جوزيف ستيغليتز
نيويورك ــ تنفس العالَم الصعداء إزاء الأنباء عن فوز إيمانويل ماكرون المحتمل في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. فعلى الأقل، لن تنزلق أوروبا إلى منحدر تدابير الحماية الذي يرغم الرئيس الأميركي دونالد ترمب الولايات المتحدة على الانزلاق إليه.
ولكن ينبغي لأنصار العولمة أن يؤجلوا الاحتفال بعض الوقت، فقد أصبح أنصار تدابير الحماية ودعاة "الديمقراطية غير الليبرالية" في صعود في دول أخرى عديدة. ولابد أن يكون من المزعج والمثير للقلق الشديد أن يحصل متعصب صريح وكاذب معتاد الكذب على ذلك العدد من الأصوات التي حصل عليها ترمب في الولايات المتحدة، وأن تخوض مارين لوبان اليمينية المتطرفة الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية في السابع من مايو/أيار ضد ماكرون.
يفترض بعض المراقبين أن إدارة ترمب التي تفتقر إلى الكفاءة وتتسم بالعجز الواضح لابد أن تكون كافية لتثبيط الحماس لتعاطي عقار الشعبوية السري في أماكن أخرى. وعلى نحو مماثل، يكاد يكون من المؤكد أن أحوال الناخبين في منطقة حزام الصدأ في الولايات المتحدة الذين دعموا ترمب سوف تصبح أسوأ في غضون أربع سنوات، وسوف يستوعب الناخبون المتعقلون الرسالة بكل تأكيد.
ولكن من الخطأ أن نستنتج أن السخط على الاقتصاد العالمي ــ على الأقل الكيفية التي يتعامل بها مع أعداد كبيرة من أولئك المنتمين إلى الطبقة المتوسطة (أو كانوا ينتمون إليها) ــ بلغ ذروته. فإذا حافظت الديمقراطيات الليبرالية على سياسات الوضع الراهن، فسوف يستمر تغريب العمال المزاحين. وسوف يشعر كثيرون أن ترمب ولوبان وأمثالهما يؤكدون على الأقل أنهم يشعرون بآلامهم. والواقع أن فكرة تحول الناخبين ضد تدابير الحماية والشعبوية من تلقاء أنفسهم قد لا تكون أكثر من مجرد اعتقاد عالمي في صحة هذا الأمر لمجرد الرغبة في تحققه.
يتعين على أنصار اقتصادات السوق الليبرالية أن يدركوا أن العديد من الإصلاحات والتطورات التكنولوجية ربما تجعل بعض المجموعات ــ وربما مجموعات كبيرة ــ أسوأ حالا. ومن حيث المبدأ، تعمل هذه التغيرات على زيادة الكفاءة الاقتصادية، وتمكين الفائزين من تعويض الخاسرين. ولكن إذا ظل الخاسرون أسوأ حالا، فما الذي قد يحملهم على دعم العولمة والسياسات الداعمة للسوق؟ الواقع أن مصلحتهم الذاتية تملي عليهم التحول باتجاه الساسة الذي يعارضون هذه التغيرات.
لذا، ينبغي أن يكون الدرس واضحا: ففي غياب السياسات التقدمية، بما في ذلك برامج الرعاية الاجتماعية القوية وإعادة التدريب على الوظائف وغير ذلك من أشكال مساعدة الأفراد والمجتمعات التي تخلفت عن ركب العولمة، ربما يُصبِح الساسة من أنصار ترمب سِمة دائمة في المشهد.
الواقع أن التكاليف التي يفرضها مثل هؤلاء الساسة مرتفعة وسوف نتكبدها جميعنا، حتى ولو لم يتمكنوا من تحقيق طموحاتهم القائمة على تدابير الحماية وكراهية الأجانب بشكل كامل، لأنهم يعيشون على الخوف ويؤججون التعصب، ويزدهرون على نهج استقطابي بالغ الخطورة يقوم على مبدأ "نحن في مقابل هم" في إدارة الحكم. فكان ترمب يوجه هجماته على موقع تويتر ضد المكسيك، والصين، وألمانيا، وكندا، ودول أخرى عديدة ــ ومن المؤكد أن القائمة ستطول ما دام ترمب في منصبه. كما استهدفت لوبان المسلمين، ولكن تعليقاتها الأخيرة التي تنكر مسؤولية الفرنسيين عن تجميع اليهود خلال الحرب العالمية الثانية كشفت عن معاداتها المستمرة للسامية.
وقد تكون النتيجة انقسامات وطنية عميقة وربما غير قابلة للإصلاح. وفي الولايات المتحدة، تسبب ترمب بالفعل في تراجع الاحترام لمنصب الرئاسة، ومن المرجح أن يترك من خلفه بلدا أكثر انقساما.
لا ينبغي لنا أن ننسى أن الدخول ومستويات المعيشة كانت راكدة لقرون من الزمن قبل بزوغ فجر التنوير الذي احتضن العلوم والحرية. ولكن ترمب ولوبان وغيرهما من الشعبويين يمثلون نقيض قيم التنوير. فبدون أي شعور بالخجل، يستشهد ترمب بحقائق "بديلة"، وينكر الطريقة العلمية، ويقترح تخفيضات هائلة لميزانية الأبحاث العامة، بما في ذلك بشأن تغير المناخ، والذي يعتقد ترمب أنه خدعة.
وتشكل تدابير الحماية التي يدعو إليها ترمب ولوبان وغيرهما تهديدا مماثلا للاقتصاد العالمي. فعلى مدار ثلاثة أرباع قرن من الزمن، ظهرت محاولة لإنشاء نظام اقتصادي عالمي قائم على القواعد، حيث يمكن انتقال السلع والخدمات والبشر والأفكار بقدر أكبر من الحرية عبر الحدود. ووسط صخب التصفيق من قِبَل رفاقه الشعوبيين، ألقى ترمب قنبلة يدوية على هذه البنية.
ونظرا لإصرار ترمب ومعاونيه على أهمية الحدود، فسوف تفكر الشركات مرتين وهي تبني سلاسل الإمداد العالمية. وسوف تعمل حالة عدم اليقين الناجمة عن ذلك على تثبيط الاستثمار، وخاصة الاستثمار عبر الحدود، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى انحسار الزخم لإنشاء نظام عالمي قائم على القواعد. ومع انخفاض الاستثمار في النظام، يتضاءل الحافز لدى أنصار مثل هذا النظام لدفعه إلى الأمام.
وسوف تكون هذه النتيجة مزعجة للعالم بأسره. فسواء شئنا أو أبينا، ستبقى البشرية متصلة عالميا، في التصدي لمشاكل مشتركة مثل تغير المناخ وتهديد الإرهاب. ولابد من تعزيز، وليس إضعاف، القدرة والحافز للعمل التعاوني لحل هذه المشكلات.
الدرس المستفاد من كل هذا شيء تعلمته الدول الاسكندنافية. فقد أدركت البلدان الصغيرة في المنطقة أن الانفتاح هو المفتاح إلى النمو الاقتصادي السريع والازدهار. ولكن لكي تظل هذه البلدان منفتحة وديمقراطية، كان من الواجب إقناع مواطنيها بأن قطاعات كبيرة من المجتمع لن تتخلف عن الركب.
وعلى هذا فقد أصبحت دولة الرفاهة جزءا لا يتجزأ من الدول الاسكندنافية. فهي تدرك أن الرخاء المستدام الوحيد هو الرخاء المشترك. وهو الدرس الذي يتعين على الولايات المتحدة وبقية أوروبا أن تتعلمه.
اضف تعليق