قوة الشعبويين المتنامية تهدد أحزاب يمين ويسار الوسط التقليدية، مما يجعل من الصعب للغاية لإدارة حكومية في مستوى الاتحاد الأوروبي، أن تؤدي وظيفتها. لكن ماذا لو ساعد النجاح الانتخابي المتواصل للحركات الشعبوية في الدفع قدما بعملية إعادة هيكلة سياسية أوسع مدى تؤدي في النهاية لتقوية الديمقراطية...
كمال درويش
واشنطن العاصمة ــ قبل عام، تنفس كثيرون الصعداء بعد الفوز الحاسم الذي حققه إيمانويل ماكرون في انتخابات الرئاسة الفرنسية، متبوعا بنجاح حزبه في الانتخابات التشريعية. وبدا ساعتها أن المد المرتفع للشعبوية المتطرفة في الغرب قد انعكس وتراجع. لكن تبين أن الأمر ليس كذلك. غير أن الظهور المفاجئ بشدة لحكومة ذات أغلبية شعبوية في إيطاليا، وهي عضو مؤسس في الاتحاد الأوروبي، لا ينبئ بالضرورة عن كارثة.
صحيح أن قوة الشعبويين المتنامية تهدد أحزاب يمين ويسار الوسط التقليدية، مما يجعل من الصعب للغاية لإدارة حكومية في مستوى الاتحاد الأوروبي، بشكله الحالي، أن تؤدي وظيفتها. لكن ماذا لو ساعد النجاح الانتخابي المتواصل للحركات الشعبوية في الدفع قدما بعملية إعادة هيكلة سياسية أوسع مدى تؤدي في النهاية لتقوية الديمقراطية الأوروبية؟
تعزز تجربة ماكرون ذاته هذه القراءة. فهو لم يسبق له تولي منصب عن طريق الانتخاب، ومن ثم أنشأ حزبا جديدا يتمركز حول نفسه، مع دعم من ناخبي كل من يسار ويمين الوسط. ويبدو أنه أعاد هيكلة السياسة الفرنسية في هذه العملية.
ومن المحتمل أن تكشف انتخابات البرلمان الأوروبي، المزمعة العام المقبل، المزيد عن إمكانية وفرص حدوث إعادة الهيكلة السياسية على هذا النحو. فلم يسبق أن حاز البرلمان الأوروبي على نفس المستوى من الاهتمام الذي تناله المؤسسات الأوروبية الأخرى مثل المفوضية، أو المجلس، أو حتى محكمة العدل. ونادرا ما يتجاوز نطاق المناقشات البرلمانية الأوروبية حدود مدينتي بروكسل أو ستراسبورج. كما درجت العادة على أن يكون إقبال الناخبين لاختيار النواب وشغل مقاعد البرلمان ضعيفا. ولطالما استُشهد بمثل هذه الحقائق للتدليل على معاناة الاتحاد الأوروبي من قصور ديمقراطي، في ظل عدم انخراط المواطنين بشكل كاف مع الإدارة الحكومية على المستوى الأوروبي.
لكن تغيرت هذه الديناميكيات بعد أن ضربت الاتحاد الأوروبي سلسلة من الأزمات ــ والتي كان تأثيرها أشد ما يكون في اليونان، وأيرلندا، والبرتغال، وإسبانيا، وإيطاليا. فقد ولت عصور تقبل الأوروبيين للاتحاد الأوروبي في هدوء ودون مناقشة، رغم بعض الشكاوى. أما الآن، أضحى الاتحاد الأوروبي في قلب المناقشات السياسية المحلية، التي أصبحت تتضمن بشكل متزايد أسئلة وجودية عن بقاء منطقة اليورو والمشروع الأوروبي بأكمله.
يعني هذا أن المرشحين في انتخابات العام المقبل لن يكتفوا على الأرجح بالتركيز على القضايا المحلية فقط. فمع شيء من التركيز على القضايا المحلية، يتوقع أن يكون هناك أيضا مناقشات مستفيضة للمرة الأولى حول مستقبل أوروبا وسياساتها، لا سيما فيما يتعلق بمناحي الهجرة، والدفاع، والأمن، والطاقة، والمناخ، والعلاقات مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا. في النهاية، ورغم الاختلافات بين الدول الأوروبية، تجابه كل واحدة منها حاليا مسألة القدر الذي تريده من أوروبا، وإلى أي مدى ينبغي أن تنفتح على صور العولمة الجديدة المعتمدة على التكنولوجيا وتتفاءل بها، إضافة إلى القدر الذي يلائمها من التضامن الاجتماعي.
ويستبعد أن تلتزم هذه المناقشات، وكذلك البرلمان الأوروبي الذي سينبثق العام المقبل، بالخطوط الحزبية المعيارية، فالالتزام بالتكتلات السياسية التقليدية في النهاية أمر صعب للغاية في هذه الأيام، وأوضح مثال على ذلك حزب ماكرون ــ الجمهورية إلى الأمام ــ الذي لا تناسبه بشكل تام الفئات الأيديولوجية التقليدية، ومن ثم فقد نشر ماكرون مجسات لحزب لعموم أوروبا. ورغم أن السياسات فوق الوطنية حقا في أوروبا تظل منطقة مجهولة التضاريس، فمن المنطقي أن يكون هذا السياسي المؤيد بقوة للاتحاد الأوروبي أحد روادها.
كما يبدو الشعبويون على اليمين، بصفتهم قوميين معادين لأوروبا، شغوفين بمناصرة بعضهم بعضا على المستوى الأوروبي، حيث يستفيدون من برامجهم الحزبية المشتركة بشأن معظم القضايا، خاصة الهجرة والهوية الثقافية والتجارة. في المقابل نجد أن مثل هذا التجانس أكثر صعوبة في معسكر اليسار المتطرف، على الأقل في فرنسا، الذي درج على خلط الآراء التحررية حول الهجرة بسياسات الحماية الاقتصادية التي تبدو كثيرا شبيهة بالسياسات التي يتبناها اليمين الشعبوي.
لا شك أن أحزاب يمين ويسار الوسط ستحاول استعادة وضعها، بعد أن فقدت شريحة كبيرة من الناخبين خلال السنوات الخمس الماضية، لا سيما في إسبانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وبدرجة أقل في ألمانيا. وتكمن مشكلة هذه الأحزاب في أنها تبدو عتيقة وغير مناسبة للعصر في نظر كثيرين من الناخبين الشباب، بعض النظر عن أعمار قادتها. ولكي تحقق النجاح، ينبغي لها أن تقدم برنامجا جديدا ملهما يعالج قضايا اليوم بصورة مقنعة، مع مقارعة القوى السياسية الجديدة ومزاحمتها.
لكن يمكن للقوى السياسية الجديدة في بعض الحالات أن تستوعب أحزاب يمين ويسار الوسط. في فرنسا مثلا، يستطيع حزب ماكرون أن يستوعب حزب الجمهوريين المنتمي ليمين الوسط، أو أن يتحرك أكثر باتجاه اليسار بتبني برنامج للتضامن الاجتماعي يواكب تدابير تحرير السوق التي اتخذها بالفعل. ويتوقف الأمر هنا على مدى تفكير قادة الحزب في ضمان نصر فوري ضد الجمهوريين والاشتراكيين من يسار الوسط.
رغم بقاء التفاصيل غامضة، يبدو مؤكدا أنه ستكون هناك إعادة هيكلة شاملة للمشهد السياسي الأوروبي، الذي تشكله بدرجة كبيرة المواقف تجاه أوروبا. وإذا ساعدت انتخابات البرلمان الأوروبي في دفع إعادة الهيكلة قدما، فقد ينتهي هذا بإحراز خطوة كبرى للإمام لصالح الديمقراطية في أوروبا.
اضف تعليق