسبة للمسيحيين الاوائل. وتماما كما المسيحيين كان يجب عليهم عمل النصرانية، فان الرأسماليين المتناثرين والمعرضين للمخاطر كان عليهم هزيمة الحكام المتوحشين والمؤسسات الباحثة عن ريع لكي يصنعوا الرأسمالية. في (تاريخ كامبردج للرأٍسمالية) كانت المدن القومية الايطالية هي اول من رحل عن النظام القديم. ورغم انها كانت هشة امام المنافسين ومالت لتفضيل شركات القلة، لكن هذه الانظمة السياسية وضعت الارضية للمؤسسات والافكار التي سوف تنتقل في القرن الخامس عشر للدول التجارية في المحيط الاطلسي – اسبانيا والبرتغال – ومن ثم الى الاراضي المنخفضة وفرنسا وانكلترا.
ان حديثي النعمة الاطلسيين، المتحررين من ازدحام البحر المتوسط بالاسطول العثماني وقراصنة شمال افريقيا، اطلقوا العنان لأنفسهم في عالم المحيطات. في التفسير الداخلي، ما كان مهما هو جعل الحلقة الفاضلة مستمرة: خلق مؤسسات مثل الدفاع القانوني عن الملكيات الخاصة، التي كافأت سلوك المغامرين وجعلت البحث عن هذا الربح يعزز تلك المؤسسات من خلال خضوع الناس للقوانين ودفع الضرائب. الحلقة الفاضلة رفعت الرأسماليين من التجارة فيما بينهم الى التنسيق مع بعضهم، وهكذا خلقت نظاما من القواعد والافكار لكي تحافظ على مردود مساعي البحث عن الربح. هؤلاء الرجال صانعي النقود وضعوا النظام (ism) في الرأسمالية.
ثم جاءت القفزة الثانية مع الثورة الصناعية وانتشار الكلمة المطبوعة، والتي يذكر (نيل) انها أذابت "معوقات التقليد". المجتمعات الاوربية بدأت تقليد بعضها البعض. ومن وعاء التراكم والذكاء برزت عمليات تنسيقية ومن ثم اصبحت تكاملية. الفحم، الخشب، الاقمشة والادوات الحادة ملئت خطوط التجارة الاوربية. بعد ذلك، وطبقا لهذه القصة سادت الرأسمالية عالميا حين انتشر اللاعبون الاوربيون والمؤسسات للانضمام لقوى الرأسماليين المتمركزين في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر. ولكن هنا تكمن الصعوبة: فيما وراء اوربا اكتسبت الرأسمالية جذورا محلية ضعيفة، وبهذا انتجت المزيد من الصراعات والتوترات في مناطق الاطراف قياسا بالمركز. المجتمعات المحلية قاومت التغيير واستاءت من النظر اليها كمجتمعات متخلفة تمارس قطع الاخشاب ونقل المياه. كانت عولمة الرأسمالية الاوربية عملية مريرة وغير متساوية. فقط عدد قليل من دول الهامش كاليابان نالت تقليدا جيدا، هذه الاستثناءات تؤكد الاعتقاد بان الرأسمالية تكون في افضل الاحوال عندما تُبنى من الداخل نحو الخارج.
من العلوم الى الثروة
هناك طرق اخرى توضح كيف بدأت ثم انتشرت الرأسمالية من اوربا. (موركي)، مثلا، يتبنّى الرؤية بان الرأسمالية تدين بوجودها للتقدم الفكري والمعرفي والثقافي الكبير الذي جاء عندما اكتسحت الثورة العلمية اوربا في القرنين 17 و 18. واكثر من اي باحث آخر هو ربط استخدام التكنلوجيا والتحوّل في المواقف الى التغيير الاقتصادي، معزيا صعود الرأسمالية الى تحالف المهندسين والمستثمرين والمفكرين وصناع النقود. وبالنهاية عندما اشترك جميع هؤلاء بالعمل الموحد في منتصف القرن 18، بدأت عوائق النمو تتداعى.
يذهب موكر في (الاقتصاد التنويري) الى ابعد من ذلك: "يحتاج الاقتصاد الناجح ليس فقط الى قواعد تقرر الكيفية التي تتم بها اللعبة الاقتصادية، بل يحتاج الى قواعد لتغيير القواعد ذاتها عند الضرورة وبطريقة غير مكلفة. بكلمة اخرى، انه يحتاج الى meta-institutions (مؤسسات عالية التطور مثل التصويت) تغيّر المؤسسات، وهو التغيير الذي سيحظى بالقبول حتى من جانب اولئك الخاسرين من تلك التغييرات. المؤسسات لا تتغير فقط لكي تكون فعالة. انها تتغير بسبب تغيّر افكار ومعتقدات الناس المؤثرين الذين ساندوا التغيير ".
القواعد والتغيرات المتشابكة هي كثيرة جدا، وليس من السهل فرز علاقاتها السببية. ان الاساس في جدال (موكر) الداخلي هو ظهور ما يسميه "المعرفة المفيدة" التي ترجمت العلوم الى انتاج. العملية لم تكن بسيطة. (الاقتصاد التنويري) يرصد الخطوات الصغيرة جدا التي يصعب ملاحظتها والتي كافأت المبدعين المفكرين ووضعتهم في صف واحد مع مدراء الاعمال، لخلق حلقات من الصناع والعلماء. "التفاعل" هو مصطلح اساسي في مفردات موكر، يؤلف بين الفضول والطمع، الطموح والايثار. ان اكبر انجاز جاء مع التنوير الذي اعطى ولادة للفكر العقلاني، حيث المفهوم الحديث للحكومة الجيدة والرؤى العلمية لما انتج المزيد من الثروة. بعد ذلك، لم تكن هناك نظرة للوراء.
ان التاريخ الداخلي يتغير كثيرا. هناك ماديون يرون ان الناس يستجيبون للحوافز والفرص لغرض زيادة نقودهم. هناك مؤسسيون يصرون على سيادة حقوق الملكية والقيود الدستورية على الحكام الجشعين. وهناك المثاليون الذين يسلطون الضوء على نجاحات اوربا الفكرية. البعض يمزج بين هذه العناصر. لكن السرد الداخلي يشترك ايضا بالكثير. الداخليون يجادلون بان نجاح اوربا كان عملية خلق – اي ان الاسباب يمكن العثور عليها ضمن النظام ذاته، نظام قادر على ادامة واعادة انتاج النجاح دون الاعتماد على قوى خارجية. عموما، القصة الداخلية هي قصة متفائلة ايضا. انها تركز على ان ما حدث بشكل صحيح، ينسجم مع صعود قصة الغرب ويميل للثقة باستمرارية ودوام الرأسمالية.
اذا كان (باقي العالم) يشكل تهديدا، فهو لأن هذا (الباقي) بقي متخلفا وراء الغرب.
هناك مشكلتان في هذا النوع من التاريخ. الاولى هي ان ما جرى من سلوك رأسمالي هو واسع جدا لدرجة لا نعجب معها ان وجدنا برهانا على الانسان الاقتصادي (الرشيد) من اوقات موغلة بالقدم. تقصّي صعود الرأسمالية يمكن ان يشبه تعقّب نشاطات الانسان القديم الذي خرج من افريقيا. بعض القصص الداخلية تثق كثيرا بالرأسمالي كصانع للنظام الذي يعرّفونه كبطل للقصة بطريقة يكون فيها اما غير مؤكد للمؤرخين الذين يرون في السلوك الانساني أكثر من المصلحة الذاتية المادية او عام جدا لدرجة من الصعب فصله عن عامة الناس. المشكلة الاخرى تستلزم نطاقا للتحليل. "بريطانيا"، "اوربا"، "الغرب" هي عبارات غير دقيقة ولا تعبّر عن التاريخ الصحيح للكلمة.
لماذا بعض الدول القومية وليس غيرها؟ لماذا لم تكن اسبانيا او فرنسا؟ الامبراطوريات يبدو سقطت من قصة (موكر). اسبانيا خنقت الرأسمالية لأنها استحوذت على ذهب الهنود الحمر ومن ثم جعلت المحتلين الاسبان معتمدين على المعادن الثمينة وليس على الربح، والمملكة المتحدة اكتسبت الامبراطورية بحالة من غياب الوعي، وانها كانت مجرد توسيع للأسواق المحلية الاكثر اهمية. وفي تفسير مصير التابعين، جرى استنساخ دروس نظريات الداخل حيث يتم اللحاق عبر التقليد واستعارة السيناريو. الاسواق الحرة، حماية الملكية الخاصة. لكن المشكلة كانت دائما هي ان طبيعة اللحاق تجعل الاستنساخ مستحيلا. وكما لاحظ المؤرخ الاقتصادي الروسي المولد Alexander Gerschenkron " في عدة مجالات هامة، تنمية البلد المتخلف ربما بسبب تخلفه، تميل للاختلاف جوهريا عن التنمية في ذلك البلد المتقدم".
اخيرا، وكما بينت مجموعة جديدة من المؤرخين العالميين انه ليس من السهل عزل المملكة المتحدة، اوربا، او الغرب عن الباقي. عندما نأتي الى المتغيرات الداخلية المتميزة، مثل المعرفة العلمية او التنوير، نجد مجموعة متزايدة من العلماء يكتشفون ان التفاعل بين الغرب والباقي يهيأ الظروف لعمل المدراء والمهندسين والفلاسفة. اذاً ما الدور الذي لعبه بقية العالم في صعود الغرب؟
دور بقية العالم
القصة الداخلية جرى التعتيم عليها لفترة طويلة من جانب المنافسين الخارجيين، الذين يرون ان قفزة اوربا للامام كانت معتمدة على العلاقات مع اماكن وراء اوربا. الخارجيون يلخصون مجموعة مختلفة من افعال السلوك. بدلا من "تنسيق" او "تفاعل" يفضل النظام استخدام "استغلال" و"اخضاع". توضيحات الخارجيين الاخيرة للرأسمالية جاءت في كتاب بيكيرت (امبراطورية القطن). الكتاب ثلاثي الاخطار: يصر على ان الثورة الصناعية ما كانت لتحدث بدون التجارة الخارجية، وان صعود التصنيع وعمل المصانع ما كان لينتشر دون انتشار عمل العبيد، وان القطن كان السلعة التي صنعت الامبراطورية وكذلك الاقتصاد العالمي.
بكلمة اخرى، الرأسمالية وُلدت عالميا لأنها تطلبت امبراطورية لترسم حدودها. وكما في كتاب بكتي الشهير، فان كتاب "امبراطورية القطن" كان متواضعا فقط في الاسلوب. المؤرخ بيكيرت من هارفرد الذي اشتهر بتدريس تاريخ الرأسمالية الامريكية، كتب عن تاريخ برجوازية نيويورك في عصر الرواج الاقتصادي. كتاب (The Monied Metropolis) وصف التركيز البارز للسلطة في فترة زمنية قصيرة حين تحولت الولايات المتحدة من المجتمع الزراعي الى مجتمع المدينة، ثم الى المدينة العالمية. كتابه الجديد يعطي القراء صورة عالمية لنيويورك. المؤرخون بشكل جماعي رسموا قائمة تسوّق لمشتريات عرضية. السكر كان في وقت ما المحرك للتجارة الثلاثية المبكرة. كينيث بوميرانز رفع من شهرة الفحم مؤكدا في "الانحراف الكبير" ان اوربا نجحت لأن المناجم البريطانية كانت قريبة من المصانع الجديدة على العمل، بينما الصين تخلفت لأن ترسبات الفحم الاسود كان يصعب الوصول اليها. ديفد لاندز في "Unbound Prometheus" جعل من الحاوية البسيطة للشحم الحيواني بطلا مختبئا للثورة الصناعية.
بالنسبة لبيكيرت، كان القطن المادة المحركة للعولمة. في عام 1858 اعلن جيمس هنري هاموند من جنوب كارولينا بان "القطن ملك". لكن القطن لم يكن دائما ملكا في عالم الاطلسي. بينما كان ملكا في الهند. في ملحمة بيكيرت القصصية، في بداية القرن الثامن عشر، وفرت الهند قطنا مرغوبا خفيف الوزن ونسيجا للاسواق الاوربية. القطن الهندي كان يتم اعداده من جانب المزارعين جنبا الى جنب مع محاصيلهم الغذائية، وبكميات كافية لادامة زخم التصدير العالي حتى القرن التاسع عشر. اوربا كانت تنمو لكنها بقيت سوقا هامشيا.
اذاً كيف عملت مواقع التجارة الاوربية والهندية كمركز لصناعة القطن؟ العنصر الهام يكمن في طبيعة التجارة الاطلسية. بيكيرت يحدد اصول ما قبل الصناعة لتلك التجارة بما يسميه "حرب الرأسمالية". هو يعني بهذا استخدام سلطة الدولة لتمويل الحرب ضد الخصوم لأجل الاسواق والاستحواذ ولإبعاد السكان الاصليين عن اراضيهم في امريكا وافريقيا. وبينما جُرّد الامريكيون الاصليين من ارضهم، جرى شحن الافارقة – حوالي 12 مليون منهم – من احد جانبي الاطلسي الى الجانب الاخر. وحينما امتزجت الارض الامريكية والعمل الافريقي ورأس المال الاوربي في مصانع القطن، استطاع مصدر جديد للقطن التفوق على المُزارع المنزلي في شبه القارة الهندية. لم تكن العوامل الداخلية كحقوق الملكية المحلية او المعرفة المفيدة، هي الحاسمة في التحولات الرأسمالية، "موجات من مصادرة العمل والاراضي ميزت هذه الفترة، وهي شهادة على الاصول غير الليبرالية للرأسمالية" حسبما يذكر بيكيرت.
لكن هذا ليس كل شيء. المصنعون في اوربا احتاجوا لإبعاد منافسيهم الهنود وخلق اسواق جديدة. يذكر بيكيرت ان مختلف انواع سياسات الحماية جاءت للانقاذ، لتشهد على الاهمية الكبيرة للدولة وعلى الاختلاف الكبير بين المصنعين واولئك الزاحفين في الخلف. وفي عشية الثورة الامريكية، امر البرلمان البريطاني بان الملابس القطنية المباعة داخل البلاد يجب ان تأتي فقط من انسجة مصنوعة في المملكة المتحدة. حكومات اوربية اخرى فعلت الشيء ذاته.
غير ان الحماية لم تكن كافية. بما ان الاسواق المحلية الاوربية وحدها لم تستطع المحافظة على التوسع في المصانع، فان زيادة التصدير يجب ان تُصنع. الاوربيون اعطوا النسيج للتجار الافارقة مقابل العبيد، واجبروا دول امريكا اللاتينية الحديثة الاستقلال بفتح اسواقها وبالنهاية ادخلوا منسوجات رخيصة الى ابعد نقطة في السوق الهندي. وهكذا اصبح المزارعون الهنود المغلوب على امرهم مزارعين مستأجرين لدى الدولة ينتجون قطن خام للتصدير للمصانع البريطانية. وبعد الحرب الاهلية الامريكية، سقط الملك قطن في اوقات صعبة لأن المزارع البرازيلية والمصرية والهندية يمكنها استئجار الفلاحين المطرودين باجور ارخص بكثير من العبيد المطلق سراحهم. وحالما اشتدت القيود التقليدية بين المزارعين والارض في افريقيا واسيا وامريكا، اصبح تجار القطن احرارا في استغلال الارض حين يرونها ملائمة. يكتب بيكيرت انه من عام 1860 الى عام 1920، زُرعت 55 مليون فدان في تلك المناطق بالقطن. وطبقا لبعض التقديرات، عاش بحلول عام 1905، 15 مليون شخص على زراعة القطن – اي حوالي 1% من سكان العالم.
ان صناعة القطن اصبحت ذات تنافسية عالية جذبت اصحاب الطموح. اليابان، مثلا، استبدلت المنسوجات المستوردة من الهند البريطانية والولايات المتحدة بقطن خام من كوريا في بدايات القرن التاسع عشر وبذلك اصبحت امبراطورية تجارية جديدة بذاتها. بلجيكا والمانيا حاولتا نفس الشيء في افريقيا. وهكذا ولدت امبراطورية باسم حرية التجارة. لكن الحلقة اُغلقت في النهاية عندما حاولت الهند ايضا استبدال المستوردات بالانتاج الوطني وقيام القوميين الاقتصاديين بتشكيل لوبي لتحرير الاقتصاد الاستيطاني من السيطرة البريطانية. وفي عام 1930، وجد مصنعو المنسوجات الاصلية في المملكة المتحدة ان شركاتهم تذهب الى الخارج كرد فعل لتكاليف العمل وبسبب نشطاء الطبقة العاملة. وفي عام 1960 تقلصت صادرات النسيج القطني البريطاني بمقدار 2.8% عما كان سابقا. امريكا الجنوبية رأت ان سلعها الرئيسية تهرب الى بنغلادش. اخيرا، يذكر بيكيرت ان مصانع القطن في اوربا وشمال امريكا جرى تجديدها "كاستوديوهات فنية او متاحف".
ان قصة واسعة كهذه تنذر بإثارة الاستياء تحت ضغط المفاهيم الثقيلة. في الحقيقة، بيكيرت يراوغ وينسج من بين الادّعاءات والتفاصيل الكبيرة. وصفه لليفربول في "بؤرة على امتداد العالم الامبراطوري" يضع القراء على الارصفة وخلف طاولة الباعة المتجولين. وصفه للحرب الاهلية الامريكية كان اختبارا حاسما لكل النظام الصناعي" هو مثال رائع عن الكيفية التي يعالج بها المؤرخون العالميون الاحداث – مقابل التركيز على الهياكل والعمليات والشبكات – لأنه يبين انعكاسات ازمة اقتصاد القطن الامريكي على البرازيل ومصر والهند. كان المستوى الذي انجزه بيكيرت مدهشا.
بيكيرت ربما قلب النقاش الداخلي رأسا على عقب. هو يبين كيف ان النظام بدأ بأجزاء متناثرة ارتبطت مع بعضها بتبادلات افقية. هو يصف كيف انها تحولت الى هياكل متكاملة هيراركية مركزية – والتي وضعت اسس الثورة الصناعية وبدايات الاختلاف الكبير بين الغرب وبقية العالم. امبراطورية القطن لبيكيرت هي اكثر من تسفيه للقصة الداخلية الممتعة لصناعة الانسان الراسمالي للغرب. صعود الرأسمالية احتاج للباقي، ولكي يكون الباقي منسجما مع الخط ذلك تطلّب فرض العنف، ووسائل امبريالية اخرى. القطن، "قماش حياتنا"، بقي امبراطورا لأنه، كالنظام الراسمالي الذي انتجه، اعتمد على احتلال ومصادرة منافع الاخرين.
مساوئ الامبراطورية
وكما صعد الرأسمالي البطل وبسط جناحيه في القصة الداخلية، عملت الامبراطورية غير البطلة في القصة الخارجية كالماكنة التي خلقت ذاتها. هذا اثار نفس مشاكل الدائرية: الامبراطورية تصبح سببا ونتيجة للرأسمالية. انها ايضا تثير مشاكل عن كيفية ربط اللامساواة والتكامل، وكلاهما يكمن في جوهر كتاب بيكيرت. وعلى عكس عقيدة الخارجيين، القسر لا يحتاج فقط الى قوة ملزمة حين تكون علاقات القوة غير متشابهة، السيطرة العالمية ليست بالضرورة متأصلة في الرأسمالية. ربما هي بسبب ان اللغة الانجليزية تنقصها المفردات الملائمة لوصف النظام العالمي والاجزاء غير المتشابهة لدرجة يلجأ الخارجيون الى مفردات سهلة مثل "امبراطور" او "سيادة". الداخليون، بالمقابل يقدمون معجم بالمصطلحات يؤكد على الخيارات والاستراتيجيات مثل "خلق الفرص" و "تعظيم المردود".
معظم المؤرخين يناصرون قصة منفردة، فهم اسرى لقصص عن الرأسمالية اما باعتبارها تحررية ام شيطانية، تنبثق اما من الاسفل او تُفرض من الاعلى. ولكي يختبرون ماضي العولمة الرأسمالية، هم يحتاجون الى عدد كبير من القصص العالمية التي تصل الى ما وراء الانقسام في القوة او الرغبة، وكلاء داخليين ام خارجيين. لتوضيح لماذا تصارعت بعض اجزاء العالم، لا يحتاج المرء للاختيار بين النظريات الخارجية التي تثق باللامساواة العالمية، والنظريات الداخلية التي تشجع القيود المحلية.
في الواقع، ان التفاعل بين المحلي والعالمي هو الذي يجعل الهروب من القيود شديد الصعوبة – او يخلق فرصة للهروب. بين هذين المستويين هناك طبقات معقدة من السياسات والممارسات التي ترفض اي من التفسيرات. في عام 1521، وهي السنة التي هزم بها الاسبان امبراطورية المكسيك وطالبوا بثروة العالم الجديد، القليل توقّع ان انجلترا ستكون محرك التقدم للقرنين القادمين، حتى الانجليز راهنوا على اسبانيا او الامبراطورية العثمانية وهو الذي يفسر لماذا هم يتبنون السرقات والاستغلال. وبالمثل، عندما سقط جدار برلين عام 1989 واجتاحت الدبابات الصينية ساحة تينامين، نجد ان عبارة "صنع في الصين" اصبحت نادرة. من كان يتصور نموا بمقدار 10% من رأسمالية ماو؟ المؤرخون عانوا المشقة في توضيح قصص النجاح بأماكن يُعتقد انها تفتقر للمواصفات الصحيحة. الشيء ذاته ينطبق على الفشل. في عام 1914 صنفت الارجنتين من بين اغنى المجتمعات الرأسمالية على الارض. ليس فقط لم يتنبأ احد بانهيارها البطيء، وانما الملايين راهنوا على نجاحها. لكي يجدوا علامة او دليل للنجاح او الفشل، يجب على المؤرخين النظر ليس فقط للسوق العالمي او المبادرات المحلية وانما للقوى التي تجمعهما.
قصص اخرى ربما تأتي من وراء مركز الرأسمالية ذاتها، موطن القصص الكلاسيكية للتحديث. في القرن التاسع عشر، العديد من الليبراليين خارج اوربا كافحوا لإيجاد مسار مختلف، لأن تقليد الغرب كان سعيا يائسا. بما انهم لم يدّعوا بملكيتهم لتاريخ الرأسمالية ولكنهم لازالوا يعتقدون بعقيدة الليبرالية، فهم حاولوا التفكير بما وراء ثنائية الخيار بين القسر- الحرية. (Juan Bautista Alberdi) ابو الدستور الارجنتيني والمواطن الاصلي لمقاطعة توكومان لانتاج القطن، كان مخلصا لحرية التجارة وفتح الحدود لإنتاج السلع. وكأي من العديد من الليبراليين العالميين، هو اصر على ان الحكومات لا يجب ان تلجأ للإكراه لخلق التكامل في شبكة التجهيز. (البيردي) كان حاد الانتقاد لاستخدام الحروب كوسيلة للتحديث، وهو انتقد نخب الارجنتين والبرازيل لتواطئهم خلال حرب البارجيان عام 1864-70، وهي الانعكاس للحرب الاهلية الامريكية في امريكا الجنوبية. عمله يجسد مثالا واحدا لمحاولات الرأسماليين التي لم تكن نسخ كاربونية ولا هي صناعة من فوهة البندقية.
الانقسام بين الداخليين والخارجيين هو مؤذي لأنه يخلق ضغطا للاعتماد على احد مبارزيهم الابطال وغير الابطال لتوضيح التطور الرأسمالي. في الحقيقة، المنفعة من التاريخ العالمي تأتي من التفكير في الرأسمالية بطرق متعددة ومستويات متعددة. من المؤكد، ان مخاض بقية العالم يفيد كتذكير بان انظمة الغرب ليست حتمية ولا دائمة كما يعتقد نقاد ومؤرخو الغرب.
اضف تعليق