فرص انتكاس الأشخاص الذين يستمرون في ممارسة الرياضة تقل عن فرص الأشخاص الذين يستمرون في تناول الأدوية. تم اختبار فوائد الرياضة والأنشطة البدنية بالنسبة لمرضى الاكتئاب من قبل عدد كبير من الدراسات. أثبتت جميعها بصورة قاطعة إمكانية علاج الاكتئاب بالرياضة لما لها من قدرة مذهلة على تحسين الحالة المزاجية...
يؤثر الاكتئاب على الناس من جميع الأعمار، وجميع مناحي الحياة وفي كل البلدان. وأشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن الدول الفقيرة تعاني أكثر من هذا المرض في ظل محدودية المساعدة أو عدمها لأولئك الذين يحتاجون إليها، وأن المرض أكثر شيوعا بين النساء، كما أصبح السبب الرئيسي للعجز في العالم.
ودعت منظمة الصحة إلى تحسين الصحة البدنية خاصة من خلال الانخراط في ممارسة الرياضية الجماعية. كما تدعو أيضا إلى زيادة الاستثمار في الصحة النفسية، مشيرة إلى أن استثمار كل دولار أمريكي واحد في تحسين علاج الاكتئاب والقلق يحقّق عائدات قدرها 4 دولارات أمريكية في ميدان تحسين صحة الفرد وزيادة قدرته على العمل.
أحد الأسئلة الشائعة حول علاج الاكتئاب بالرياضة يتعلق بمدى فعاليتها أو بالأحرى مدى ملائمتها لمختلف حالات الاكتئاب. يجاب على هذا بأن الأمر لا يزال خاضع للدراسة. أما الثابت الوحيد هو أن الرياضة ذات قدرة فائقة على تجاوز أعراض الاكتئاب الجسدية والنفسية، لكن لا يمكن الاعتداد بها وحدها كعلاج فعلي لحالات الاكتئاب الحاد أو المتقدم.
وتوصلت دراسة إلى أن ثلث الأشخاص المعرضين لخطر الإصابة بالاكتئاب والقلق يمكن أن يمنعوه من خلال ممارسة التمارين الرياضية الكافية.
ويعرف التمرين بأنه علاج معروف لمن يعانون من الاكتئاب، حتى أن الأطباء يصفونه.
الدكتورة تارا تامانيان، عالمة النفس العصبي، تحدثت عن كيفية تأثير التمارين الجماعية على الاكتئاب ومحاربته، وكيف تغير الدماغ وكيف تخلق روابط داعمة.
ولوقت طويل كانت تتم مساعدة المصابين بالاكتئاب من خلال العلاج النفسي، والعلاج السلوكي المعرفي وكذلك الأدوية. الأدوية مفيدة، كما تقول الدكتورة تارا تامانيان، ولكن في بعض الأحيان تترتب عنها آثار جانبية غير مرغوب فيها، بما في ذلك زيادة الوزن وانخفاض في الرغبة الجنسية:
"تم وضع الأفراد الذين يعانون من الاكتئاب في مجموعات: مجموعات تتلقى العلاج الدوائي وأخرى تمارس التمارين الرياضية. ما وجدوه هو أنه في العديد من هذه الدراسات، أحدثت التمارين الرياضية (أيروبكس) بمعدل ثلاث مرات في الأسبوع لمدة 20 دقيقة، تغييرا إيجابيا في هؤلاء الأفراد الذين يعانون من حالات اكتئاب خفيفة إلى معتدلة. وفي الحقيقة فإن فرص انتكاس الأشخاص الذين يستمرون في ممارسة الرياضة تقل عن فرص الأشخاص الذين يستمرون في تناول الأدوية."
تم اختبار فوائد الرياضة والأنشطة البدنية بالنسبة لمرضى الاكتئاب من قبل عدد كبير من الدراسات. أثبتت جميعها بصورة قاطعة إمكانية علاج الاكتئاب بالرياضة لما لها من قدرة مذهلة على تحسين الحالة المزاجية لدى الأشخاص بصفة عامة ومرضى الاكتئاب بصفة خاصة.
لم تقصر تلك الدراسات المساهمة في علاج الاكتئاب بالرياضة على أنماط محددة من الأنشطة الرياضية دون غيرها. إلا أن معظم تلك الدراسات ركزت على رياضة المشي ورياضة الركض. تم إرجاع قدرة النشاط البدني على إحداث ذلك التأثير إلى عدة أسباب:
يساعد النشاط العضلي على إطلاق الأندورفين ومجموعة المواد الكيميائية الطبيعية في الدماغ المعززة للإحساس بالسعادة والمسؤولة عن تحسين الحالة المزاجية.
تعمل الرياضة على التخلص من المشاعر والأفكار السلبية المغذية للاكتئاب.
تساهم التمارين الرياضية -حتى البسيطة- في تعزيز الثقة بالنفس وتقدير الذات.
تمنح ممارسة الرياضة فرصة أكبر للتفاعل الاجتماعي من خلال الاختلاط بالآخرين والتعامل معهم.
تمارين رياضية لمدة 20 دقيقة يوميًا
وتوصّلت دراسة جديدة إلى أنّ ممارسة نشاط معتدل لمدة 20 دقيقة يوميًا، لخمسة أيام في الأسبوع، قد تقلل من خطر أعراض الاكتئاب بشكل كبير لدى الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 50 عامًا، وغالبًا ما يعانون من أمراض مرتبطة بالاكتئاب، مثل مرض السكري، وأمراض القلب، والألم المزمن.
وبحسب مجلة السكري البريطانية، فإنّ مرضى السكري أكثر عرضة بمرتين لخطر الإصابة بالاكتئاب. ووجدت دراسة أجريت في عام 2017، أن مرضى القلب أكثر عرضة للوفاة بمقدار الضعف إذا أصيبوا بالاكتئاب بعد تشخيصهم. ويعاني نحو 85٪ من الأشخاص الذين يعانون من الآلام المزمنة من اكتئاب حاد، وفقًا لما ذكرته دراسة أخرى وُضعت في عام 2017.
ورغم ذلك، يحتاج الأشخاص الذين شاركوا في الدراسة، ولا يعانون من مرض مزمن، إلى ممارسة تمارين رياضية تتراوح بين معتدلة وقوية لمدة ساعتين يوميًا من أجل رؤية تحسّن في أعراض الاكتئاب، وفقًا لما ذكره مؤلف الدراسة الرئيسي إيمون ليرد، الباحث في مركز النشاط البدني للأبحاث الصحية في جامعة ليمريك، بأيرلندا.
وتُعرّف المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والسيطرة عليها (CDC) النشاط البدني المعتدل عادةً، على أنه نشاط "يقطع أنفاسك" بحيث يصعب عليك التحدث أثناء القيام به. ويشمل المشي السريع، أو ركوب الدراجات، أو الرقص، أو لعب التنس، أو الركض صعودًا ونزولاً على السلالم. وإذا زاد مستوى التمرين إلى درجة أقوى مثل الركض أو الجري، يصبح التنفس سريعًا ويرتفع معدل ضربات القلب، فيمكن عندها تقليل الوقت الذي تقضيه في التمرين.
وقال ليرد إنّ "الأمر الفريد (المتصل بهذه الدراسة) أنها أول وأكبر تحقيق لمجموعة طولية، مع ومن دون مرض مزمن، لمحاولة معرفة الحد الأدنى من فترة تمارين قصيرة بهدف ملاحظة الفروقات في حالات الاكتئاب".
وأضاف: "نحن لا ندعو إلى خفض مستويات النشاط في أي مجموعة سكانية، لكن هذه النتائج تشير إلى أنه حتى المدة الأدنى من تلك الموصى بها قد تحمي الصحة العقلية بمرور الوقت لدى كبار السن". وتابع: "قد تكون هذه الفترات القصيرة أكثر قابلية للتحقيق لأنّ العديد من كبار السن قد يجدون صعوبة في القيام بنشاط بدني لعدد كبير من الأسباب".
وتابعت الدراسة المنشورة في مجلة "JAMA Network Open"، أكثر من 4000 من البالغين الأيرلنديين بمتوسط عمر 61 عامًا لمدة 10 سنوات. وتم تقييم المشاركين، الذين كانوا جزءًا من الدراسة الأيرلندية الطولية حول الشيخوخة، كل عامين. وسُئلوا عن نشاطهم البدني ومستويات التمارين، وخضعوا لاختبارات بهدف تحديد أعراض الاكتئاب التي ظهرت عليهم، فإذا كانت أعراض شديدة، صنّفوا حينها على أنهم يعانون من اكتئاب شديد.
وأوضح ليرد لـCNN أن "أمثلة من الأعراض التي شملها الاستبيان، هي: هل واجهت صعوبة في التركيز على ما كنت تفعله؛ هل كان نومك مضطربًا؛ هل شعرت بأنك لن تستطيع التخلص من الكآبة حتى بمساعدة عائلتك والأصدقاء، وغيرها من الأمور.
أما الأشخاص الذين عانوا من نوبة اكتئاب شديدة خلال الـ12 شهرًا الماضية، فقد وُضعوا ضمن مجموعة الاكتئاب الرئيسية أيضًا. وتُعرَّف نوبة الاكتئاب بأنها تمتد لفترة أسبوعين أو أكثر ويشعر خلالها الشخص بالتعب، وتنتابه مشاعر الحزن واليأس، وفقدان الاهتمام بالأنشطة الرياضية، أو يعاني من مشاكل في النوم، أو زيادة الوزن أو فقدانه، أو التفكير بالانتحار.
ووجدت الدراسة أنه كلما زاد الوقت الذي يقضيه الناس في ممارسة الرياضة، كان ذلك أفضل. ولفتت إلى أنّ الأشخاص الذين يمارسون الرياضة باعتدال لمدة 20 دقيقة في اليوم، لخمسة أيام في الأسبوع، لديهم معدل أقل بنسبة 16٪ من أعراض الاكتئاب، وخطر أقل بنسبة 43٪ للإصابة بالاكتئاب الشديد مقارنة مع من لم يمارسوا الرياضة.
وأفادت الدراسة أنّ من مارسوا الرياضة لمدة ساعتين في اليوم هم الأكثر استفادة، مع تسجيل تراجعًا بنسبة 23٪ في أعراض الاكتئاب وانخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب الشديد بنسبة 49٪.
وقال لاريد: "كلما زادت فترة النشاط البدني، زادت فوائد الصحة العقلية للاكتئاب".
ولسوء الحظ، خلال 10 سنوات ارتفع المعدل الإجمالي للاكتئاب لدى المجموعة بأكملها، من متوسط 8٪ إلى 12٪، بينما زاد استخدام مضادات الاكتئاب من حوالي 6٪ إلى 10٪. ومع ذلك، انخفضت أيضًا معدلات التمارين الرياضية بنسبة 10٪ للمجموعة خلال مدة الدراسة.
وأشار لاريد إلى أنّ نتائج الدراسة لم تكن مفاجئة، مستشهدًا بالأبحاث السابقة المكثفة التي بيّنت وجود صلة قوية بين التمارين الرياضية والحدّ من الاكتئاب. فقد وجدت مراجعة منهجية وتحليل تلوي نُشر في عام 2022 أن المشي السريع لمدة 2.5 ساعة فقط في الأسبوع يقلّل من أعراض الاكتئاب بنسبة 25٪. ووجدت الدراسة نفسها أيضًا أن المشي نصف هذا الوقت يقلل من خطر الإصابة بالاكتئاب بنسبة 18٪.
وكانت مراجعة كبيرة أخرى نُشرت في فبراير/ شباط وجدت أن ممارسة الرياضة أكثر فاعلية بمقدار 1.5 مرة لجهة تقليل التوتر، والقلق، وأعراض الاكتئاب الخفيفة إلى المتوسطة، مقارنة مع الأدوية المضادة للاكتئاب، أو العلاج السلوكي المعرفي الذي يعتبر علاجًا قياسيًا.
وتؤثر التمارين الرياضية على صحة الشخص أكثر من مجرد تخفيف الاكتئاب. وتحافظ على الجسم في حالة ممتازة، ما يسمح له بالعمل بكفاءة والقيام بعمل أفضل في درء الأمراض من جميع الأنواع.
أدوية الاكتئاب
من جهتها استعرضت الدراسة المنشورة في المجلة البريطانية للطب الرياضي أكثر من 1000 تجربة بحثية لفحص آثار النشاط البدني على الاكتئاب والقلق والضيق النفسي وتوصلت إلى أن التمارين وسيلة فعالة لعلاج مشاكل الصحة العقلية - ويمكن أن تكون أكثر فعالية من الأدوية أو الاستشارة.
ووجد الباحثون أن ممارسة الرياضة 150 دقيقة كل أسبوع لأنواع مختلفة من النشاط البدني (مثل المشي السريع ورفع الأثقال واليوجا) يقلل بشكل كبير من الاكتئاب والقلق والضيق النفسي، مقارنة بالرعاية المعتادة (مثل الأدوية).
وقد لوحظت أكبر التحسينات (كما تم الإبلاغ عنها ذاتيًا من قبل المشاركين) في الأشخاص المصابين بالاكتئاب وفيروس نقص المناعة البشرية وأمراض الكلى والنساء الحوامل وبعد الولادة والأفراد الأصحاء، على الرغم من ظهور فوائد واضحة للجميع.
وجد الباحثون أنه كلما زادت كثافة التمرين، زادت فائدته، على سبيل المثال، المشي بوتيرة سريعة، بدلاً من المشي بوتيرة عادية.
وتتمتع ممارسة الرياضة لمدة ستة إلى 12 أسبوعًا بأكبر قدر من الفوائد، وليس لفترات أقصر، تعتبر التمارين طويلة المدى مهمة للحفاظ على تحسينات الصحة العقلية.
عند مقارنة حجم فوائد التمرينات بالعلاجات الشائعة الأخرى لحالات الصحة العقلية تشير النتائج إلى أن التمرين أكثر فعالية بنحو 1.5 مرة من العلاج الدوائي أو السلوك المعرفي.
علاوة على ذلك، تتمتع التمارين الرياضية بفوائد إضافية مقارنة بالأدوية، مثل انخفاض التكلفة وتقليل الآثار الجانبية وتقديم مكاسب إضافية للصحة البدنية، مثل وزن الجسم الصحي وتحسين صحة القلب والأوعية الدموية والعظام والفوائد المعرفية لصحة الدماغ.
يُعتقد أن التمرينات تؤثر على الصحة العقلية من خلال مسارات متعددة، وبتأثيرات قصيرة وطويلة المدى. مباشرة بعد التمرين، يتم إفراز الإندورفين والدوبامين في الدماغ.
على المدى القصير، يساعد هذا في تعزيز الحالة المزاجية وتخفيف التوتر.
على المدى الطويل، يؤدي إطلاق النواقل العصبية استجابةً للتمارين الرياضية إلى حدوث تغييرات في الدماغ تساعد في تحسين الحالة المزاجية والإدراك، وتقليل الالتهاب، وتعزيز وظائف المناعة، والتي تؤثر جميعها على وظائف الدماغ والصحة العقلية.
يمكن أن يؤدي التمرين المنتظم إلى تحسين النوم، والذي يلعب دورًا حاسمًا في الاكتئاب والقلق كما أن له فوائد نفسية، مثل زيادة احترام الذات والشعور بالإنجاز، وكلها مفيدة للأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب.
وعلى الرغم من أن النشاط البدني يغمر الدماغ بالمواد الكيميائية المكافئة، إلا أن الفوائد قد تكون أكثر عند ممارسة الرياضة مع أشخاص آخرين والدفع الذي نحصل عليه من التواصل الاجتماعي.
اضف تعليق