يبدو أن المواجهة بين القومية والعولمة، وليس المواجهة بين الشعبوية والنخبوية، باتت تحدد هيئة الصراع السياسي خلال هذا العقد من الزمن. وحيثما نظرنا تقريبا ــ إلى الولايات المتحدة أو إيطاليا أو ألمانيا أو بريطانيا، ناهيك عن الصين، وروسيا، والهند ــ أصبح الارتفاع المفاجئ في المشاعر...
أناتول كاليتسكي
روما ــ يبدو أن المواجهة بين القومية والعولمة، وليس المواجهة بين الشعبوية والنخبوية، باتت تحدد هيئة الصراع السياسي خلال هذا العقد من الزمن. وحيثما نظرنا تقريبا ــ إلى الولايات المتحدة أو إيطاليا أو ألمانيا أو بريطانيا، ناهيك عن الصين، وروسيا، والهند ــ أصبح الارتفاع المفاجئ في المشاعر الوطنية القوة الدافعة الرئيسية وراء الأحداث السياسية.
على النقيض من هذا، لم يكن التمرد المفترض من قِبَل "عامة الناس" ضد النخب واضحا. فقد استولى أصحاب المليارات على السياسة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترمب؛ ويدير أساتذة جامعيون غير منتخبين الحكومة الإيطالية "الشعبوية"؛ وفي مختلف أنحاء العالَم، جرى تخفيض الضرائب على الدخول المتزايدة الارتفاع التي يحصل عليها الممولون، والمتخصصون في التكنولوجيا، ومديرو الشركات. من ناحية أخرى، تقبل العمال العاديون بصمت حقيقة أن الإسكان العالي الجودة، والتعليم الجيد، بل وحتى الرعاية الصحية، كلها أمور أصبحت بعيدة عن متناولهم على نحو ميؤوس منه.
وتسود هيمنة النزعة القومية على المساواة بشكل خاص في إيطاليا وبريطانيا، الدولتين اللتين اشتهرتا ذات يوم بالحس الفاتر بالهوية الوطنية. فمن الملاحظ في بريطانيا غياب الأعلام حتى على المباني الحكومية، وحتى الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان الناس هناك مسترخين حول سيادتهم القومية إلى الحد الذي جعلهم عاجزين حتى عن إزعاج أنفسهم بمحاولة الاتفاق على اسم دولتهم: المملكة المتحدة، أو بريطانيا، أو إنجلترا، أو ويلز، أو اسكتلندا.
وكان الإيطاليون أقل حسا بالقومية. فمنذ تأسس الاتحاد الأوروبي، كان الإيطاليون أكبر مؤيدين للفيدرالية، حيث أظهرت استطلاعات الرأي، حتى وقت قريب، أن ثقة الناخبين في زعماء الاتحاد الأوروبي في بروكسل أكبر من ثقتهم في حكومتهم في روما. والإيطاليون شغوفون بثقافتهم، وتاريخهم، وأطعمتهم، وكرة القدم، لكن وطنيتهم كانت موجهة في الأغلب إلى المناطق والمدن، وليس إلى الدولة القومية. وهم يفضلون أن يُحكَموا من بروكسل وليس من روما.
وحتى هذا العام، كان حزب الرابطة اليميني المتطرف، وهو العضو الأصغر في الحكومة الائتلافية الجديدة في إيطاليا، لا يزال يسمى رابطة الشمال. وكان واحدا من شعاراته المفضلة "جاريبالدي لم يوحد إيطاليا؛ بل قسم أفريقيا"، وكان مطلبه السياسي الرئيسي حل الدولة، مناديا بدلا من ذلك بإنشاء دولة جديدة تحست مسمى "بادانيا"، والتي تفصل المناطق المزدهرة في الشمال عن الفساد والفقر في روما وما دونها جنوبا.
ما الذي يفسر إذن الهيمنة المفاجئة للقومية؟ الواقع أن القومية الجديدة في إيطاليا وبريطانيا أو حتى في الولايات المتحدة لا تنطوي على أي قدر يُذكَر من الوطنية الإيجابية. بل يبدو أن هذا الارتفاع المفاجئ في المشاعر الوطنية راجع إلى حد كبير إلى ظاهرة كراهية الأجانب، كما عَرَّفَها عالِم الاجتماع التشيكي الأميركي كارل دويتش: "الأمة مجموعة من الناس يربط بينهم خطأ شائع حول أصولهم وكراهية مشتركة لجيرانهم". فالأوقات العصيبة ــ انخفاض الأجور، والتفاوت بين الناس، والحرمان الإقليمي، والتقشف بعد الأزمات ــ تستفز البحث عن كبش فداء، ومن الواضح أن الأجانب هدف مغر دائما.
ولا شيء أبعد عن الوطنية من عداء ترمب للمهاجرين المكسيكيين والواردات الكندية، أو سياسات الحكومة الإيطالية الجديدة المعادية للمهاجرين، أو تصريح تيريزا ماي الأكثر شهرة بعد توليها منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة: "إن كنت تعتقد أنك مواطن العالَم، فأنت لست مواطنا لأي مكان. وأنت لا تفهم معنى المواطنة".
لننتقل الآن إلى خبر سار لهؤلاء الذين ما زالوا يفخرون بكونهم "مواطنين للعالَم": فالجهود المدفوعة بكراهية الأجانب لإلقاء اللوم عن المصاعب الاقتصادية على الأجانب مآلها الفشل حتما.
ولننظر هنا في الجهود التي بذلت بعد الأزمة لتحويل الغضب الشعبي إزاء انهيار اقتصادات أصولية السوق نحو "مصرفيين جشعين". فشلت هذه الجهود في نهاية المطاف، جزئيا لأن المصرفيين لديهم موارد ضخمة للدفاع عن أنفسهم، وهو ما لا يتوفر للأجانب في عموم الأمر. لكن تقريع المصرفيين فشل في تهدئة الغضب العام في الأساس لأن مهاجمة التمويل لم تفعل أي شيء لتعزيز الأجور، أو تضييق فجوة التفاوت، أو عكس مسار الإهمال الاجتماعي. وسوف يصدق نفس الشيء على الهجمات الحالية على النفوذ الأجنبي، سواء من خلال الهجرة أو التجارة.
فالآن، تستفيق بريطانيا، على سبيل المثال، على حقيقة مفادها أن القضايا الأوروبية لا علاقة لها بالمظالم السياسية الحقيقية التي حفزت جزءا كبيرا من التصويت لصالح "الخروج". وبدلا من ذلك، سوف تهيمن مفاوضات خروج بريطانيا الآن على السياسة البريطانية وتشتتها لسنوات عديدة، أو ربما حتى لعقود من الزمن. وسوف تزود المواجهة القومية بين بريطانيا وبقية أوروبا الساسة من كل الأحزاب بأعذار بلا نهاية لفشلهم في تحسين الحياة اليومية.
وفي الأشهر والسنوات المقبلة، سوف يتعلم الناخبون في الولايات المتحدة وإيطاليا نفس الدرس. فهناك أيضا لن يفعل تقديم التأثيرات الأجنبية ككبش فداء، سواء من خلال التجارة أو الهجرة، أي شيء لرفع مستويات المعيشة أو معالجة مصادر السخط السياسي.
صحيح أن إيطاليا لديها شكاوى مشروعة ضد الاتحاد الأوروبي: السياسات المنافقة وغير المنصفة في التعامل مع اللجوء وعمليات الإنقاذ في البحر، والقواعد المالية المدمرة للذات، والسياسات المالية الأمية اقتصاديا. لكن الحكومة الجديدة تستغل أيضا الارتفاع المفاجئ للمشاعر القومية لمهاجمة الإصلاحات التي لا علاقة لها بأوروبا والتي تشكل أهمية بالغة لنجاح إيطاليا الاقتصادي.
دأبت الحكومات الإيطالية المتعاقبة منذ الأزمة المالية على إرساء الأسس تدريجيا لإصلاح معاشات التقاعد، وسوق العمل، والقطاع المصرفي. وقد أوجدت هذه التغيرات الظروف الملائمة لتعزيز التعافي الاقتصادي، والذي بدأ العام الماضي، في أعقاب عشر سنوات من الركود؛ لكنها لم تحظ بقدر كبير من الشعبية على المستوى السياسي، والآن تتوالى عليها الإدانات بوصفها رموزا للقمع الأجنبي النخبوي. وإذا تخلت الحكومة الجديدة عن مشاريع الإصلاح الثلاثة، فربما ينبغي للإيطاليين أن يتخلوا أيضا عن الأمل في التعافي الاقتصادي، ربما لعشر سنوات أخرى.
سوف تكتشف الولايات المتحدة أيضا أن مهاجمة المصالح الأجنبية ليست الدواء الشافي من كل داء بل وربما تزيد من قسوة المصاعب الحالية. يتصور ترمب أن التدابير التي اتخذها ضد الواردات من الصين، وألمانيا، وكندا، سوف تلحق الأذى بهؤلاء الشركاء التجاريين وتخلق فرص عمل أميركية. وربما كان هذا ليعد صحيحا عندما كان الاقتصاد الأميركي يعاني من ضعف النمو والانكماش. ولكن في عالَم يتسم بالطلب القوي وارتفاع معدل التضخم، فسوف يجد المصدرون الألمان والصينيون أسواقا جديدة لمنتجاتهم، في حين سيواجه المصنعون في الولايات المتحدة مصاعب جمة لإحلال الموردين الأجنب. وسوف تكون أحوال شركات مثل بي إم دبليو، وهواوي على ما يرام، ففي حين تعمل التعريفات الجمركية الجديدة كضريبة مفروضة على المستهلكين الأميركيين، من خلال الأسعار الأعلى، وعلى الشركات الأميركية وأصحاب المساكن الأميركيين، من خلال أسعار الفائدة الأعلى.
إن الوجه المقابل للقومية الشعبوية ليس نخبوية العولمة؛ بل الواقعية الاقتصادية. وفي النهاية، ستكون الغَلَبة للواقع.
اضف تعليق