سيمون جونسون
واشنطن، العاصمة ــ تُرى هل من اللائق أن نستخدم الاتفاقيات التجارية لإثناء الدول عن استخدام التدخل على نطاق واسع في سوق صرف العملات الأجنبية للإبقاء على قيمة عملاتها منخفضة؟ هذه هي القضية المطروحة اليوم في دوائر السياسة الاقتصادية الأميركية.
في السنوات الأخيرة، تلاعبت اليابان وكوريا الجنوبية والصين بعملاتها للإبقاء عليها مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية. وقد عزز هذا صادراتها، وقلل من وارداتها، وأدى إلى فوائض كبيرة في الحساب الجاري. ولكن مثل هذا التدخل يؤثر بشكل سلبي على الشركاء التجاريين وهو محظور بموجب القواعد الدولية القائمة. ولكن من المؤسف أن هذه القواعد أثبتت أنها غير فعّالة على الإطلاق.
والآن سنحت فرصة جديدة لمعالجة هذه القضية: الشراكة عبر المحيط الهادئ ــ وهي الاتفاقية التجارية الإقليمية العملاقة التي تضم الولايات المتحدة واليابان وعشر دول أخرى في أميركا اللاتينية وآسيا. ومع اقتراب اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ من مرحلة وضع اللمسات الأخيرة، تراقب كوريا الجنوبية والصين التطورات باهتمام، وهناك دول أخرى ربما ترغب في الانضمام.
ويزعم الرئيس الأميركي باراك أوباما عن حق أن هذه مناسبة لوضع القواعد للتجارة والاستثمار في القرن الحادي والعشرين. ورغم ذلك فإن وزارة الخزانة الأميركية والممثل التجاري الأميركي يرفضان بعناد إدراج أي لغة تحظر التلاعب بالعملة في الشراكة عبر المحيط الهادئ، لأسباب خمسة رئيسية ــ والتي لا يتفق أي منها مع الحقائق.
تزعم الحجة الأولى أن صندوق النقد الدولي من الممكن أن يتعامل حالات التلاعب بالعملة. والواقع أن صندوق النقد الدولي لديه مبادئ توجيهية محدَّثة تحدد التلاعب العملة وتسعى إلى منعه. وقد تم تبني هذه المبادئ التوجيهية ليس فقط بموافقة أميركا، بل وأيضاً بإصرار منها عليها، في وقت حيث كان الرنمينبي الصيني (في منتصف العقد الأول من القرن الحالي) مقوماً بأقل من قيمته الحقيقية بشكل كبير، الأمر الذي ساهم في خسارة ملايين الوظائف في المصانع الأميركية.
ومن سوء الحظ أن صندوق النقد الدولي غير قادر على فرض مبادئه التوجيهية، لأن المتلاعبين بالعملة قادرون على المماطلة. وكان هذا هو النمط الثابت المستمر، بما في ذلك عندما كنت كبير خبراء صندوق النقد الدولي (من أوائل عام 2007 إلى أغسطس/آب 2008).
والحجة الثانية التي تسوقها وزارة الخزانة الأميركية والممثل التجاري الأميركي هي أنه لا يوجد قواعد محددة ودقيقة بالقدر الكافي يمكن التفاوض عليها. ولكن ليس هناك ما يعيب مبادئ صندوق النقد الدولي التوجيهية ــ نسخة عام 2007، ونسخة عام 2012 ــ التي تفاوضت عليها وزارة الخزانة ذاتها.
وإدراكاً منه لهذه الحقيقة، اقترح عضو الكونجرس الأميركي ساندر ليفين ــ وهو الديمقراطي البارز في لجنة البيت الأبيض للسبل والوسائل، المختصة بإدارة التجارة الدولية ــ أن يكون فصل العملة في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ قائماً على المبادئ التوجيهية الصادرة عن صندوق النقد الدولي. وتحدد هذه المبادئ متى تعسى دولة ما، على الرغم من تراكم فائض كبير في الحساب الجاري لديها، إلى شراء كميات كبيرة من الأصول الأجنبية الطويلة الأجل، فتمنع بالتالي ارتفاع سعر الصرف ــ وهي على وجه التحديد المشكلة التي نريد منعها (عملت مع ليفين على بعض هذه القضايا، ولكن هنا أتحدث عن نفسي فقط).
والحجة الثالثة في معارضة وضع فقرات خاصة بمكافحة التلاعب بالعملة في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ هي أنها سوف تعرض للخطر قدرة أميركا على تنفيذ الحوافز النقدية. ولكن هذا يعكس سوء فهم شامل لهذه القضية. ذلك أن إضافة فصل جيد التصميم بشأن العملة إلى الاتفاقية لن يعوق استقلال الولايات المتحدة نقديا.
إن السياسة النقدية التقليدية تعمل عن طريق تغيير أسعار الفائدة القصيرة الأجل، والذي يتضمن شراء وبيع البنك المركزي للسندات الحكومية القصيرة الأمد. ولا يتضمن الأمر التدخل في سوق صرف العملات الأجنبية ــ بشراء وبيع العملات الأجنبية.
وعلى نحو مماثل، لا يتضمن التيسير الكمي، الذي حدد السياسة النقدية للعديد من البنوك المركزية الكبرى في السنوات الأخيرة، شراء أو بيع أصول أجنبية. فبموجب برنامج التيسير الكمي، يشتري بنك الاحتياطي الفيدرالي ــ ويعلن أنه سوف يشتري ــ الأصول؛ والفارق الوحيد هو أن هذه الأصول تتألف من أدوات الدين الحكومي الأميركي الأطول استحقاقا، وأوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري من مختلف الأنواع، وكلها مقومة بالدولار الأميركي.
والحجة الرابعة هي أنه لا توجد دولة كبرى حالياً تتلاعب بأسعار صرف عملتها (فقد انخفضت قيمة الرنمينبي منذ منتصف العقد الماضي)، لذا فلا يوجد ما يستدعي القلق. ولكن لا يوجد أيضاً ما قد يمنع الصين أو غيرها من الدول من استئناف التدخل في سوق العملة على نطاق واسع إذا اختارت ذلك ومتى اختارته. والواقع أن غياب التوتر الدبلوماسي حول أسعار الصرف اليوم يتيح الفرصة لإثارة الموضوع.
والسبب الأخير الذ يُستشهَد به في دعم استبعاد فصل العملة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ هو أن البلدان التي تتفاوض على الاتفاق لن توافق أبدا. ولكن هذه الحجة لا تصمد عندما نفحص البلدان المشاركة كل منها على حِدة.
إن كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وهي من الاقتصادات المتقدمة التي تتبنى أسعار صرف معومة، لا تريد تشجيع التلاعب بالعملة. وشيلي، وهي الدولة ذات الدخل المتوسط التي تتبنى منذ فترة طويلة سياسات سليمة ومسؤولة في التعامل مع الاقتصاد الكلي، لا تحبذ التلاعب بالعملة. وهناك الكثير الذي قد تخشاه بلدان مثل المكسيك وبيرو من تحول بلدان أخرى إلى التلاعب بالعملة مرة أخرى.
وعلى نحو مماثل، تدير اليابان الآن نسخة خاصة بها من التيسير الكمي، وتخشى التلاعب المحتمل بالعملة من قِبَل بلدان أخرى، مثل كوريا الجنوبية والصين. وينبغي لماليزيا وسنغافورة أيضاً بعد تمكنهما من بناء مخزون كبير من احتياطيات النقد الأجنبي أن تكونا الآن أكثر قلقاً إزاء احتمال تلاعب شركائهما التجاريين بالعملة. أما فيتنام فإنها تواجه قضايا أكثر خطورة في ما يتعلق بالشراكة عبر المحيط الهادئ، ويتعين عليها أن تحلها، وخاصة ما يتصل بحقوق العمال. ومن غير المرجح أن تعترض بروناي دار السلام التي لا يتجاوز عدد سكانها نصف مليون نسمة.
إن التلاعب بالعملة مشكلة حقيقية تتسبب في إحداث أضرار كبيرة. وقد تقدم اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ ــ إذا أنشأت آلية لتسوية المنازعات قادرة على تفنيد المطالبات التافهة بسرعة والتعامل بنجاح مع الحالات الحقيقية ــ أفضل فرصة لتصحيح هذه المشكلة.
اضف تعليق