بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(1)
بصائر النور في آية الاستشارة
ظاهر الآية وجوب العفو والاستغفار والاستشارة
ومن البصائر في آية العفو والاستشارة: أن المستفاد من ظاهر الآية الكريمة أن العفو واجب وكذا الاستغفار للمؤمنين العصاة، وأيضاً الاستشارة مع الأمة.
والمقصود وجوب هذه الثلاثة على القائد في أي موقع كان، سواءً أكان نبياً إماماً منصوباً من عند الله تعالى أم كان مرجع تقليد أم كان قائداً أو رئيساً لأمة أو دولة أو لحزب أو عشيرة أو جماعة من الناس؛ وذلك لأن الأصل في الخطابات القرآنية الموجهة بظاهرها للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنها أحكام عامة إلا ما ثبت اختصاصه به (صلى الله عليه وآله)، وذلك لضرورة الاشتراك في الأحكام أولاً ولقاعدة التأسي ثانياً، فليس ذلك من تنقيح المناط في شيء.
على أنه لو كان منه لأمكن إدعاء الفحوى والأولوية فانه إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) على عصمته واتصاله بالوحي ومكانته السامية التي لا يرقى إليه الخيال لو غلظ على الناس لانفضوا من حوله وابتعدوا عن تعاليم الدين ولذا وجب عليه العفو عنهم والمشورة معهم والاستغفار لهم، فما بالك بحال سائر القادة ممن لا يمتلكون موقع النبي ومكانته وعظمته؟ فإن فظاظتهم مع الناس وغلظتهم ادعى لفرار الناس وهروبهم من دين الله فتكون ضرورة تألّفهم والعفو عنهم والاستغفار لهم والاستشارة معهم، أشد! فتأمل
الأمر في الآية مولوي للوجوب وليس إرشادياً
ومن البصائر: أن الظاهر، حسب القواعد، أن الأمر ههنا مولوي وليس ارشادياً، فإذا كان مولوياً استحق القائد على مخالفته العقاب، ولو خالف سقط عن العدالة بالمخالفة الواحدة إن قلنا بأنها من الكبائر وإلا فبالاصرار عليها يسقط من العدالة إن قلنا بأنها من الصغائر.
والكبائر اختلفت الأقوال في الضابط فيها: فقيل بانها (ما أوعد الله عليها النار) فعلى هذا فعدم العفو أو الاستغفار أو الاستشارة ليست من الكبائر، وقيل بأنها (ما نُصّ في الأثر على أنه من الكبائر) فالأمر كذلك، وقيل غير ذلك(2) مما يحتاج تنقيحه إلى عقد بحث آخر.
هل المصرّ على ترك الاستشارة والعفو، فاسق!
وبناء على الوجوب: لو كان الشخص إمام جماعة أو مرجع تقليد أو قاضياً أو قائداً ورئيساً لدولة فانه يسقط عن العدالة ولا يجوز له الاستمرار في القضاء والقيادة وشبههما إن أصر على عدم الاستشارة أو عدم العفو أو عدم الاستغفار، بعد القول بالوجوب.
والذي يدل على الوجوب أن الأصل في الأوامر أن تكون مولوية كما أن ظاهرها الوجوب أما الإرشادية فخلاف الأصل لا يصار إليها إلا بدليل وكذا الاستحباب.
وقد يتوهم أن الأمر للارشاد نظراً لسبق التعليل وهو قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ...) و(وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وكلما جرى التعليل لأمر وحكمٍ أو لنهي وزجر كان ظاهراً في الإرشاد إلى ما فيه من المصلحة الكامنة أو المفسدة المتضمنة.
الأجوبة:
ولكنه توهم غير صحيح؛ فإن الأوامر المولوية أيضاً كثيراً ما يجري التعليل لها كي تشكل حافزاً إضافياً للعبد نحو الانقياد إضافة إلى حافز موقع المولى ومولويته؛ ألا ترى تعليله تعالى للصلاة والحج والكثير من الواجبات والمحرمات؟ فمثلاً قوله تعالى: (أَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(3) فذكر الله تعالى هي الغاية والعلة لإقامة الصلاة ومع ذلك لم يخرج الأمر بالصلاة عن المولوية للارشادية، وقوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)(4)
إضافة إلى أن تنقيح الضابط في الأوامر المولوية، يحسم أصل مادة التوهم والإشكال فإن الضابط هو (ما صدر من المولى بما هو مولى مُعمِلاً مقام مولويته) فلا فرق حينئذٍ بين كونه معلَّلاً أو لا ولا بين ذكر مصلحة أو مفسدة دنيوية أو لا ولا بين كونه في مورد المستقلات العقلية أو لا ولا ولا.. وقد تطرقنا لتفصيل كل ذلك في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) فليراجع. هذا
إضافة إلى أن كون الأمر للإرشاد لا ينافي كونه للوجوب إذ قد يكون الإرشادي إلزامياً(5) كما فصلناه في الكتاب تبعاً للميرزا الشيرازي الكبير والذي نقله عن الشيخ الانصاري أيضاً.
وهذا كله من جانب ومن جانب آخر فانه لو تنزلنا وسلمنا بأن الأمر ليس مولوياً، لاختلاف المبنى في ضابط المولوية أو لاستظهار الارشادية من قرائن أخرى كمناسبات الحكم والموضوع أو السياق فرضاً، فإن الأمر في هذه الآية الشريفة يتمتع بميّزة إضافية تجعله يفيد الوجوب، ولو لم يكن أمراً مولوياً ولم يكن الواجب واجباً نفسياً، وهو وقوعه مقدمة للواجب ووقوع تركه مقدمة للحرام، في الجملة، ومقدمة الواجب واجبة عقلاً أو عقلاً وشرعاً أيضاً.
وذلك هو صريح الآية الشريفة (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فان الانفضاض من حول الرسول (صلى الله عليه وآله) بترك الالتزام بأوامره ونواهيه وإهمال تعاليمه محرم، والفظاظة والغلظة مقدمة موصلة لذلك فهي محرمة تحريماً مقدمياً، والعكس بالعكس فإن الرحمة واللين والرفق موجبة لاجتذاب الناس إلى الدين وتعاليمه وقياداته فهي واجبة.
السر في خروج الناس من دين الله أفواجاً أو صدّهم عن الدخول فيه!
والواقع الخارجي طوال مئات السنين وعبر ألوف القيادات وعلى مساحة مئات الدول يشهد بذلك، فإن سوء تصرف قادة ورؤساء الدول الإسلامية على مرّ التاريخ أوجب صدود الملايين من المسيحيين والبوذيين وغيرهم من الدخول في الإسلام، بل وأن تصرفاتهم الخشنة المستبدة أوجبت خروج الكثير من المسلمين من دين الله أو من دائرة التدين والإيمان فأصبحنا نشهد (ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً) بدل الحالة التي أشارت إليها الآية الكريمة (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً)(6).. وما أمواج العلمانية الهادرة في بلادنا وما سوء سمعة الإسلام والمسلمين لدى عشرات الملايين من الناس إلا من نتائج استبداد حكامنا وجورهم وظلمهم وعنفهم وقسوتهم وغلظة قلوبهم وفظاظة ألسنتهم وأيديهم وسائر جوارحهم.
ملامح من رحمة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بالناس ورفقه بهم وأُبوّته لهم
وههنا نشير إلى بعض ملامح ومعالم رِفقه (صلى الله عليه وآله) بأصحابه وأهل بيته ولينه معهم ومداراته لهم ومراعاته لمشاعرهم وتكريمهم واحترامه لهم.
كان (صلى الله عليه وآله) يجلس على دكان من طين!
"عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ، فَطَلَبْنَا إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنْ يَجْعَلَ مَجْلِساً يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّاناً مِنْ طِينٍ وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَنَجْلِسُ بِجَانِبَيْهِ"(7)
وذلك يُعدّ من أروع مكارم الأخلاق وفضائل الأفعال والصفات؛ فإن التميّز على الناس والترفع عنهم هو شأن كبار القوم والقادة عادة ويقل العكس أو يندر، وهل تجد في العالم كله قائداً يجلس على التراب ثم إذا اضطرته الضرورة، إذ كان الغرباء يقعون في ضيق وإحراج عندما لا يعرفون النبي بين جملة من الصحابة فيحرجون في السؤال عنه، اختار "دُكَّاناً مِنْ طِينٍ" فقط ليجلس عليه!
وفي ذلك أكبر العِبرة لنا فإن الرؤساء والوزراء ورؤساء الشركات والقادة يجلسون عادة على عرش أو خلف مكتب يفصلهم عن الناس والمراجعين ويجعلهم يستشعرون ببعض الفوقية كما يشعر المراجِع باستعلاء الرئيس عليه.
وهذه العادة غير إنسانية ولا إسلامية أبداً، وعلينا أن نحمد الله تعالى أنها لم تسرِ حتى الآن إلى الحوزات العلمية ورجال الدين، ولعل البعض تـهشّ نفسه إلى ذلك أو يتصور فيه كمالاً وجلالة فقد تضعف نفسه أمام إغراء فخامة المكتب والعرش والكرسي فعلينا أن نحذّر المؤمنين والرساليين خاصة الطلاب الذين انخرطوا في سلك الدولة أو بعض الوظائف الرسمية من أن يتركوا سنة الرسول (صلى الله عليه وآله) وسيرته فانها خير لهم للدنيا والآخرة معاً فانى يُصرفون؟.
كما ورد "أنه (صلى الله عليه وآله) كان إذا جلس جلس إليه أصحابه حلَقاً حَلَقاً"(8)
ومن الواضح أن جلسة الحلقة لا تميز فيها أبداً.
وكان لا يعاتب الرجل بشكل مباشر!
وكان من كريم أخلاقه (صلى الله عليه وآله) أنه "كان إذا بلغه عن الرجل، لم يقل: ما بالٌ فلان يقول، ولكن كان يقول: ما بال أقوامٍ يقولون: كذا وكذا"(9) مع أن سيرة الأكثر جرت على مواجهة الطرف الآخر بلاذع القول أو بالعتاب على أقل التقادير لكن النبي (صلى الله عليه وآله) هو المثال الأسمى في كرم النفس وحُسن العِشرة، أفلا نتأسى به؟.
وكان لا ينصرف عن صاحبه حتى يكون هو المنصرف!
وكان (صلى الله عليه وآله) "إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه، فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه"(10) وفي ذلك دلالة بالغة على عظمة الرسول (صلى الله عليه وآله) وسمو نفسه ومنتهى الكمال في إنسانيته إذ من الواضح أن التقيد بهذه القاعدة (أن لا يترك صاحبه ولا يفارقه حتى يكون صاحبه هو الذي يفارقه) أصعب من الصعب لكثرة مشاغل الإنسان وأعماله والتزاماتها فكيف بمثل الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو رئيس دولة وقائد عام ورسول ومبلغ ومربي وهادي فإن ضغط أعماله ومسؤولياته رهيب خاصة وأن كثيراً من الناس لا يقدِّرون ظروف القائد والتزاماته (بل لا يقدرون ظروف أصدقائهم وأعمالهم) فلا ينصرفون إلا بعد فترة طويلة وكثيراً ما لا تكون لهم حاجة حقيقية إلا رغبة في ملأ الفراغ والتسلي بالصحبة!
وكان (صلى الله عليه وآله) يتجنب حتى المنفِّرات البسيطة
كما اننا نجد في أخلاقه (صلى الله عليه وآله) مع أصحابه وأهله أنه "كَانَ لَا يَأْكُلُ الثُّومَ وَلَا الْبَصَلَ وَلَا الْكُرَّاث"(11) مع أن رائحة الكراث قليلة ورغم حاجة البدن إلى هذه الثلاثة لكنه (صلى الله عليه وآله) كان لا يرغب في إلحاق أدنى درجات الضرر أو الانزعاج بأصحابه!
كما ورد أنه (صلى الله عليه وآله) كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك، وإذا قام من نومه بدأ بالسواك أيضاً، مع أن الالتزام بذلك صعب جداً إلا أنها المثالية في رعاية كافة مظاهر الرحمة بالناس والأهل حتى بمقدار رعاية مظهر الأسنان وروعتها وطيب نكهة الفهم وعذوبته.
بل إن لطفه (صلى الله عليه وآله) بهم وإدخال السرور على قلوبهم بلغ درجة أنه (صلى الله عليه وآله) كان يتجمّل لأصحابه كما يتجمل لأهل بيته – كما ورد في رواية أخرى -.
وهذه كانت عينات من مظاهر لطفه ورحمته ورفقه ورعايته بأصحابه وأهله وسنذكر عينات أخرى لاحقاً بإذن الله تعالى.
(الرحمة والإنسانية) كمقصدين من مقاصد الشريعة السمحة
سبق أن مقاصد الشريعة تستبطن كنوزاً معرفية في الأبعاد الكلامية والتفسيرية والفكرية، كما انها تكشف لنا العديد من أبعاد التشريعات الإلهية، ولنذكر ههنا مثالاً فقهياً آخر على ذلك:
نموذج هام: هل يجوز الغدر مع الكفار؟
فقد طرح الفقهاء مسألة الغدر مع الكفار وذهب جمع منهم إلى جوازه مستدلين بأدلة قوية في بادي النظر قال السيد الوالد قدس الله نفسه الزكية (هل يجوز الغدر بالكفار أم لا؟ احتمالان: أ- الجواز لأنه لا حرمة لهم، ولأن إبادة الكفر لإنقاذ الناس من براثن الظلم والضلال أهم، ولأنه نوع من الخدعة الجائزة، ولمناط الخدعة، ولأنهم يغدرون طبيعةً فالغدر معهم من باب كلي: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ)(12)، إذ قد تقدم أنه لا يلزم كون الرد بالمثل من جميع الجهات. وفي نهج البلاغة: "الْوَفَاءُ لِأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْغَدْرُ بِأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ تعالى"(13) )(14).
آقول: ان دليل الأهم والمهم دليل عقلائي عليه بناؤهم وسيرتهم بل هو فطري في الجملة فإن حياء العقلاء تبتني عليه وكذلك قاعدة الاعتداء بالمثل، ولكن ومع ذلك ذهب مشهور الفقهاء إلى حرمة الغدر واستدلوا بالآيات والروايات، قال السيد الوالد:
الدليل على حرمة نقض العهد حتى مع الكفار
(ب- والعدم، وهذا هو الذي اختاره المشهور، مستندين إلى جملة من النصوص، بل ادعى بعضهم عدم الخلاف فيه، حاملين للروايات(15) على الوجوب، بالإضافة إلى قوله سبحانه: ﴿فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقيمُوا لَهُمْ﴾(16)، خلافاً للقول الأول الذي حملها(17) على ضرب من الاستحباب.
وهذا القول هو الأقرب، لما تقدم من جملة من الروايات الناهية عن الغدر الذي هو نقض العهد، بخلاف الخدعة التي هي الالتواء في القول والفعل في حالة الحرب، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر لأصبغ بن نباتة في أثناء خطبة له: "لولا كراهة الغدر لكنت من أدهى الناس، إلاّ أن لكل غدرة فجرة، ولكل فجرة كفرة، ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار"(18).
وفي خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، سأله عن فرقتين من أهل الحرب لكل واحدة منهما مَلِكٌ على حدة، اقتتلوا ثم اصطلحوا ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): "لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، ولا أن يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا، ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، ولا يجوز عليهم ما عاهدوا عليه الكفار"(19).
إلى غيرها من الروايات المذكورة في المستدرك في باب تحريم الغدر من كتاب الجهاد)(20) فلاحظ التعميم الواسع في الرواية الشريفة: فانه 1- لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، 2- ولا أن يأمروا بالغدر، 3- ولا أن يقاتلوا مع الذين غدروا، وهذا الثالث أقوى دلالةً إذ يحرم القتال حتى مع الذين غدروا بدولة أخرى مع انه ليس بيننا بينها عهد!.
وقال: (وتتمة المروي عن علي (عليه السلام) دليل على الحرمة، و"لا ينبغي" يحمل على الحرمة بالقرينة الموجودة في الرواية، فإنه يستعمل في الحرام والمكروه والمستحيل، مثل: ﴿وَما يَنْبَغي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً﴾(21). ومن المعلوم أن السرايا كانت تمر ببعض من عاهدهم النبي (صلى الله عليه وآله)، بالإضافة إلى أن معناه: إن أعطيتم الأمان لأحد فلا تنقضوه، فالقول بالحرمة هو المتعين)(22).
أقول: وتوضيح المسألة: في ضمن نقاط:
الغدر مغاير للخدعة
1- أن الغدر غير الخدعة، إذ الغدر يعني نقض العهد مع الطرف الآخر رغم أنه لم ينقضه فهذا هو المحرم، وهذا الحكم هو منتهى الإنسانية والرحمة إذ لا يجوز ان ننقض العهد معهم رغم أننا يمكننا بنقض العهد أن ننتصر عليهم ونصل للأهم في مستوى الفهم العرفي!
أما الخدعة فليست في حالة وجود العهد والمعاهدة بل هي في حالة الحرب وشبهها حيث لا يوجد عهد بيننا وبينهم، ومن ذلك ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) مع عمرو بن ودّ العامري إذ قال الأمير له: (ما كنت لأقاتل اثنين) ونظر الأمير إلى جهة خلف عمرو! فظن عمرو أن أحد أصحابه قد جاء ليُعينه ويساعده فنظر إلى الخلف فانتهزها الأمير (عليه السلام) فرصة فضربه ضربة قطع بها رجله! وقال (الحرب خدعة).
والخدعة في الحرب(23) جائزة لأن الحرب مبنية على ذلك ولا عهد بين الطرفين، عكس الغدر.
الغدر مع الكفار والبغاة المسلمين وغيرهم
2- أن البحث يمكن تعميمه، ببعض أدلته، للغدر مع غير الكفار أيضاً، كالغدر مع الناصبي أو مع البغاة أو غيرهم فانه حرام ما دمنا قد أبرمنا عهداً معهم.
3- إن البحث يمكن تعميمه أيضاً، ببعض أدلته، لغير الجانب العسكري أيضاً، فكما يحرم نقض العهود العسكرية يحرم نقض العهود الاقتصادية أو الحقوقية والثقافية ونظائرها، مع الدول الأخرى حتى إذا استكشفنا فوائد كثيرة تعود لنا من نقض العهد.
وذلك كله يكشف عن منتهى إنسانية الإسلام والشريعة وابتنائها على القيم الأخلاقية والمثل العليا بالدرجة الأساس وعلى الرحمة حتى بالعدو مهما كان وترجيح الالتزام بالكلمة والعهد على كافة المصالح الأخرى، ونكتشف منها أيضاً أن (الغاية لا تبرر الوسيلة) في منظار مقاصد الشريعة أبداً!
من فوائد مباحث مقاصد الشريعة:
تغيير الاتجاه العام للتقنين
إن مباحث مقاصد الشريعة قد تغيّر – إذا أذعنّا بها - الاتجاه العام لعملية الاستنباط الفقهي أو للتقنين في مجالس الأمة والبرلمان أو في مرحلة وضع اللوائح والنظم للوزارات والشركات؛ فكما أن الشاكلة النفسية، من قسوة وعنف نفسي أو لين ورحمة نفسانية أو تأنٍّ وعجلة أو غيرها تحدّد ذلك كله، كذلك الشاكلة الفكرية والبُنى والأسس والأرضية العامة التي ينطلق منها المقنن في مجلس الأمة أو واضع النظم واللوائح في الوزارات أو الشركات أو في الأحزاب والمنظمات أو حتى المؤسس للعادات والتقاليد(24) في العشائر أو العوائل أو الشعوب والأمم، أو حتى المشجِّع عليها.
فلو كانت الشاكلة النفسية والفكرية على المركزية الاستبداد والسلطوية والعنف والشدة فمن الطبيعي أن يكون واضع القانون أو جاعل النظم أو مؤسس العادات والتقاليد، حريصاً على تقييد حريات الناس بإضافة قيدٍ ثم قيدٍ آخر ثم قيود متتالية على مختلف مناحي حياتهم.
وذلك على العكس ممن شاكلته النفسية والفكرية كانت على الشوريّة والحرية والحب والرحمة والرفق بالناس فانه من الطبيعي أن يحاول تخفيف القيود عنهم وإطلاق الحريات لهم وفسح المجال أمامهم للحركة والانطلاق نحو آفاق التقدم والازدهار والرقي والكمال ولذا قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(25).
نماذج من القوانين الكابتة في الحكومات السلطوية المعاصرة
ومن هنا نجد أن الدول والحكومات السلطوية ميّالة إلى وضع قوانين كابتة للحريات وزيادتها باستمرار، وهذا بعض الأمثلة:
1- منع الناس من بناء الأراضي الموات أو زراعتها أو بناء المعامل والمصانع والمنازل عليها، إلا بإجازة من الدولة ورخصة وبقيود مشددة مع أن "الْأَرْضَ لِلَّهِ وَ لِمَنْ عَمَرَهَا"(26).
2- منع الناس من إعادة بناء دارهم أو بناء غرفة أخرى في منزلهم إلا بإجازة ورخصة، في الكثير من الدول!.
3- منعهم حتى من هدم حائط أو أي تغيير داخلي إلا بإجازة في بعض الدول!.
4- منع أصحاب الشركات والمحلات من نصب لوحة أو لافتة أو قطعة على المحل تحمل اسم المحل أو الشركة إلا بإجازة من البلدية في العديد من الدول! والأغرب أنها تفرض عليهم ضريبة على ذلك! كما تفرضها على البنود السابقة أيضاً!.
منع تربية الماشية والطيور في المنازل!
5- والأغرب أن بعض الدول المستبدة(27) والديمقراطية(28) سنّت قانوناً بمنع اقتناء الدواجن، كالدجاج والشياة وشبهها، في البيوت والمنازل! مما يعني حرمان الملايين من العوائل من البيض المنتج داخل البيت أو من توالد الدجاج والشياة وتكاثرها فيحرمها من مصدر رزق ومن مصدر متعة أيضاً.
والسبب: رغبة الشركات الكبرى في احتكار إنتاجها
ومن الطبيعي أن يفلسف السلطويون قراراتهم والقيود التي يضعونها على الناس والتي يزيدون منها يوماً بعد يوم، بفلسفة وعلة تبدو مقبولة لعامة الناس كي لا يتململ الناس منهم أو ينتفضوا ضدهم أو يسقطوهم في الانتخابات أو بالمظاهرات والإضرابات.
فمثلاً – وحسب العديد من أهل الخبرة – فإن الباعث الأساس لمنع الناس من اقتناء الدواجن، هو الاستجابة لضغط الشركات الكبرى التي تنتج اللحوم والبيوض والألبان ومشتقاتها وتبيعها للناس وذلك لأن ذلك المنع يزيد من الحاجة إلى تلك الشركات ويزداد الطلب على شراء منتجاتها بشكل هائل عما لو كانت مئات الألوف من الأسر تمتلك الدواجن وتحصل على قسط وافر من حاجتها إلى اللبن أو البيض أو اللحم منها!
لكن الفلسفة الظاهرية: منع انتشار الأمراض!
ولكن هل يعقل أن تفلسف الحكومة أو المشرّع بذلك؟ كلا وألف كلا.. بل المخرج الشيطاني الذي سوّقوا له عبر دراسات مدفوعة الثمن من قبل كان هو: أن اقتناء تلك الدواجن يسبب أمراضاً لأهل المنزل! فضرورات الأمن الصحي اضطرتنا لسنّ تلك القوانين حفاظاً على صحتكم!
والغريب أنهم في الوقت الذي يمنعون فيه الناس من اقتناء الدواجن فانهم يجيزون لهم اقتناء الكلاب والقطط مع أن المكروبات والفايروسات والأمراض التي يمكن أن تنقلها الكلاب والقطط لأهالي المنزل – خاصة وأن كثيراً منها تعيش داخل المنزل – أكثر بكثير من الأمراض التي يمكن أن تنقلها الدواجن، خاصة وأنها تعيش عادة في الحديقة الخلفية للمنازل!
أساس مشكلة الاستبداد في رضا الجماهير والنخبة به!
ثم إن المشكلة في القوانين الكابتة للحريات، والتي تزداد يوماً بعد يوم بألف عذر وعذر، ليست – بالأساس - في المنطلقات السلطوية والشاكلة الفكرية والنفسية للحكام والمشرِّعين والرؤساء وذوي السلطات، بل هي – قبل ذلك – في الكثير من الناس والجماهير وأعضاء الأحزاب وأفراد العشيرة والكثير من طلاب الحوزة أو الجامعة، التي تتقبل هذه القيود بل وتتفاعل معها بل وتكون في كثير من الأحيان أشد حماساً في الدفاع عنها من المشرعين بأنفسهم!
فلاحظوا مثلاً قوانين الحدود الجغرافية، وقوانين الجوازات والجنسية، وقوانين الضرائب والمكوس، وقوانين منع إحياء الأراضي واستصلاحها، وقوانين تقييد الدخول والخروج والإقامة والتجارة والاستيراد والتصدير وغيرها، فان أشد الناس دفاعاً عنها هم الكثير من المثقفين والكثير من الطبقة المستضعفة والكثير ممن تسحقه تلك القوانين بعجلاتها الرهيبة!
والسر الكامن وراء ذلك هو أنه قد جرى غسيل مخ شامل للناس طوال عشرات السنين وتطوّعت الألوف من الأقلام المأجورة والمستأجرة لإقناع الناس والمثقفين والطلبة بالضرورات الداعية إلى ذلك من ضرورات أمنية إلى أخرى اقتصادية إلى ثالثة صحية وغيرها!
وذلك كله إضافة إلى أن الإنسان بطبعه يألف ما فتح عينه عليه بل وينفر أو يخاف من غيره وإن كانت فيه حريته وتقدمه وازدهاره.. ولنتصور إنساناً ولد في السجن ولم يعرف غير السجن وحدوده ونوع الطعام الذي يقدمه له السجان وشتى القوانين الثابتة، فانه قد لا يتصور وجود عالم رحب وقوانين سمحة تغاير ما ألِفه، بل لعله لو علم بذلك خاف من الضياع فيه – في العالم الرحب الواسع الكبير - وفضّل السجن الصغير المأمون المعلوم الأبعاد على العالم الكبير الفسيح الخَطِر المجهول الأبعاد.
ولذلك كان الكثير من العبيد الذي حررهم أسيادهم في أمريكا، يعودون بطوع إرادتهم بل وبإصرار إلى أسيادهم ليستعبدوهم من جديد وذلك لأنهم لم يتعلموا بل كانوا لا يمكنهم العيش بدون سلطة مركزية وقوة قاهرة تؤمِّن لهم حياة رقٍّ مستقرة خالية من التحديات والمخاطر، إذ انه يضمن فيها لقمة العيش والسكن عكس ما لو تحرّر فأين يسكن؟ وماذا يأكل؟ وكيف يعمل؟
كتلة التحرير من القوانين الكابتة في مجلس الأمة
ولذلك كله ارتأى السيد الوالد في موسوعة الفقه أن من الضروري تشكيل كتلة في مجلس الأمة باسم كتلة التحرير قال: (ثم لا يخفى أن أوعية الحرية، كما تحفظ الحرية، فانها تنمي الحرية إذ كل من الحرية والديكتاتورية قابلة للنمو، كالأشجار القابلة لها، مثلاً المستبد يحدد أسفار الناس، ثم بنائهم للعمارات، ثم كتابتهم، ثم إبدائهم للآراء، ثم مداخلهم للمال ثم مصارفهم له إلى غير ذلك، وبالعكس أوعية الحرية تحررهم عن الضرائب الباهظة، وعن قيود سفرهم وحضرهم، وزواجهم وبنائهم، وغير ذلك..
ولذا كان من الضروري في الحكومات (الاستشارية) وجود كتلة في (مجلس الأمة) للتحرير، شأنها سن القوانين المحررة تدريجياً... وذلك بالإضافة إلى أنه 1- عمل إنساني يحكم به العقل، 2- هو أمر شرعي واجب أ- لقاعدة الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم(29)، فكل سلب لحرية من حرياتهم، إسقاط لجانب من التسلط على أنفسهم وأموالهم، فهو منكر تجب إزالته، ب- ولقاعدة لا يُتوى حق امرء مسلم(30)، ج- ولأن العقل إذا حكم فقد حكم به الشرع لتلازمهما في سلسلة العلل – كما قرر في الأصول – إلى غير ذلك من الأدلة)(31).
وكما نرى فانه (قدس سره) اعتبر القوانين الكابتة منكراً تجب إزالته كما أن شرب الخمر والزنا والسرقة هي من المنكرات!
والحاصل: انه كما يجب تحرير البلاد من الاستعمار الخارجي العسكري ومن أمثال إسرائيل الغاصبة، كذلك يجب تحرير البلاد من القوانين الكابتة التي وضعها المستبدون وأياديهم وكان عليهم أن يحاربوا قوانينهم الجائرة قبل ومع محاربتهم للدول المستعمِرة! وذلك لأن الذي سلّطهم علينا هو إعراضنا عن قوانين القرآن الحيوية ومنها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)(32) وقوله (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(33) و(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ)(34).
لجنة التحرير من القوانين الكابتة في الأحزاب والعشائر!
أقول: والمسألة عامة سيّالة، فإن من الواجب أيضاً تشكيل لجنة في كل حزب وفي كل عشيرة وفي كل نقابة واتحادية وفي كل مؤسسة كبيرة من مؤسسات المجتمع المدني، تكون مهمتها ترصُّد القوانين والنُّظم الكابتة والعادات والتقاليد والأغلال المجحفة في حق العامل أو الموظف أو المزارع أو العضو أو الزوجة أو البنت أو الأب أو الابن، ثم إلغاؤها وإزالتها فإن (العافية) تبدأ بخطوة تليها خطوة فخطوات.
وحيث أن من الواضح أن إلغاء كثير من القوانين لا يمكن أن يكون دفعه واحدة لما يستلزمه أن كان بدون إعداد واستعداد، من الاضطراب أو الفوضى أو سوء التعامل، لذلك كانت مهمة اللجنة هي (سنّ القوانين المحرِّرة تدريجاً) كما قاله قدس سره لكن بشرط أن لا يُتّخَذ ذلك ذريعةً للتملص في نهاية المطاف من إلغاء القوانين الكابتة أو للتباطؤ أكثر مما تستدعيه الضرورة القصوى. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق