كثيرًا ما نجد أشخاصًا كبارًا في السن لكنّهم لا يزالون يكررون أخطاءهم دون تعلّم، في حين نجد شبابًا يدركون أخطاءهم من أول تجربة، فيتجنبونها، ويكتسبون من التجربة ما يجعلهم أكثر نضجًا، إنّ قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في عقله، لا في عمره، فالحكمة تُقاس بما يحتويه العقل من فكر...
يظنّ البعض أنّ العمر هو ميزان الحكمة، وأنّ كلَّ من شاب رأسه زادت حكمته، لكنّ الحقيقة تأبى إلا أن تثبت العكس أحيانًا. فكم من صغيرٍ أنار بفكره دروبًا مظلمة، وكم من كبير عاش عمرًا مديدًا لكنه ظلّ أسير الجهل. إنّ العقول لا تُوزن بالسنوات، بل تُقاس بمدى سعة الفكر، وعمق التأمل، وحكمة التدبير.
العقل جوهرة لا يشترط نضجها بالعمر
إنّ الطفل الصغير قد ينبعث من فكره ما يدهش العقول، فتجده يُحلل الأمور بحكمة تفوق سنّه، ويصل إلى استنتاجات تعجز عنها عقول من يكبرونه سنًّا. ألم نسمع عن علماء برعوا وهم في ريعان الطفولة، وعن عباقرة وضعوا بصماتهم قبل أن يصلوا إلى رُشدهم؟ ومن جهة أخرى، كم رأينا من رجال بلغوا من العمر عتيًّا، لكن عقولهم خاوية، وأفكارهم سطحية، لا يحملون من المعرفة سوى ما يتكرر على ألسنة العامة دون وعيٍ أو تدبر؟
إنّ الفارق بين العقول ليس بعدد السنين، بل بعدد الأفكار التي تنضج بداخلها. فالعقل يشبه الأرض، إن زُرعت بالمعرفة، وسُقيت بالتجربة، وأُضيئت بنور الحكمة، أثمرت وأينعت. أمّا إن تُركت قاحلة، فهي لا تنتج إلا سرابًا.
الخبرة ليست حكرًا على الكبار
كثيرًا ما نسمع عبارة "أنت صغير، لا تزال بحاجة إلى مزيدٍ من الخبرة"، وكأنّ الخبرة صندوقٌ مغلق لا يُفتح إلا عند بلوغ سنٍ معين. غير أنّ الواقع يثبت أنّ التجربة ليست حكرًا على الكبار، فقد يمرّ الصغير بمواقف تُنضج عقله وتصقل شخصيته، فيصبح أكثر إدراكًا للأمور من شخص عاش عقودًا لكنّه لم يعِ منها شيئًا.
والتاريخ مليء بأمثلة تؤكّد هذه الحقيقة. فكم من قائد حكم دولته وهو لا يزال شابًا، وأدار شؤونها بحنكة أذهلت الجميع! ألم يكن الإسكندر الأكبر في العشرينيات من عمره عندما غزا العالم؟ ألم يكن عمر بن عبد العزيز في الثلاثينيات عندما قاد الأمة الإسلامية بحكمة العظماء؟ هؤلاء لم يكن معيارهم العمر، بل ما حوته عقولهم من حكمة وبصيرة.
العلم مفتاح النضج العقلي
إنّ الفارق الحقيقي بين عقلٍ وآخر ليس في عدد سنوات العمر، بل في مقدار العلم والمعرفة التي يحتويها. فالعقل الذي يتغذّى على القراءة، ويستنير بالبحث، ويتدبر الأمور بعين ناقدة، ينمو ويكبر، حتى وإن كان صاحبه صغير السن. وعلى العكس، فإنّ العقل الذي يهمل العلم، ولا يسعى لاكتساب المعرفة، يظلّ قاصرًا، حتى وإن بلغ صاحبه الثمانين.
فلا عجب أن نجد طفلًا يناقش أمورًا معقّدة بحكمة الكبار، ورجلًا مسنًّا يتحدّث بسذاجة الأطفال. فالأمر ليس في عدد السنوات التي عاشها الإنسان، بل في كيفيّة استغلاله لها.
الحكمة تولد من التأمل والتجربة
إنّ الحكمة لا تنبت فجأة، ولا تكتسب بمرور الزمن فقط، بل تحتاج إلى تأملٍ عميق في الحياة، وإلى تجربة تثري الفكر. فقد يكون الشاب أكثر حكمةً من رجلٍ طاعنٍ في السن، إن كان أكثر قدرةً على استخلاص العبر من الحياة، وأكثر ميلًا إلى التفكير النقدي.
وكثيرًا ما نجد أشخاصًا كبارًا في السن لكنّهم لا يزالون يكررون أخطاءهم دون تعلّم، في حين نجد شبابًا يدركون أخطاءهم من أول تجربة، فيتجنبونها، ويكتسبون من التجربة ما يجعلهم أكثر نضجًا.
العقل ميزان الإنسان الحقيقي
إنّ قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في عقله، لا في عمره. فلا يُقال عن أحدٍ حكيمٌ لمجرد أنّه بلغ عمرًا متقدمًا، ولا يُستهان بآخر لمجرّد أنّه صغير السن. فالحكمة تُقاس بما يحتويه العقل من فكر، وبما تحمله الروح من وعي.
فلنحرص على أن نُنضج عقولنا لا بأعمارنا، بل بعلمنا وتجاربنا وتأملاتنا، لأنّ الأعمار تمضي، لكنّ العقول الناضجة تبقى كنوزًا تُنير دروب الحياة.
اضف تعليق