يُعتبر عمانوئيل كانط (1724-1804) نقطة الارتباط الاساسية في الفلسفة الحديثة. فهو جمع كل شيء قبله، وشكّل البداية لكل ما جاء بعده. ان فلسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر تميزت بالانقسام بين التجريبيين (ومعظمهم بريطانيين) والعقلانيين (ومعظمهم من فرنسا والمانيا). ومع ان كانط تلقّى تعليمه ضمن تقاليد عقلانية صرفة، لكنه كان قادرا على الاستخدام الأفضل للفلسفة من كلا الفريقين وردم الخلافات بينهما.
العقلانيون وضعوا كل ثقلهم في الميتافيزيقا والمعرفة المكتسبة عبر ممارسة الفكر المجرد. هم كانوا مشككين بالمعرفة المكتسبة من التجربة، مجادلين بان الحواس لا يمكن الثقة بها. المعرفة من التجربة، كما يقولون، لاتحمل اليقين والضرورة اللذين يميزان التفكير المجرد في الرياضيات والهندسة.
وهكذا، هم بدأوا يرون ان الحقائق المؤكدة والضرورية يمكن تعلّمها فقط من خلال التفكير المجرد وحده. ونتيجة لذلك برز عدد كبير من التأملات النشطة حول طبيعة الله، والعناصر النهائية للمادة، والروح. ومن بين ابرز العقلانيين كان ديكارت وسبينوزا وليبنز.
التجريبيون من جهتهم، اعتقدوا وبقوة بالمعرفة التجريبية. جون لوك أعلن بان الذهن هو صفحة بيضاء عند الولادة، وان كل معارفنا تأتي من التجربة. حتى الرياضيات، هو يرى تُبنى على استنتاجات وتعميمات من التجربة. هدف التجريبي هو تنظيم معرفتنا من التجربة وتوضيح الكيفية التي تُبنى بها المعرفة الانسانية المعقدة من احاسيس بسيطة. جورج باركلي اكّد ان لا شيء موجود عدا التجربة "الوجود هو ما نحسه". اما ديفد هيوم فقد زعم باننا لا نملك تبرير عقلاني للاستدلال على اية قوانين عامة حول التجربة، وان "معرفتنا"في السبب والنتيجة هي مسألة من قبيل العادة وليست ضرورة.
نظرية كانط في المعرفة
في كتابه العظيم "نقد العقل الخالص" الذي نُشر عام 1781 طور كانط نظريته الهامة في المثالية المفاهيمية Trascendental Idealism بموجبها تكون معرفتنا عن العالم الخارجي ليست تجسيدا للواقع كما هو في ذاته، وانما هي نوع من البناء الذي هو الى حد كبير نتاج لذهننا. كل ما نحصل عليه من العالم الخارجي، طبقا لهذه النظرية، هو مواد خام او مزيج من انطباعات حسية غير متماسكة تحتاج لكي تُنظّم وتوضع الى بعضها بواسطة قدراتنا العقلية لكي تصبح معرفة. وهكذا فان المعرفة هي وظيفة لقدراتنا الذهنية النشطة وليست انعكاس تلقائي لما يوجد في الخارج مستقلا عن اذهاننا.
كانط أعلن بان شكوك هيوم شكّلت اول تحديا له حفّزهُ لبناء فلسفته النقدية. هيوم يسأل كيف نستطيع عمل استنتاجات بشأن التجربة، كيف استطيع التنبؤ بما سيحدث في المستقبل اعتمادا على ما حدث في الماضي؟ لكي نقوم بهذا، يرى هيوم، اننا يجب ان نعرف مبدأ الانتظام uniformity principle الذي يقول ان الاحداث في المستقبل تخضع لنفس القوانين العامة التي اُتبعت في الماضي. ولكن كيف استطيع معرفة مبدأ الانتظام هذا؟ انه ليس حقيقة منطقية او ضرورية، لذا انا لا يمكن افتراضه سابق للتجربة مثلما استطيع في معرفة الرياضيات. يضيف هيوم انه سيقع في دائرة مفرغة لو ادّعى انه يعرف المبدأ من التجربة، لأنه يحتاج سلفا لمبدأ الانتظام لكي يستدل بان مبدأ الانتظام كان صائبا في الماضي وسوف يستمر صائبا في المستقبل. وهكذا يستنتج هيوم اننا لا نستطيع معرفة ان احداث المستقبل ستتبع نفس القوانين في الماضي: نحن فقط اعتدنا على توقّع ذلك.
أجاب كانط اولاً على شك هيوم ومن ثم سعى للتوفيق بين العقلانية والتجريبية وذلك في عمله "نقد العقل الخالص". هذا الكتاب طويل وصعب ومكثف وعادة اسيء فهمه. وبعد سنتين من ذلك نشر كانط كتابه المقدمة (prolegomena) كرسالة تمهيدية لجعل كتابه السابق مبسطا واكثر سهولة للفهم.
متحفزا بشكوك هيوم، يعالج كانط السؤال حول ما اذا كانت الميتافيزيقا ممكنة وكيف تكون كذلك. الميتافيزيقيون لم يتفقوا ابدا على مقترح محدد بل ولم يؤسسوا قاعدة للاتفاق على الأحكام.
انواع الأحكام
يميز كانط بين الادراك القبلي والادراك البعدي وكذلك بين الاحكام التحليلية والاحكام التركيبية. المعرفة التي نحصل عليها من التجربة هي بعدية posteriori، بينما ما نعرفه بشكل مستقل عن التجربة هو قبلي priori. الحكم التركيبي هو الذي يتضمن في الجملة او العبارة معلومات غير موجودة في الموضوع، اما الحكم التحليلي هو الحكم الذي جملته مجرد تحليل للموضوع فيه يكون الموضوع منطويا على المحمول. مثال على الاحكام التحليلية (كل العزاب غير متزوجين) : كونهم غير متزوجين هو جزء من مفهوم "العزاب"، لذا فالقول كل العزاب غير متزوجين لا يضيف اي شيء لمفهومنا عن "العزاب".
اما بالنسبة للحكم التركيبي فتحصل فيه اضافة جديدة للمفهوم فهو يجمع بين ادراكين اثنين مختلفين كما لو قلنا (جميع البط ابيض) فهو حكم تركيبي : نحن نستطيع معرفة ماهية البط بدون الحاجة لمعرفة انه ابيض، لذا فان معرفة كون البط ابيض هو معرفة اضافية نضيفها لمفهومنا عن "البط". جميع الاحكام التحليلية هي قبلية لانها تتألف فقط من تحليل المفاهيم دون اللجوء الى التجربة، اما الاحكام التركيبية فهي اما قبلية او بعدية. يصنف كانط الاحكام التركيبية الى ثلاثة انواع : احكام من التجربة، واحكام من الرياضيات، واحكام ميتافيزيقية. الاحكام من التجربة هي تركيبية بعدية لأنها تُركب الى بعضها من اشياء التجربة.
كانط يدّعي ان الرياضيات والعلوم الطبيعية والميتافيزيقا تعتمد على افتراضات قبلية تركيبية، وهي افتراضات ضرورية ولكنها ليست صحيحة في جميع الحالات، وهي يمكن معرفتها قبل التجربة. وبما ان الرياضيات والعلوم الطبيعية الصرفة هي علوم متأسسة جيدا، هو يقترح اختبار الكيفية التي تكون فيها حقائقها التركيبية قبلية بأمل ان يساعد هذا الاختبار في إلقاء الضوء على امكانية ان تكون الميتافيزيقا علما.
وحول مبدأ السببية "لكل حادث سبب" يرى كانط انه لا يمكن اثباته بالتجربة، لكن التجربة مستحيلة بدونه لأن مبدأ السببية ليس مبدأً علميا وانما مابعد علمي يجعل الملاحظة التجريبية ممكنة، فهو يصف الطريقة التي يجب ان ينظّم بها الذهن وعيه الداخلي. يقول كانط ان النظريات السابقة لا يمكنها توضيح نوع الاحكام او التجربة التي لدينا لأن تلك النظريات اهتمت فقط بنتائج تفاعل الذهن مع العالم وليس بطبيعة مساهمات الذهن. ابتكار كانط هو توظيف ما يسميه بالحجة المفاهيمية لإثبات الادعاءات القبلية التركيبية، وهي الادعاءات التي تعطي الامكانية والشرعية للميتافيزيقا.
يرى كانط ان الميتافيزيقا هي ممكنة بفضل البداهة الخالصة لقدرتنا الحسية. المكان والزمان ليسا اشياء بذاتهما نراهما بالتجربة، وانما هما بداهتان خالصتان تساعداننا في بناء احساساتنا. الهندسة تأتي من بداهتنا الخالصة في المكان، والرياضيات تأتي من بداهتنا الخالصة للزمان – مفهومنا عن الأعداد يُبنى من اللحظات المتعاقبة في مفهومنا للزمن. العلوم الطبيعية الصرفة هي ممكنة بفضل المفاهيم الخالصة لمقدرتنا على الفهم. كانط يميز بين "احكام التصور" التي ترتكز على احاسيس موضوعية، و"احكام التجربة" التي تحاول وضع حقائق ضرورية ذاتية من التجربة. العلوم كمجموعة معارف موضوعية تكون ممكنة فقط عندما ننظر للطبيعة وهي توجّه ذاتها وفق قوانين موضوعية منتظمة. هذه القوانين مثل "كل نتيجة لها سبب" هي مفاهيم لفهمنا تماما مثلما الزمان والمكان هما بداهة لحساسيتنا. نحن لا نستطيع معرفة اي شيء حول الاشياء بذاتها لكن الظهور او التجلّي الذي يشكل تجربتنا هو الذي يتبع هذه القوانين. كانط يضع قائمة معقدة من الأصناف يبيّن فيها الطريقة التي تتشكّل فيها التجربة من المفاهيم الخالصة للفهم.
الميتافيزيقا تثق بمقدرة العقل التي لا علاقة لها بالتجربة. في سعيه للكمال، يطمح العقل لمعرفة الاشياء في ذاتها، ويطبّق بشكل خاطئ مفاهيم الفهم على مسائل خارج التجربة. كانط يصنف "افكار العقل" الى ثلاثة انواع: سايكولوجية، التي تتعامل مع افكارنا عن الجوهر والروح، وكوسمولوجية، تعطي اهمية لأربعة انواع من التناقضات المرتكزة على التفكير السببي، وثيولوجية تتعامل مع افكارنا عن الله. في كل حالة، يرى كانط ان العقل يتجاوز حدوده ويحاول عمل ادّعاءات حول الاشياء بذاتها، وهي تلتبس عادة مع الظهور.
الميتافيزيقا تختلف عن الرياضيات او العلوم لأن ما تبلغهُ يتجاوز قدراتها. انها تطمح لمعرفة ما لا تستطيع معرفته. حين يجد العقل نفسه يتمدد، فهو ايضا يستكشف مداه الكامل وامكانية المعرفة الانسانية. ومع ان العقل لا يستطيع ابلاغنا اي شيء حول الاشياء بذاتها، فهو يمكن استخدامه لإختبار قدراتنا. كانط يعيد تعريف الميتافيزيقا كـ "نقد". في محاولة لاختبار الكيفية التي تُبنى وتُبرّر بها معرفتنا.
المقدمة prolegomena)) لأي ميتافيزيقا في المستقبل
السؤال الذي تتم معالجته في هذا الكتاب هو ما اذا كانت الميتافيزيقا ممكنة. اذا كانت الميتافيزيقا علما، لماذا نحن غير قادرين على التقدم او بلوغ اتفاق تام كما نحن قادرين في العلوم الاخرى؟واذا لم تكن علما فعلى اي اساس تستند في ادّعاءها بمعرفة الحقيقة؟ في هذه اللحظة لا يوجد معيار للاتفاق حول الاسئلة الميتافيزيقية، لذا لا توجد وسائل موضوعية لتسوية عدم الاتفاق. وبالتالي، كل انواع الافكار تُرمى بسرعة مع عدم وجود وسيلة للوصول الى استنتاج محدد.
السؤال حول ما اذا كانت الميتافيزيقا ممكنة يتضمن ان صلاحية الميتافيزيقا عرضة للشك. هذا الاستدلال ربما يثير الاستياء لدى القراء:هم لا يريدون ان يقول لهم احد ان الموضوع الذي درسوه بكثافة هو بلا قيمة. غير ان كانط اصبح على وعي بان الميتافيزيقا تحتاج الى اساس متين مقارنة بما هي عليه الان اذا اريد دراستها بشكل جاد. هو واثق بان الذين قرأوا عمله بعناية سيوافقون على ذلك. كانط يعترف باهمية ايجاد اساس متين للميتافيزيقا بعدما قرأ هيوم، الذي أيقظهُ من "سبات دوغمائي". هيوم حفّز كانط من خلال نقده لمفهومنا عن السبب والنتيجة، متسائلا كيف نعرف ان حدثا ما يعمل كسبب لحدث اخر. هيوم يستنتج اننا لا نمتلك معرفة قبلية بالسببية: نحن لا نستطيع معرفة العلاقات السببية بين حدثين قبل تجربتنا لهما بوسائل العقل وحده. بدلا من ذلك، يقترح هيوم ان ما نسميه "معرفة" بالسبب والنتيجة هو مجرد توقّع بان حدثا ما سيتبع اخر بناءا على العادة وليس العقل.
استنتاج هيوم كان مصيريا للميتافيزيقا. اذا كانت "معرفتنا" بالسبب والنتيجة مرتكزة على العادة وليس على العقل، عندئذ كل النظريات الميتافيزيقية التي تحاول توضيح كيف يقودنا عقلنا لهذه المعرفة ستذهب هباءا. وفي فحص اخر، وجد كانط ان كل الميتافيزيقا مرتكزة على الفكر القبلي، رابطا بين المفاهيم بدون اي اشارة للتجربة، لذا فان جميع الميتافيزيقا عرضة لهجوم هيوم.
كانط يوضح كيف يمكن رسم الارتباطات قبليا وكيف تكون الميتافيزيقا ممكنة في كتابه "نقد العقل الخالص". هذا الكتاب يتبع ما يسميه كانط الاسلوب التركيبي synthetical style مستنتجا نتائج من المبادئ الاولى. اما كتاب المقدمة فيتبع اسلوب تحليلي analytical style مجزئا المشكلة الى اجزاء بسيطة وفحصها كل على انفراد.
تعليق
الميتافيزيقا هي اقدم فروع الفلسفة واكثرها احتراما. انها تفحص هيكل وطبيعة وبناء الواقع وتكافح لكشف الاسباب الاساسية والاصول التي تجعل الاشياء بالطريقة التي هي عليها. الفيزياء تصف الكون، قوانين الفيزياء هي جيدة فقط في تنبؤ ما سيحدث. اما الميتافيزيقا فتحاول تفسير الكون ولماذا تحدث الاشياء بالطريقة التي هي عليها. فاذا كانت الفيزياء مرتكزة على الملاحظة والتجربة فان الميتافيزيقا هي شكل قبلي للمعرفة يرتكز على ممارسة مجردة للعقل الخالص. الميتافيزيقيون ليس لديهم تجارب، هم يحاولون التعامل وحل كل شيء في اذهانهم. في مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص اعتبر كانط ان نظامه خلق "ثورة كوبرنيكية في الفلسفة".
الثورة هي إبطال مفهومنا عن الزمان والمكان. قبل كانط كان الافتراض السائد هو ان الزمن خاصية للعالم توضع فيه التجارب الحسية للاشياء. ثورة كانط تقوم على الادّعاء بان الزمان والمكان ليسا خاصية للعالم وانما مجرد خصائص للذهن المتخيل. هما كصفحة البيانات الالكترونية التي تنظّم المعلومات في اذهاننا.
برتراند رسل يوضح هذه الفكرة بالقول لو لبسنا نظارات زرقاء فسنرى كل شيء ازرق، ونفس الشيء لو لبسنا في اذهاننا نظارات مكانية فسنرى كل شيء في مكان. جدال كانط في هذه القضية يبدأ من الافتراض بان الهندسة والرياضيات تتألفان من معرفة قبلية تركيبية. لكي نجعل الاحكام التركيبية قبلية، يجب ان يكون لدينا نوع من الحدس الخالص يسمح لنا بوضع مفاهيم مجتمعة بدون إجراء اي صلة او احالة للتجربة. الهندسة، مثلا، تعطينا معرفة قبلية حول المكان، ولذا فان معرفتنا بالمكان يجب ان تتأسس في اذهاننا. ولذلك، يستنتج كانط بان مفاهيمنا عن المكان هي ليست شيء نتعلمه من التجربة وانما هي شيء نمتلكه قبل التجربة. مفهومنا عن المكان هو سمة لذهننا وليس سمة للواقع.
اضف تعليق