روبرت سكيدلسكي
لندن ــ كانت الهزيمة الساحقة التي أنزلها إيمانويل ماكرون بزعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة مارين لوبان في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية انتصارا كبيرا لأوروبا الليبرالية. ولكنها كانت معركة وليست حربا. فلم تكن فِكرة تصويت واحد من كل ثلاثة مواطنين فرنسيين لصالح مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية واردة قبل بضع سنوات.
ربط المعلقون وصف "الشعبوية" بموجة من السياسات الغوغائية التي تجتاح أوروبا (وقسم كبير من بقية العالَم). ولكن ما هي القواسم المشتركة بين مثل هذه الحركات، بعيدا عن الأسلوب الصاخب الفظ الشائع بين الشعبويين؟ ينتمي حزب بوديموس في أسبانيا وحزب سيريزا في اليونان إلى اليسار. وينتمي حزب الجبهة الوطنية في فرنسا، وحزب من أجل الحرية في هولندا، وحزب البديل من أجل ألمانيا في ألمانيا، إلى اليمين. ويقول بيبي جريلو، زعيم حركة الخمسة نجوم في إيطاليا، إن الحركة ليست يسارية ولا يمينية.
ومع ذلك، هناك قواسم مشتركة تجمع بينهم جميعا: القومية الاقتصادية، والحماية الاجتماعية، ومناهضة أوروبا، ومناهضة العولمة، والعداء ليس فقط للمؤسسة السياسية بل وأيضا للسياسة ذاتها.
ولفهم معنى هذا التطور في السياسة الأوروبية، ينبغي لنا أن ننظر في تاريخ الفاشية. لقد بدأ بينيتو موسيليني، مؤسس الفاشية الإيطالية في عام 1919، في رداء اشتراكي ثوري. وفي ألمانيا، ينبغي لنا أن نتذكر أن كلمة "نازي" كانت اختصارا لحزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني.
في مستهل الأمر، كانت الفاشية حركة قومية مناهضة للرأسمالية، وفي وقت لاحق اقتصر هجومها على الرأسمالية الليبرالية، وخاصة "التمويل الدولي". وسرعان ما اكتسى هذا بظل معاداة السامية ــ وهو ما أطلق عليه الديمقراطي الاجتماعي الألماني الشهير أوجست بيبل وصف "اشتراكية الحمقى". ثم انهارت الفاشية الأوروبية بهزيمة ألمانيا في عام 1945، غير أن أشكالا أقل عدوانية ظلت باقية في أماكن أخرى، مثل الأرجنتين ونزعتها البيرونية.
وساعدت القاعدة الاجتماعية للفاشية خلال فترة ما بين الحربين في جعل النظر إليها باعتبارها حزبا يمينيا أمرا معقولا. وكان الحيز السياسي الوحيد المتاح للفاشية هو البرجوازية الصغيرة: من أصحاب المحلات التجارية، وصِغار رجال الأعمال، وموظفي الخدمة المدنية من المستويات الدنيا.
واليوم، تلاشت القاعدة الاجتماعية للسياسات اليسارية. فقد اختفت الطبقة العاملة الكلاسيكية: تحولت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية والنقابات العمالية إلى مجرد ظِلال لذواتها السابقة. وهذا يعني أن الشعبويين اليساريين مجبرون حتما على التنافس مع الشعبويين اليمينيين طمعا في الفوز بدعم نفس المجموعات التي تحولت إلى الفاشية في الفترة بين الحربين: الذكور الشباب من العاطلين عن العمل، و"الرجل الصغير" الذي يشعر بأنه مهدد من قِبَل "القِلة الحاكمة" من المصرفيين، وسلاسل الإمداد العالمية، والساسة الفاسدين، والبيروقراطيين البعيدين في الاتحاد الأوروبي، و"القطط السُمان" بأشكالهم كافة. والواقع أن الشعبويين اليوم، أياً كانت توجهاتهم السياسية، يستهدفون بشكل متزايد ليس فقط نفس المؤيدين المحتملين بل والأعداء أيضا.
ولكن ما هو الحيز المتاح للمزيد من نمو الشعبوية، وأي شكل من أشكالها ــ اشتراكية، أو فاشية ــ قد يجتذب الأصوات المتاحة؟
الإجابة العامة على القسم الأول من السؤال تقدمه لنا حملة الرئيس الأميركي السابق بِل كلينتون في عام 1992: "إنه الاقتصاد، يا غبي". كان الاتحاد الأوروبي هو الأبطأ تعافيا بين المراكز الاقتصادية الكبرى في العالم من ركود ما بعد 2008. ففي فرنسا بلغ معدل البطالة 10%، وارتفع معدل البطالة بين الشباب هناك إلى نحو 24%، وفي إيطاليا 34% ــ مما خلق أرضا خصبة لتجنيد هؤلاء الشباب لصالح المتطرفين على اليسار واليمين.
ورغم أن ماكرون ليس بأي حال من الأحوال صقرا ماليا مهووسا، فإنه يريد تضييق العجز الحكومي الفرنسي من 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، بما يتماشى مع السقف الذي حدده ميثاق الاستقرار والنمو في الاتحاد الأوروبي. وعلى مرمى النيران هناك 120 ألف وظيفة في الخدمة المدنية. ومع ذلك، يريد ماكرون أيضا تعزيز الاقتصاد بحزمة تحفيز بقيمة 50 مليار يورو (55 مليار دولار أميركي) وتوسيع نطاق دولة الرفاهة الاجتماعية.
ولتحقيق هذه الغايات الصعبة، يحتاج ماكرون إلى النمو، وهو يعتمد على إصلاحات جانب العرض لتسليمها. كما يخطط لخفض معدل الضريبة على الشركات من 33% إلى 25% واستبعاد الاستثمار المالي من الضرائب على الثروة. وبوصفه منتقدا قويا لسياسات الحماية، فسوف يدفع في اتجاه إبرام الاتفاقية الاقتصادية والتجارية الشاملة بين الاتحاد الأوروبي وكندا والاتفاقية التجارية وشراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة. ويشير دعمه لقانون الخمري الذي جعل من السهل فصل العمال، ومعارضته لأسبوع العمل الذي يتألف من 35 ساعة، إلى رغبته في زيادة "مرونة" سوق العمل الفرنسية.
وعلى الرغم من الحديث عن "الاقتصاد الأخضر" والدعوات إلى إنشاء برنامج استثماري لعموم أوروبا، فإن أجندة ماكرون نيوليبرالية في عموم الأمر. ويأمل ماكرون في الأساس أن تنجح أجندته، إذا جرى تنفيذها على مستوى الاتحاد الأوروبي، في رفع الاقتصاد الفرنسي، بل وأيضا القوارب الأوروبية.
الواقع أن مثل هذه الإصلاحات سوف تغرق في الأرجح كل القوارب، فيحصل الشعبويون بذلك على الفرصة التي يترقبونها. ولكن إذا حدث هذا، فأي مجموعة من الشعبويين قد تغتنم الفرصة؟
يسلط الخبير الاقتصادي داني رودريك الضوء على جاذبية الشعبوية. وهو يزعم أنه لا يوجد توافق بين الديمقراطية، والسيادة الوطنية، والتكامل الاقتصادي العالمي؛ وأن الضرورة تدعو إلى التضحية بواحدة منها على الأقل. ولأن العديد من الناخبين في أوروبا والولايات المتحدة يشعرون بأن العولمة أضرت بهم كثيرا، فإن الحزب الشعبوي الذي يضع الأمة أولا بكل قوة يحظى بميزة الانطلاق من نقطة متقدمة عن منافسيه.
من هذا المنظور، كان ماكرون المرشح المثالي الذي تخسر مارين لوبان ضده. فهو يجسد النخبة العالمية. وهو يبدو لينا في التعامل مع الهجرة. وعلى افتراض فشل حزبه السياسي الجديد في الفوز بالأغلبية في انتخابات الجمعية الوطنية الشهر المقبل، فسوف تحتاج حكومته إلى الدعم من الأحزاب الرئيسية. وعلى مدار السنوات الخمس القادمة، ربما تتكتل الشخصيات المنتمية إلى المؤسسة حول سياسات فاشلة، وهو ما من شأنه أن يعطي لوبان الهدف المثالي لحملة الجبهة الوطنية في الانتخابات الرئاسية عام 2022.
من المؤكد أن دعم برنامج يساري أمر وارد في فرنسا. فقد دعم نحو 20% من الناخبين المرشح الشعبوي اليساري جان لوك ميلينشون في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. وفي الجولة الثانية، كانت إحدى التغريدات التي أنبأتنا بالكثير على موقع تويتر هي (#NiPatronNiPatrie) بمعنى ("لا رئيس ولا وطن")، وهي تعكس عدم رضا العديد من الناخبين عن الاضطرار إلى الاختيار بين النيوليبرالية والقومية في الانتخابات. وتتمثل مهمة اليسار الآن في توجيه الانتباه إلى الجوانب الإشكالية حقا في التكامل الاقتصادي العالمي ــ تغول القطاع المالي، الذي يعطي الأولوية لرأس المال قبل العمل، والدائن قبل المدين، وصاحب العمل قبل العامل ــ من دون الارتداد إلى سياسات رجعية.
اضف تعليق