في عالم يعاني من انقسامات عميقة، يمكن للعراق أن يكون نموذجاً للتعايش الحضاري، مستفيداً من تنوعه الثقافي وإرثه التاريخي، فإن الاحترام المتبادل والتضامن والتعايش المتناغم هو الطريق الصحيح لتنمية الحضارة الإنسانية. بهذه الروح، يمكن للعراق أن يكون شريكاً فاعلاً في تعزيز أهداف اليوم الدولي للحوار بين الحضارات...
في عالم يشهد تحولات عميقة وتحديات متشابكة، يبرز اليوم الدولي للحوار بين الحضارات الذي يحتفل به العالم في 10 يونيو من كل عام كمناسبة للتعريف بأهمية التفاهم المتبادل بين الشعوب والثقافات. هذا اليوم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في يونيو 2024 بناء على اقتراح صيني وتأييد أكثر من 80 دولة، يأتي اعترافاً بأن إنجازات الحضارات تشكل "الرابطة الإنسانية المشتركة". وفي هذا السياق، يعد العراق بموقعه الجغرافي وتاريخه العريق أحد أهم الحاضنات للحوار الحضاري، حيث كانت أرض الرافدين على مر العصور ملتقى للحضارات ومركزاً لإشعاع الثقافات.
العراق مهد الحضارات ومنارة للتواصل الثقافي
تمتلك أرض العراق إرثاً حضارياً عريقاً يجعلها مؤهلة لقيادة الحوار بين الحضارات في العصر الحديث. ففي ديسمبر 2022، استضافت بغداد الاجتماع الوزاري السادس لمنتدى الحضارات القديمة الذي ضم ممثلين عن الصين وأرمينيا وإيطاليا وإيران ومصر واليونان وبيرو والمكسيك، بالإضافة إلى منظمات دولية مثل تحالف الأمم المتحدة للحضارات واليونسكو. وفي كلمته الافتتاحية، أكد وزير الخارجية العراقي الدكتور فؤاد حسين أن "بغداد أرض بلاد الرافدين مهد الحضارات التي ساهمت بشكل كبير إلى جانب الحضارات الأخرى في إثراء مسيرة الحضارة والتراث الإنساني" .
لطالما كان العراق جسراً للتواصل بين الشرق والغرب، حيث تلتقي على أراضيه تأثيرات حضارية متنوعة من سومرية وأكدية وبابلية وآشورية وإسلامية. هذا التنوع الحضاري الفريد يؤهل العراق ليكون منصة مثالية لتعزيز قيم الحوار التي ينادي بها اليوم الدولي، والتي تشمل "التسامح والتعايش السلمي واحترام التنوع الثقافي" .
تحديات الحاضر وآفاق المستقبل
يواجه العراق اليوم تحديات كبيرة تتراوح بين الصراعات السياسية والأمنية والتهديدات التي تستهدف تراثه الحضاري. كما أشار وزير الخارجية العراقية في كلمته خلال منتدى الحضارات القديمة، فإن العالم يواجه "تحديات كبيرة بسبب الصراعات والحروب والأزمات الكبيرة التي نتجت لأسباب متعددة منها اختلاف المصالح وفرض الإرادات والانتشار الديني والعنصري المتطرف" . في هذا السياق، يصبح الحوار الحضاري "شرطاً أساسياً لتحقيق التماسك الاجتماعي وتعزيز التفاهم من أجل مواجهة الجهل، وتعزيز الاحترام المتبادل وتشجيع التعددية الثقافية" .
رغم هذه التحديات، فإن العراق يمتلك رؤية طموحة لتعزيز دوره كوسيط حضاري، حيث يعتمد على "الدبلوماسية الثقافية بوصفها رافعة لمصادر القوى الناعمة والرمزية في حضاراتنا العريقة" . ويتجلى هذا الالتزام في الجهود العراقية لاستعادة القطع الأثرية المسروقة ووضع آليات مشتركة للحد من تهريب التراث الثقافي، كما جاء في بيان بغداد الصادر عن المنتدى .
الحوار الحضاري: ركيزة للسلام العالمي
يؤكد اليوم الدولي للحوار بين الحضارات على أن الحوار هو "الوسيلة الأهم للقضاء على التمييز والتحيز وغرس التفاهم والثقة المتبادلين، وتقوية العلاقات بين الدول وتعزيز التضامن العالمي" . هذا المبدأ يتوافق تماماً مع الرؤية العراقية التي ترى في الحوار الثقافي أداة لتعزيز السلام والاستقرار.
كما أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في رسالته بمناسبة اليوم الدولي، فإن "الحوار في عالمنا المتصدع أمر ضروري لا اختياري من أجل بناء جسور التفاهم والثقة" . وفي عالم تتعالى فيه أصوات التعصب وكراهية الأجانب، يصبح دور الدول ذات الإرث الحضاري العريق مثل العراق أكثر أهمية في تعزيز قيم التعايش والتسامح.
الرؤية الصينية والتضامن الحضاري
تجدر الإشارة إلى أن الصين، التي قادت المبادرة لإقرار اليوم الدولي للحوار بين الحضارات، تؤكد على أهمية "تعزيز الاعتراف العالمي بالقيمة المهمة للتنوع الثقافي والتعاون في التبادلات بين الحضارات" . هذه الرؤية تلتقي مع التوجه العراقي الذي يعتبر الحوار بين الحضارات وسيلة لتجنب الصراعات وبناء مستقبل أفضل.
في منتدى الحضارات القديمة في بغداد، أكد ممثل الصين السيد لي كون على ضرورة أن "تؤدي الحضارة القديمة دورها على نحو أفضل"، وأن يتم "البحث في الحكمة التاريخية للحضارة القديمة على الطريق الصحيح لمواجهة التحديات الحالية" . هذا الموقف يعكس الإدراك المشترك لأهمية الاستفادة من الدروس التاريخية في معالجة تحديات الحاضر.
نحو مستقبل من التعايش الحضاري
في الختام، يمثل اليوم الدولي للحوار بين الحضارات الذي يصادف 10 يونيو من كل عام فرصة لإبراز الدور التاريخي للعراق كجسر للتواصل بين الحضارات. فبينما تؤكد مبادرة اليوم الدولي على أن "جميع إنجازات الحضارات هي الرابطة الإنسانية"، يذكرنا العراق بأن الحضارات لا تتصارع بل تتحاور وتتكامل.
في عالم يعاني من انقسامات عميقة، يمكن للعراق أن يكون نموذجاً للتعايش الحضاري، مستفيداً من تنوعه الثقافي وإرثه التاريخي. كما جاء في بيان بغداد، فإن "الاحترام المتبادل والتضامن والتعايش المتناغم هو الطريق الصحيح لتنمية الحضارة الإنسانية". بهذه الروح، يمكن للعراق أن يكون شريكاً فاعلاً في تعزيز أهداف اليوم الدولي للحوار بين الحضارات، مساهماً في بناء عالم أكثر سلاماً وتعددية.
اضف تعليق