تشدد الاحتجاجات غير المسبوقة في العراق على واقع أن العراق يفشل ببطءٍ كدولة. فرغم أن الحياة داخل البلد تحسّنت في بعض النواحي، ما زال ملايين الأشخاص تقريبًا يبحثون عن العمل كل عام من دون إيجاد وظيفة، وتستمر الميليشيات في إلحاق الذل علانيةً بالحكومة، وما من...
مايكل نايتس
تشدد الاحتجاجات غير المسبوقة في العراق على واقع أن العراق يفشل ببطءٍ كدولة. فرغم أن الحياة داخل البلد تحسّنت في بعض النواحي، ما زال ملايين الأشخاص تقريبًا يبحثون عن العمل كل عام من دون إيجاد وظيفة، وتستمر الميليشيات في إلحاق الذل علانيةً بالحكومة، وما من تدابير ملحوظة تُتَّخَذ من أجل الاستعداد لليوم الذي لن تعود فيه عائدات النفط قادرة على تغطية المصاريف الهائلة للرواتب الحكومية المتضخمة والمنافع الاجتماعية. وفي غضون ذلك، يبقى كلّ مَن يَحكم العراق من الأحزاب السياسية وزعماء الكُتَل راضيًا عن ترك البلاد تنهار طالما أن ذلك يخدم مصالحهم الضيّقة على المدى القريب.
ولا بد من إحداث تغييرٍ جوهري: على صعيد طبيعة سياسات الأحزاب، والفساد المستشري، والنفوذ غير المشروع الذي تمارسه الميليشيات المدعومة من الخارج، والانتخابات المزوّرة بأفضل شكلٍ إنما المسروقة تمامًا أكثر فأكثر. وعلى الصعيد الخاص، لا أحد تقريبًا من كبار جهات الاتصال السياسية العراقية التي أعرفها يكلّف نفسه عناء رفض أيٍّ من الوقائع المذكورة أعلاه.
تتّضح هذه المسائل أيضًا بشكلٍ جليّ بالنسبة إلى واضعي السياسات الأمريكيين في ما يخص العراق، لكنهم أقل يقينًا بشأن دور الولايات المتحدة في ما سيأتي لاحقًا. فهل يؤذي التدخل الأمريكي أولئك الذين يبحثون عن التغيير الإيجابي أو يساعدهم؟ وهل يمكن أن يؤدي التدخل الأمريكي الحاد إلى تقويض مصداقية حركة الاحتجاجات البلدية الأصيلة، والحث على قيام الميليشيات المدعومة من إيران بردة فعل أكثر حدّةً بعد؟ وعدا عن التكتيكات الرائجة، ما الذي يتوقعه جيل العراقيين القادم من الولايات المتحدة؟ وما الذي سيتذكرونه عن نشاطنا أو تقاعسنا في خلال هذه الفترة؟
لا بد من أن تحسم الحكومة الأمريكية أمرها بسرعة حول هذه المسائل ثم أن تتصرف على هذا الأساس. وثمة طريق واضحة نسبيًّا، ولو أنها قد تكون خطرة، للمضي قدمًا؛ فلا بد من أن نصطف إلى جانب الجيل الجديد من العراقيين والشيعة الوسطيين داخل المؤسسة الدينية. ويجب أن ندعم التغيير المنظَّم وغير العنيف الذي يبلغ ذروته في قانونٍ انتخابي جديد، وقانون جديد للأحزاب السياسية، ومراقبة دولية فعّالة في الانتخابات القادمة. وعلينا أن نفرض بسرعة مجموعة عقوبات "قانون ماغنيتسكي العالمي" ضد العراقيين الرئيسيين المسؤولين عن مقتل المدنيين العراقيين.
إنها دعوة عالية المخاطر، لكنّ الاحتجاجات الجارية في العراق تشكّل أيضًا لحظةً فريدةً في التاريخ الحديث للعراق. فهذه المرة الأولى التي يقوم فيها الأفراد العراقيون الشباب بإطلاق الاحتجاجات الجماعية، بدلًا من الدهماويين الإسلاميين الذين يشكّلون بأنفسهم جزءًا من المشكلة.
رؤية المصالح الأمريكية بوضوح في العراق
مع أنه قد يصعب على نقّادنا تصديق الأمر، تريد الولايات المتحدة أن يتمتع العراق بالسيادة والاستقرار والديمقراطية. وربما يعود سبب جدّيّتنا في تحقيق هذه الأهداف إلى أننا تعلمنا عدم توقُّع المزيد: فعلى سبيل المثال، اتضح منذ عقدٍ من الزمن أو أكثر أن العراق لن ينظر أبدًا إلى النظام الإيراني بالطريقة المرتابة نفسها كما تفعل أمريكا. لكن مهما كان دافعُنا، نريد عراقًا قادرًا على مقاومة الضغط الخارجي، من دون الحاجة المستمرة إلى سفك الدماء الأمريكية وإلى التدفقات النقدية من الولايات المتحدة، وبشكلٍ يؤيّد رؤيتنا المتمثلة في رغبة العراقيين في الاتجاه نحو الخيار الديمقراطي وتقديره.
لكن بحسب خبرتي، أشاحت الولايات المتحدة بنظرها عن هذه الأهداف في خلال الحرب لمقاتلة تنظيم "الدولة الإسلامية". وكنتُ أحذّر من عودة ظهور هذا التنظيم منذ عام 2011؛ فعارضتُ انسحاب الولايات المتحدة وطالما أيّدتُ بعثة التدريب العسكرية الأمريكية في العراق؛ ونجحت في الدفع باتجاه استخدام الغارات الجوّيّة الأمريكية للمرة الأولى من أجل إنقاذ المدنيين في أواخر آب/أغسطس 2014؛ وكنتُ جزءًا من عملية التخطيط في "عملية العزم الصلب"، وهي الحملة التي ساعدت العراق في تحرير كافة مدنه التي كان يستولي عليها تنظيم "الدولة الإسلامية". فلستُ متسامحًا مع هذا التنظيم، لكنني أعتقد أنه علينا الآن إعطاء الأولوية للمخاطر الاستراتيجية الأخرى في العراق.
حان الوقت لنقرر ما الذي يطرح الخطر الأكبر على سيادة العراق واستقراره وديمقراطيته. فما زال المسؤولون الحكوميون الأمريكيون يرون العراق بشكلٍ أساسي كمنصة انطلاق للحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، وازدادت بالفعل أهمية موقع العراق كقاعدة بعد أن أصبحت أساسات الوجود الأمريكي في سوريا تبدو متزعزعة باستمرار. لكن هل يستحق تنظيم "الدولة الإسلامية" تصنيفه على رأس مصالحنا الأساسية في العراق؟ كلا، ولا بأي شكلٍ من الأشكال.
على عكس التقديرات الحكومية الأمريكية الضخمة التي تبلغ 14,000 مقاتل من تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا، يبلغ التقدير الأكثر احتمالًا أقل بكثير من نصف هذا العدد. فيكافح هذا التنظيم حاليًّا لمعاودة الظهور ولو بشكلٍ طفيف. وقد يتغيّر ذلك في يومٍ من الأيام، لكنه لن يحدث على الأرجح لعدة سنوات. وفي المقابل، بنت إيران قوةً من الوكلاء يفوق عددهم 60,000 رجلٍ ميليشياوي داخل العراق، وهم يُحدثون فراغًا في القوى الأمنية العراقية ويتغذّون من الميزانية الاتحادية بقدرٍ بلغ 2.2 مليار دولار في عام 2019.
الخطر الأكبر هو إيران، وليس تنظيم "الدولة الإسلامية"
لا تستطيع دولة الظل التي بنتها إيران أن تكون موجودة بموازاة استراتيجية ناجحة لمكافحة تنظيم "الدولة الإسلامية". وكما يقرّ السياسيون والجنود العراقيون بصراحة، تقوّض هذه الماكينة الإيرانية الصنع باستمرار وبلا هوادة قدرة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة على مساعدة العراق في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" عبر منع المستشارين الأمريكيين والطائرات المسيّرة الأمريكية من تنفيذ العمليات.
في آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر، سجّل موقع منظمة "ضحايا حرب العراق" (Iraq Body Count) 93 و151 وفيّةً، أغلبها بسبب تنظيم "الدولة الإسلامية". لكن في تشرين الأول/أكتوبر – حين بدأت احتجاجات العراق – نقلت "المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق" مقتل أشخاصٍ بلغ عددهم 301 في الاحتجاجات وجرح أكثر من 15,000 آخرين. وأظهرت عدة منظمات تُعنى بحقوق الإنسان مع عدة صحافيين ومحتجين عراقيين أن إيران تنسّق هذه الحملة القمعيّة العنيفة. وبعباراتٍ بسيطة، تتسبب إيران مع حلفائها الآن بمقتل ضعف عدد العراقيين الناتج عن تنظيم "الدولة الإسلامية" كل شهر.
أصبح كلٌّ من المحتجين العراقيين والمؤسسة الدينية الشيعية (بقيادة آية الله علي السيستاني) منفتحًا وصريحًا أكثر فأكثر بشأن الخطر الأكبر على العراق الذي تطرحه الآن إيران مع حلفائها داخل النخبة السياسية الفاسدة في العراق. كما يجب أن تقبل وزارة الدفاع الأمريكية هذا التقييم وأن تبني سياستنا حوله.
إيران تشكّل الآن لاعبًا في الوضع الراهن العراقي
تسيطر إيران على الحكومة العراقية في أعلى مستوياتها. وكان هذا الوضع سائدًا في فترة كبيرة من العام 2019، لكنه ساد بشكلٍ خاص منذ أواخر الصيف. وبصفتي مِن الأشخاص الذين شاهدوا انكشاف هذا الأمر كوني على صلة وثيقة بالقادة الإيرانيين، أتذكر وضوح لحظتين مفصليّتيْن هما: أولًا، تعيين أبو جهاد، وهو سياسي مدعوم من إيران، كمدير المكتب المتعجرف لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي؛ وثانيًا، نجاح إيران في تعزيز ريبة رئيس الوزراء من قيام الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل وأتباع صدّام حسين السابقين والضباط العسكريين الذين تلقوا تدريبًا أمريكيًّا بالتآمر لإزاحة عبد المهدي.
يصل "الحرس الثوري الإيراني" إلى حد السيطرة، وليس التأثير فحسب، على الحكومة العراقية. فباستطاعة طهران الآن إرسال جنرالات إيرانيين لتوجيه قمع العراق لشعبه الخاص. وتستطيع إيران إعلام الرقابة الخاصة بالحركة الجوّيّة العراقية بوقت إغلاق المجال الجوّي أمام الطيران الأمريكي. ويمكن أن تأمر إيران بقتل مئات المدنيين العراقيين وأن تشرف على هذه العملية مع التمتع بالحصانة، مطمئنةً لمعرفة أنه ما من حزبٍ مذنبٍ واحد سيُذكَر في التحقيقات الحكومية العراقية. ولا تتخلص إيران من القوات الأمريكية في العراق لأن هذه القوات تشكّل رهائن مكشوفة يمكن بلوغها بسهولة، ولأنها لا تطرح تهديدًا فعليًّا لسيطرة إيران على بغداد.
بعد بلوغ ذروة النفوذ، تتمثل وظيفة إيران الأساسية الآن في حماية النخبة السياسية والاقتصادية الفاسدة القديمة من خلال منع التغيير. وتتمثل مهمة "الحرس الثوري الإيراني" في العراق في "الدفاع الداخلي الأجنبي" عن طبقة فاسدة من الحكّام. ولتأدية دور أحد اللاعبين في الوضع الراهن عدة منافع – أولها واقع أن كامل النظام تقريبًا يعوّل الآن على إيران لحماية امتيازاته غير المشروعة. وإذا كنتم تعرفون القادة العراقيين شخصيًّا، تعلمون أن سياسيي الأحزاب والبرلمانيين والوزراء لا يريدون خسارة وظائفهم السهلة إذا انهارت الحكومة أو واجهت الانتخابات المبكرة. ويعتمد أكراد العراق على رئيس الوزراء الحالي لتأمين حصتهم من الميزانية ويعتبرون أن أي بديل يشكّل خطرًا.
أما تأدية دور السلطة التي تحافظ على الطبقة السياسية الفاسدة فلها عدة مساوئ. فكما تَعلّمَ كلٌّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في خلال الحرب الباردة، أن تكون إحدى الجهات "مسؤولة" عن جرائم الأنظمة الشنيعة أمرٌ يمكن أن يتسبب بأضرار جدّيّة في السمعة وبردود فعل شعبية حادّة. وإذا كانت إيران تدافع علنًا عن النخبة الفاسدة، فهذا يفتح فرصًا ملحوظةً أمام الولايات المتحدة للوقوف في صف الجيل الجديد من العراقيين والشيعة الوسطيين داخل المؤسسة الدينية. ويجب أن تكون الولايات المتحدة واضحة من ناحية أنها ليست لاعبًا في الوضع الراهن العراقي، بل تدعم بقوة التغييرات الضرورية التي يسعى إليها الشعب العراقي.
ما نوع التغيير الذي يجب أن تدعمه الولايات المتحدة في العراق؟
يجب أن تكون الولايات المتحدة واضحة بشأن ما نريد ولا نريد رؤيته. فلا يمكننا أن تشكّل قوّةً في الوضع الراهن العراقي، كما كنّا قبل نصف عقدٍ من انسحابنا في عام 2011. ومن وجهة النظر المتعلقة بالسياسة والأجيال والاقتصاد، لن يدوم الوضع الحالي: فهو رهانٌ خاسر، ولو أن النخبة الفاسدة القديمة المدعومة من إيران ستتمسك به بإحكام. ومن ثم، فان رفض الوضع الراهن ثم يطرح السؤال: ما هو نوع التغيير الذي يجب أن تؤيده الولايات المتحدة؟
أولًا، يجب ان تدعم الولايات المتحدة التغيير المنظَّم. وهذا يعني التغيير التدريجي والمنتظم الذي يشمل العمليات الدستورية والقانونية. فتمقت المؤسستان العراقيتان السياسية والدينية الفوضى، وتتخوفان منها أكثر من أي شيء. وإذا كان أي شيء سيؤدي إلى الاتحاد على نطاق النظام للدفاع عن مصلحة مشتركة تصبّ في صالح إيران، فهو خطر الفوضوية والخلافة غير الواضحة. وإذا بقيت الاحتجاجات تفتقر إلى القيادة، ستنزلق على الأرجح باتجاه الاستمرار في العصيان المدني وتصعيده وفقدان شرعية كافة مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية بشكلٍ كامل. ويشير ذلك إلى أن المجتمع الدولي – بما فيه الولايات المتحدة – يجب أن يشجّع ويحمي ظهور "وجهٍ" حكيم وصوتٍ ينطق باسم المحتجّين، قد ينتمي إلى كلّيّة جامعيّة أو إلى المجتمع المدني.
ويمكن أن يؤدي ذلك إلى عملية تفاوض من النوع الثاني حيث يمكن تلبية مطالب المحتجين بشكل مطرد، في أطر زمنية واقعية، ولكن دون فقدان التركيز.
ثانيًا، يجب أن يكون التغيير بعيدًا عن العنف وسفك الدماء قدر الإمكان. فتحظى الميليشيات المدعومة من إيران بمنافع شديدة إذا استمر عنف الاحتجاجات في الازدياد. وإذا تدهورت الاحتجاجات تمامًا لبلوغ حد التخريب والتدمير، سيتزعزع جزءٌ من الرقي الأخلاقي للاحتجاجات وسيتداعى الدعم الآتي من التيار الديني الشيعي والمجتمع الدولي. ورغم أن رؤية المحتجين يجتاحون السفارة الإيرانية في بغداد في ذكرى غزو "الحرس الثوري" المشابه للسفارة الأمريكية في طهران كانت ستشكّل ربما انتقامًا سارًّا، فالواقع هو أن تطورًا كهذا كان ليُقحِم وسط العراق على الأرجح في حربٍ محتدمة بين الفصائل، وليتسبب بتدمير السفارة الأمريكية جزئيًّا وإخلائها.
ثالثًا، يجب أن تدعم الولايات المتحدة بقوة الانتخابات العادلة، عندما تحصل، سواء في العام 2020 أو 2022. فرغم توقُّع المحتجين وحتى المؤسسة الدينية الشيعية كما يبدو إجراء انتخابات مبكرة في العام 2020، إنه العراق، حيث تكون غالبًا تكتيكات الإرجاء فعّالة وحيث ستخسر كامل الطبقة السياسية تقريبًا في حال إجراء انتخابات مبكرة بموجب قانونٍ عادلٍ وتحت إشرافٍ دولي. وإذا كانت تغييرات القانون الانتخابي بطيئة ولم تجرِ الانتخابات المبكرة في العام 2020، ستميل القوى العراقية إلى اعتبار أنه لا قيمة فعليّة لتسريع الانتخابات المستحَقّة في أوائل العام 2022 على أي حال. كما يبدو أن الحكومة المؤقتة – مع رئيس حكومة جديد ومجلس وزراء جديد – لن تُشكَّل على الأرجح في الفترة الممتدة من الآن حتى الانتخابات المبكرة. وكنتيجة لذلك، ثمة درجة جيدة محتملة من الاستمرارية السياسية في العراق. لكن فيما يجب ألا تتبع الولايات المتحدة مهلًا زمنية عشوائية، يجب أن تساند بقوة الفرضية الأساسية للقانون الانتخابي الجديد، وقانون الأحزاب السياسية الجديد، والمراقبة الدولية الفعّالة للانتخابات القادمة. ولا بد من أن تكون طموحاتنا كبيرة بشأن كافة هذه المسائل.
أخيرًا، يجب أن تبذل الولايات المتحدة جهدًا ملحوظًا في دعم الجهد الدولي الأوسع نطاقًا لمنع حملة القمع على الاحتجاجات ومعاقبتها، والسعي إلى تحقيق العدالة للعراقيين المقتولين والمختَفين والمعذَّبين. وسيصعب على الولايات المتحدة رسم أي "خطوط حمراء" نهائية حول القمع الجاري لأن آلية حملة القمع على قادة الاحتجاج التي توصي بها إيران ستكون تدريجية وغامضة بشكلٍ متعمَّد. لكن في ما يخص بعض القضايا المحددة – مثل الأوامر بإطلاق نيران القنص، واجتياح المحطات التلفازية، واختطاف قادة الاحتجاج، واستخدام الغازات المميتة وقذائف السيطرة على أعمال الشّغب – يمكن أن تحذو الولايات المتحدة حذو بعض المجموعات مثل "منظمة العفو الدولية"، و" بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق" و"هيومن رايتس ووتش" لتكون ناشطة جدًّا في التماس العدالة في القضايا الفردية.
ما هي الأدوات المتوافرة في أيدي الولايات المتحدة وشركائها؟
في حين تمتعت الولايات المتحدة بمستوًى غير اعتيادي من النفوذ في العراق بعد غزو عام 2003 إلا أن ذلك شقّ الطريق تدريجيًّا نحو نشوء علاقة طبيعية أكثر. والآن يمكن القول إن الدفة مالت إلى الطرف النقيض، مع تمتُّع إيران حاليًّا بسيطرة لا نظير لها و"إقصاء" الولايات المتحدة أكثر من قبل.
لا يريح هذا الأمر واضعي السياسات الأمريكيين، لكنه قد يقوّيهم أيضًا. فلم تعُد الولايات المتحدة مضطرة إلى الدفاع عن كافة عثرات النخبة السياسية العراقية المتصدعة، من دون التمتع بمنافع حقيقية في المقابل، كما كان الحال في معظم الفترة الممتدة منذ أن بدأت الولايات تنسحب في عام 2009. وعلى الولايات المتحدة أن تتعلم الآن كيفية لَعب لعبة مختلفة في العراق، وهي لعبة يمكن أن تفرض تكاليف ملحوظة على إيران وأن تبني علاقة طويلة المدى وأكثر استدامة بين الولايات المتحدة والعراق.
لا يمكن تلطيف واقع تلاشي السلطة الأمريكية في العراق. وتشمل القيود الأمريكية المتعددة النظرة الرئاسية السلبية للعراق، وشرود انتباه القيادة العليا، ومعدل دوران مسؤولي المستوى المتوسط، وانخفاض حرية التنقل والأمن على الأرض، بالإضافة إلى المقاومة العامة لتجريب نُهُجٍ جديدة أو استخدام المعلومات الاستخباراتية أو المجازفة. فماذا يترك ذلك في ما يتعلق بالاستراتيجيات المبتكرة للحكومة الأمريكية؟
إذا بقيت الولايات المتحدة في العراق – أي إذا لم نختر المغادرة أو لم تُسحَب دعوتنا – يجب أن يتم لَحظُنا أكثر. وإحدى الطُرُق لزيادة إمكانية لَحظ وجود الولايات المتحدة قد تكون من خلال توسيع نطاق وسائل تواصلها اليومية، لا سيما في العربية والكردية، حتى تشمل الإحاطات الصحافية اليومية وحتى المزيد من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وفيما قد تبدو عمليات التواصل الثقافية وبين الأشخاص كأنشطة ذات تأثير متدنٍّ في الأوقات العادية، ربما تكون مناسبة جدًّا بشكلٍ خاص لهذا الوقت الذي تريد فيه الولايات المتحدة الإشارة إلى التضامن مع المطالب الشرعية للشعب العراقي.
يجب أن تعمل الولايات المتحدة أيضًا عن كثب أكثر فأكثر مع كافة أصدقاء العراق الخارجيين الآخرين حتى يتحدث المجتمع الدولي بصوتٍ واحدٍ ومرتفع. وكما هو الحال أصلًا بشكلٍ جزئي، يجب أن تنسّق الإدارة الأمريكية نهجها مع "بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق"، و"بعثة الاتحاد الأوروبي الاستشارية في العراق"، و"قوة المهام المشتركة-عملية العزم الصلب"، و"بعثة التدريب التابعة للناتو في العراق"، والسفارات في بغداد، ومنظمات حقوق الإنسان.
يجب أن تركّز الولايات المتحدة قدرات استخباراتها التي ما زالت ملحوظة على أسوأ أعضاء النخبة السياسية والميليشياوية الفاسدة. فما زالت الحكومة الأمريكية تتمتع بالقدرة على اعتراض مجموعة واسعة من الاتصالات، وتفحُّص الممتلكات الماليّة، وتلقي التسريبات بشكلٍ آمن عن معلومات حساسة جدًّا وشخصية تخص النخبة العراقية. وهذه القدرة بحاجة إلى الإثبات في حملة ترهيب مستمرة ضد منتهكي حقوق الإنسان والسياسيين الممكّنين لهم في العراق.
في ما يتعلق بما سبق، يجب أن تفرض الولايات المتحدة بسرعة مجموعة عقوبات مجدية ومتكررة من "قانون ماغنيتسكي العالمي" ضد أهم العراقيين المسؤولين عن مقتل المدنيين العراقيين. ومع أنه قد يصحّ اتهام الولايات المتحدة بـ"حصرية حلولها" عبر اعتمادها المفرط على العقوبات، زرعت عقوبات "قانون ماغنيتسكي العالمي" في شهر تموز/يوليو 2019 ضد أربعة قادة عراقيين بارزين الخوف المؤكد – الذي كان أقرب إلى الذعر – في نفوس النخبة الفاسدة في بغداد. فيجب أن ترى بعض الشخصيات مثل أبو جهاد وفالح الفيّاض وأبو منتظر الحسيني، أو المجموعة الكبيرة من المسؤولين الميلشياويين والأمنيين المدرَجة هنا، أن أصولها الخارجية وسفراتها أصبحت في خطر.
إدارة مخاطر تدخل الولايات المتحدة أو عدم تدخلها
من المسائل الباقية مسألة الخوف في الأوساط الحكومية الأمريكية من أنّ قول أي شيء قد يشتت الانتباه عن المحتجين العراقيين أو يعرّضهم للفشل والقمع. والهاجس النقيض هو أننا قليلًا ما نفعل ونتكلم، فنتصرف في وقتٍ متأخر، ونبدو قاسين تمامًا كإيران في دعم النخبة الفاسدة.
سأعتبر أن هذه هي فرصة الولايات المتحدة للعودة إلى الجهة الصحيحة من التاريخ في العراق، وفي النهاية الجهة الرابحة. فدمّرت إيران العراق الجديد الذي برز منذ انسحاب الولايات المتحدة في عام 2011 – هذه المرة، يجب أن يتم محاسباتها.
أصبح بإمكان الولايات المتحدة الآن أن تكون الجهة التي تلعب لعبتها على المدى الطويل. فيجب ألا نخاف من أن ندعم بقوة تحقيق السيادة والاستقرار والديمقراطية في العراق. وأوضحت أحداث تشرين الأول/أكتوبر أمرين: فيبدو أن المحتجين العراقيين والمؤسسة الدينية الشيعية يفهمون بوضوحٍ كبير من هو البلد المتطفّل في العراق، وهذا البلد هو إيران، وليست الولايات المتحدة. فلا يجوز أن تخيفنا أبسط الأمور.
ما يتّضح بالقدر نفسه هو أن الميليشيات المدعومة من إيران متأكدة أصلًا بنسبة 100% (بشكلٍ مثيرٍ للضحك) أن الولايات المتحدة ومحمد بن سلمان والموساد وأتباع صدّام هم مسؤولون عن الاحتجاجات. فقد يصدقون أي شيء ذي طابع تآمري لتفادي واقع ما يبزغ في العراق. ولن تزيد التصريحات الأمريكية هذا الوضع سوءًا.
من الواضح أنه لا يجوز أن تشجّع الولايات المتحدة الاحتجاجات غير الشرعية أو التخريب أو الثأر، حتى ضد الاستفزازيين الإيرانيين. ويجب أن تعكس واشنطن بشكلٍ كبير التصريحات الحكيمة الخاصة بآية الله علي السيستاني حول المسائل المتعلقة بالاحتجاجات. فإذا تذكرنا تشجيع الولايات المتحدة للانتفاضة في عام 1991، والتي اندلعت ضد صدام حسين وتم قمعها بوحشية، نجد أن الولايات المتحدة قد أيدتها بشدة فقط بالصوت العالي لكنها لم تدعمها لاحقًا، فلا يمكن أن نشجّع أحدًا على تجاوز ما سندعمه.
ولا يمكن ألا نحرّك ساكنًا. فحتى لو لم يبدُ العراقيون مهتمين كثيرًا لما تفكّر أو لا تفكّر فيه الولايات المتحدة اليوم، قد يتبدل هذا الأمر. فإذا واجه المحتجون حملة قمعٍ جدّيّة، قد يصبحون حساسين جدًّا إزاء عزلهم الواضح، كما كان الحال مع انهيار "التحرك الأخضر" في إيران في عام 2009، الذي ردع ربما الاحتجاجات اللاحقة لحوالى عقدٍ من الزمن. ويمكن أن تستطلع الولايات المتحدة اليوم آراء العراقيين، لكنها لا تستطيع أن تقيس كيف سيتذكر العراقيون هذا الوقت في المستقبل.
الاستعداد للمغادرة، حتى لا نُضطر إلى ذلك
وفى حين بقي الوجود الرسمي الأمريكي في العراق، إلا أن إيران تستطيع إزاحة القوات الأمريكية والدبلوماسيين الأمريكيين بواسطة بعض القذائف في الموضع المناسب أو بواسطة جدلٍ برلماني. وهم يختارون عدم القيام بذلك لأننا أصبحنا أكثر فأكثر غير مرتبطين بخططهم في العراق، ولأنهم يبطلون مفعول قدرتنا على محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" أو بناء المؤسسات أو حماية العراق من تخريبهم.
وبناء على ذلك، يجب ألا يمثل الوجود الأمريكي في العراق رادعًا لاتخاذ أي إجراء. فنحن لا نجازف كثيرًا إذا جازفنا باستبعادنا من العراق. واستفادت النخبة العراقية من قيامنا بقتل أعدائها وإعطائها ثقلًا موازنًا لإيران، إلا أن العلاقة أصبحت من طرف واحد ولم تعُد تخدم مصلحتنا بشكلٍ كافٍ. فيجب أن يفهم القادة العراقيون أنهم لا يحسنون إلينا إذا سمحوا للقوات الأمريكية بالبقاء في العراق: بل على العكس تمامًا. فما زالت أمريكا محمية جيدًا من تنظيم "الدولة لإسلامية" من دون التخلص بشكلٍ كامل من هذه الكارثة في العراق أو سوريا.
يجب أن تكون الولايات المتحدة جاهزة، إذا استمرت السيطرة الإيرانية في مستوياتها الراهنة، لتعليق جهودنا العسكرية في العراق الاتحادي، وإقناع الشعب بأهمية التخلص من الوجود الأمريكي العسكري هناك.
ويجب أن نكون جاهزين لتعليق الإعفاء من العقوبات مؤقتًا، الأمر الذي من شأنه أن يحرم الحكومة العراقية من تدفق الأموال ويحد من قدرتها على الاستيراد أو التصدير نتيجة سحب الأوراق النقدية الأمريكية المعتمدة التي اعتمدها مجلس الاحتياطي الفيدرالي ووقف العلاقات المصرفية المتبادلة. وكما أن الاستعداد للحرب هو أفضل طريقة لردع الخصوم وتأمين السلام، يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة حقًّا لأخذ استراحة في علاقاتنا مع نخبة العراق إذا كنا نرغب في تفادي الوصول إلى هذه النتيجة. فلا شيء يمكن أن تربحه الولايات المتحدة من خلال الدفع لدعم حكومة تسيطر عليها إيران في بغداد، لكنها قد تخسر الكثير عبر ذلك. وإذا رفضت الحكومة حماية المحتجين أو توفير العدالة والانتخابات المنصفة، إذًا لا يجوز أن تخاف الولايات المتحدة من التحرر منها والمراهنة على الجيل القادم من العراقيين.
تشكّل الاحتجاجات الراهنة فرصةً واختبارًا للصداقة بين الولايات المتحدة والعراق. ومع أنه يصعب على نقّادنا تصديق الأمر، تريد الولايات المتحدة تحقيق سيادة العراق واستقراره وديمقراطيته. وقد يشكّل ذلك بداية التحول: فمن الأفضل الاصطفاف إلى جانب الجيل القادم من العراقيين والمؤسسة الدينية بدلًا من النخبة الفاسدة. ولم تكن إيران موفَّقة في اختيار مَن تدعمه.
اضف تعليق