لوسي بي. ماركوس
لندن ــ لو كانت ذبابة سقراط تعيش في وادي السليكون فإنها كانت لتجد العديد من الخيول الكسولة لتلدغها. ويبدو أن مواطني "تكنوبوليس" باتوا غافلين عن الكيفية التي تغيرت بها نظرة العالم الخارجي لهم، وبشكل جذري. ذلك أن مركز التكنولوجيا الرائد في العالم، والذي كان ذات يوم يحظى بتبجيل العالم بوصفه مرتعاً للإبداع، أصبحت النظرة إليه عامرة بالريبة والاستياء.
صحيح أن وادي السليكون لا يزال موضع إعجاب باعتباره مصدراً للإبداع والتدمير الخلّاق؛ ولكن قطاعاً عريضاً من الناس بات يرى أيضاً أنه فقد بوصلته الأخلاقية. ومع التقارير المتزايدة عن المواقف المتراخية تجاه خصوصية البيانات، والاستخفاف المستهتر بكرامة من أهم أقل حظا، والشعور المتنامي بأن شركات التكنولوجيا تفرض أجنداتها السياسية المفضلة على بقية العالم، ترتفع مشاعر السخط وخيبة الأمل على نحو متزايد.
فعندما ينظر العالم من الخارج، فإنه يرى شركات تقطر شعوراً بالأحقية في القيام بأي شيء ــ على سبيل المثال، من خلال استهزائها بالقواعد التنظيمية المحلية وهي تتوسع إلى العديد من المدن في مختلف أنحاء العالم، من برلين إلى ريو دي جانيرو. والواقع أن هذه الشركات البالغة الثقة في قوة معارفها ومهاراتها مقتنعة بأنها سوف توجه العالم على المسار إلى الحقيقة. وهذا اليقين المتعجرف ليس جديدا ــ فقد تأسست الولايات المتحدة على الحماسة التبشيرية ــ ولكن الغطرسة الأخلاقية هي الجديدة.
بطبيعة الحال، ليست كل شركات التكنولوجيا من الممكن أن توسم بالعار باعتبارها المذنبة الرئيسية. ولكن الموجة الأخيرة من القضايا التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة تضر بسمعة القطاع ككل. وفيما ينظر العالم إلى وادي السليكون فيرى حجرة صدى عامرة بخيلاء القوامة الأخلاقية، فمن المفترض أن تكون شركات التكنولوجيا الناضحة التي تحترم القانون أيضاً داخل تلك الحجرة.
وقد أصبحت هذه القضايا بالغة الكثرة. فمؤخرا، تم حظر شركة أوبر ــ وهي شركة متلاعبة بالبيانات تروج لتطبيق تبادل السيارات وترفع الأسعار أثناء ذروة الطلب وتهدد الصحافيين الذين ينشرون أخباراً سلبية عنها ــ في أسبانيا وهولندا وتايلاند وولايتين في الهند حتى الآن، بما في ذلك نيودلهي (بعد مزاعم بأن أحد السائقين اغتصب راكبة). وتأتي هذه التقارير في أعقاب الكشف عن أن الصور التي يشارك بها المستخدمون على موقع سنابشات لا يمكن حذفها، كما وعِدوا. وفي أغسطس/آب حظرت السلطات البرازيلية تطبيق الشبكة الاجتماعية سيكريت بعد فشل الشركة في الاستجابة لمخاوف التحرش الإلكتروني، والآن تفكر إسرائيل في اتخاذ خطوة مماثلة. والقائمة تطول.
إن وادي السليكون يخاطر بتعريض نفسه لردة فعل عنيفة لن تعود على أي جهة بأي خير. فقد أصبح قادتها في تباعد متزايد عن التناغم مع توقعات الجماهير في ما يتصل بالسلوك الأخلاقي والضمير. وإذا فشلوا في توليد أفكار جديدة وابتكار أساليب جديدة، فإن مشاكلهم سوف تتضاعف.
والشيء الوحيد الذي قد يساعدهم الآن هو الدماء الجديدة. إن قدراً كبيراً من نجاح وادي السليكون يرجع إلى شبكاته الضيقة ــ الأشخاص الذين كانوا ناجحين وكل منهم يدعم الآخرين. ولكن التاريخ يثبت أن نفس البنية من الممكن أيضاً أن تخنق الإبداع. فالمنظمات، مثلها في ذلك كمثل الكائنات الحية، تتجه إلى التوالد الداخلي ويعتريها الضعف ثم تهلك في نهاية المطاف، إذا فشلت في احتضان التنوع.
والواقع أن واحدة من أكثر الحقائق التي ظهرت للنور كشفاً لواقع وادي السليكون في الأشهر الأخيرة كانت تتعلق بعدم التوازن العرقي والجنسي الشديد في شركات التكنولوجيا الكبرى، بما في ذلك أبل، وجوجل، وفيسبوك، وتويتر. ولم يكن ذلك صادماً لأحد، ولكن من الواضح أن شيئاً ما لابد أن يتغير. فبطريقة أو بأخرى، ينبغي للمكان الذي يفتخر بالإبداع والقيام بالأشياء بطريقة مختلفة أن يفعل هذا أيضاً بشكل مختلف.
في المقام الأول من الأهمية، هناك قيمة في التشكيك في الوضع الراهن وتحديه. إن استقلال الفِكر والعمل أمر بالغ الأهمية لأي اقتصاد لكي يؤدي وظيفته ولكي يبني الأشياء التي تدوم وتساهم في النمو الاقتصادي والرخاء. في اعتذار أفلاطون، يدافع سقراط عن قيمة الحياة المختبرة ــ عادة التأمل الذاتي الصارم وطرح تساؤلات قاسية وغير تقليدية بل وربما شديدة الإزعاج على النفس. ويتعين على قطاع التكنولوجيا أن يتبنى هذه العقيدة.
من عجيب المفارقات أن التشكيك في الحكمة السائدة ــ وبالتالي اختراع حلول جديدة جذريا ــ كان أسلوب عمل وادي السليكون منذ البداية. ولكنه التزم بهذا النهج على المستوى الكلي وفي التعامل مع مشاكل في أماكن أخرى من الاقتصاد، من دون أن يختبر ذاته ويخضعها للدراسة.
يتعين على مواطني وادي السليكون أن يشرعوا في تطبيق مهارتهم في الإبداع والابتكار ــ وافتخارهم "بتكسير الأشياء" ــ على أنفسهم. فالسبيل الوحيد للتطور هو التكيف مع الضغوط البيئية الجديدة، والآن يواجه وادي السليكون ــ وهو ما يرجع بشكل كبير إلى سلوكه شخصيا ــ الكثير من هذه الضغوط. وما لم يتغير فسوف يفوته الركب.
والنبأ السار هنا هو أنه إذا كان أي مكان قد أثبت قدرته على الإبداع، فهو وادي السليكون. ولكن الآن يتعين على مواطنيه أن يعترفوا بأنهم لا يملكون كل الإجابات؛ ولكن يبدو أنهم للأسف لا يدركون، حتى الآن على الأقل، وجود أي مشكلة. وكمثل "الحرفيين المهرة" الذين وصفهم سقراط، "ادّعوا استناداً إلى قوة كفاءتهم الفنية فهماً مثالياً تاماً لكل موضوع آخر، مهما بلغت أهميته".
كما أدرك معلم أفلاطون، فإن المعرفة القليلة قد تكون شيئاً خطيرا ــ وينبغي لكل تقرير جديد عن السلوكيات الاستغلالية المسيئة لهذا القطاع أن تذكرنا بهذه الحقيقة.
* الرئيسة التنفيذية لاستشارات فينشر ماركوس
https://www.project-syndicate.org/
اضف تعليق