بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)([1])
من بصائر النور في الآية الشريفة:
الرحمة للجميع تكويناً وتشريعاً
البصيرة الأولى: (الرحمة)، حسب المستفاد من الآية الشريفة وغيرها، هي مع (الحكمة) المنشأ للتشريعات الإلهية كما أنها وراء عالم التكوين أيضاً فقد قال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)([2]) وقال: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)([3]) وفي الحديث القدسي"قل لعبادي لم أخلقكم لأربح عليكم و لكن لتربحوا علي"([4]) ولا يستثنى من ذلك إلا من رفض رحمة الله تعالى بملأ اختياره بأن كان من الذين (اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)([5]) و(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)([6]).
والبحث عن ذلك وعن فقه هذه الآيات الكريمة وغيرها يستدعي دراسة مستقلة.
وفي الآية الشريفة: فإن رحمة الله أنتجت في عالم التكوين أن تكون شاكلة الرسول (صلى الله عليه وآله) النفسية في أصل خلقته شاكلةً لينةً (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وقال تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)([7]) كما أنتجت في عالم التشريع الأوامر الثلاثة (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وغيرها.
وقد ورد في الروايات أن الرسول (صلى الله عليه وآله): "كَانَ إِذَا فَقَدَ الرَّجُلَ مِنْ إِخْوَانِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَأَلَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ غَائِباً دَعَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ شَاهِداً زَارَهُ وَإِنْ كَانَ مَرِيضاً عَادَهُ"([8]) مع أن ذلك صعب جداً بل أصعب من الصعب فإن القائد يتحمل مسؤوليات كثيرة مرهقة، خاصة إذا كان هو النبي الذي اضطلع بمهمة الرسالة وإرساء دعائم دين جديد شامل من جهة، وبمهمة إدارة دولة فتية من جهة، وبمهمة قيادة الجيوش للدفاع عن بيضة الإسلام من جهة ثالثة، فكيف يسهل أن يتتبع الشخص كافة الحاضرين ويكتشف من غاب منهم ومتى غاب ثم يزوره أو يعوده؟
معضلة تدافع مادة العفو وهيئة الأمر
البصيرة الثانية: أن مادة (العفو) في قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ) قد يتوهم مناقضتها لهيئتها فإن مفاد الهيئة حسب ظاهر الأمر هو الوجوب أما المادة وهي العفو فإن مقتضاها هو الحرية والاختيار والجواز.
وتوضيح ذلك: أن معنى العفو هو أن الأمر بيدك فلك أن تعفو ولك أن لا تعفو كما في ولي الدم فإن ولي المقتول ظلماً له أن يقتص وله أن يأخذ الدية وله أن يعفو، وولي المقتول خطأً مخيّر بين الأخيرين، ومعنى ذلك أن العفو خيار اختياري وليس قسرياً جبرياً، فكيف يجتمع الأمر مع العفو؟ وعليه فلا مناص من التصرف في ظاهر الأمر بحمله على الندب ليكون الحاصل هو أن العفو مستحب مندوب إليه وليس بواجب.
وتضادّ المادة والهيئة أو المتعلِّق والمتعلَّق يظهر بوضوح في الأمثلة التالية:
أ- لو قال: (أهن العادل) فإن الأمر بالإهانة يتدافع مع كون متعلَّقه هو العادل.
ب- لو قال: (ولي الأمر هو الظالم المستبد) فإن ولاية الأمر لا تتجانس مع منحها للظالم المستبد، بل إن رب الأرباب عندما منح الولاية لأشخاص فانه منحها لمن تميّزوا بصفات استثنائية أهلّتهم لذلك، قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([9]) فكيف مع ذلك يعقل أن يكون الظالم هو ولي الأمر؟
وبذلك نعرف عمق التناقض الذي وقع فيه أهل العامة إذ اعتبروا الحاكم وإن كان جائراً ولياً للأمر من قبل الله تعالى، وهل ذلك إلا التناقض بعينه؟ وهل هو إلا اتهام لله تعالى في عدله وحكمته؟
الجواب:
ولكن يمكن الجواب عن ذلك (التضاد بين مادة العفو وهيئة الأمر) بوجهين:
العفو اختياري مستحب بعنوانه الأولي وواجب بالعنوان الثانوي
الأول: أن (العفو) حسب مقتضاه الأولي اختياري جائز لكنه يمكن أن يتحول إلى واجب بعنوان ثانوي طارئ، وذلك كما أن إنفاق المال زائداً على الخمس والزكاة، مستحب لكنه قد يجب بعنوان ثانوي كما لو كان الفقير على وشك الموت فانه يجب الإنفاق عليه، بل وكذا لو أمر الإمام (عليه السلام) بأمر ولائي لضرورة من الضرورات، بأن يدفع المكلفون الأكثر من الخمس والزكاة فإن الإنفاق المستحب بعنوانه الأولي يتحول حينئذٍ إلى واجب، كما ورد في رواية معتبرة أن الإمام الجواد (عليه السلام) فرض الخمس في إحدى السنين على الشيعة مرتين.
وكما في النفقة على الزوجة فإن الإنسان قبل أن يتزوج لا تجب عليه النفقة لكنه إذا تزوج وجبت عليه، بل أنه لو لم يبذلها، حتى في صورة العجز، كانت ديناً عليه.
و(العفو) بعنوان الأولي مستحب لكن مولى الموالي ومالك الملوك والملكوت له أن يعتبره واجباً على القائد أو القادة أو عامة الناس في صورة من الصور وحالة من الحالات أو أكثر.
الثاني: أن (المعفوّ عنه) غير (العفو) وقد يكون المعفو عنه مما اختياره بيد الإنسان ولا يكون العفو بنفسه مما اختياره بيده، والفرق واضح فإن العفو هو المتعلِّق والمعفو عنه هو المتعلَّق والفرق بينهما كبير، ويوضحه: الفرق بين الملكية والمملوك فإن الإنسان المالك لهذه الدار مثلاً له المالكية وهذه الدار مملوكه له وعند التدقيق نجد انه مالك للدار ولكنه قد لا يكون مالكاً لمالكيته للدار فحيث أنه مالك للدار له أن يتصرف فيها ولكنه قد لا يكون مالكاً لمكليته للدار فليس له أن يُسقطها بالإعراض مثلاً.
وقد فصّلنا البحث عن الفرق بين الملك والمملوك والجعل والمجعول والإنشاء والـمُنشَأ في مباحث الحقوق من فقه البيع وأوضحنا أن العلاقة ليست علاقة المصدر باسم المصدر ولا أنهما شيء واحد يختلف باختلاف الاعتبار بل العلاقة هي علاقة السبب بالمسبب أو العلة الـمُعِدة بالـمُعَدّ له. فراجع.
مقاصد الشريعة في باب التزاحم: الرحمة والليّن الأساس في المتزاحمات
سبق أن مقاصد الشريعة وإن لم يمكن استثمارها مباشرةً في عملية الاستنباط للأحكام الشرعية لكنها تصلح كعوامل مساعدة عضيدة في عملية الاستنباط كما سبقت بعض الثمرات والعناوين، ونضيف:
إن تشخيص مقاصد الشريعة أمر جوهري في باب التزاحم في مختلف مفاصل الحياة، بل إن ذلك يعدّ من أعقَدِ ما يواجهه كل إنسان في شتى أبعاد حياته حيث قد تتزاحم الأضرار والمنافع أو الاضرار والاضرار المضادة أو المنافع والمنافع المقابلة عند المفاضلة والموازنة بين قرارين صعبين أو حتى عاديين في شأنٍ من شؤون الحياة سواء في بعدها الاقتصادي أم الاجتماعي أم غير ذلك.
ولنضرب لذلك عدداً من أهم النماذج في فقه الدولة وفي فقه المجتمع.
1- دوران الأمر بين التعزير أو السجن أو الغرامة وبين الخدمة التطوعية!
إن المجرم، سواء أكان مجرماً حقاً أم كان متهماً بالجريمة، وسواء أكانت الجريمة جريمة في منطق الشرع والإنسانية (كجريمة القتل والجرح والسرقة والاختلاس والارتشاء والاغتصاب وشبه ذلك) أم كانت جريمة في منطق القانون الوضعي غير الإسلامي وغير الإنساني (كجريمة اجتياز الحدود دون جواز وجنسية وفيزا وشبه ذلك وجريمة إحياء أو بناء الأراضي الموات دون استئذان من الدولة وشبه ذلك) يواجه هذا المجرم بعقوبة تتراوح بين التعزير والسجن والغرامة المالية وشبه ذلك([10])، ولكننا إذا انطلقنا من منطلق أن الرحمة هي من مقاصد الشريعة الأساسية فانه ستنفتح أمام الفقيه أو الحاكم المنتخب من قبل الناس أو حتى مطلق الحاكم إذا كان يتمتع ببعض الحكمة، خيارات أخرى تضاف إلى الخيارات العنيفة الأولى، ولعلها أحياناً، بنعومتها، تكون في المدى الطويل بل حتى المتوسط والقريب أكثر تأثيراً وفاعلية من تلك العقوبات الشديدة.
ومن الخيارات الأخرى: الخدمة التطوعية الإلزامية.
ومن الخيارات الأخرى: التعلم أو التعليم التطوعي الإلزامي، والمقصود من التطوعي أي ما كان بلا أجر فلا يتناقض مع الإلزام بها.
وذلك يعني أن للقضاء أو للحكومة أو أية جهة ذات علاقة، أن تفرض على من ارتكب بعض الجرائم، وليس كل نوع منها، عقوبة الخدمة التطوعية لفترة محددة طويلة أو قصيرة في ميتم أو مشفى أو مدرسة أو مسجد أو أية مؤسسة إنسانية أو دينية أخرى.
فمن ارتكب مخالفة مرورية أو دفع رشوة أو ارتشى أو عطّل المراجعين دون وجهٍ أو شبه ذلك، يمكن أن يفرض عليه، عقوبةً له بدل السجن، مثل هذه الخدمة بمدة تتناسب مع حجم جريمته أو يفرض عليه أن يحفظ القرآن الكريم أو بعضه أو الصحيفة السجادية أو أن يدرس مباحث في علم الأخلاق أو حتى في الطب أو الهندسة أو المحاماة أو في تعلم وإتقان قيادة السيارات بشكل أفضل وغير ذلك.
ولقد سلكت بعض الدول المتطورة ذلك المسلك وكانت النتائج بشكل عام إيجابية مثمرة.
ومن الأسباب الهامة وراء ذلك: أن الخدمة التطوعية، والتعلم المرشّد والمختار بعناية تتناسب مع شخصية ذلك العاصي أو المجرم، هي في الواقع دورة تربوية قد تعيد صقل شخصيته وصياغة أولوياته إضافة إلى أنها تصب طاقته في بناء المجتمع وخدمته أو في تنمية كفاءاته التي تعود إلى خدمة المجتمع من جديد.
وذلك هو ما يمكن أن نطلق عليه بتزاحم (التأديب مع التحبيب) أو (التأديب في ضمن معادلة التحبيب) أو (العقوبة في قالب المثوبة).
2- الدوران بين السجن المرفّه أو السجن المشدّد
إن السجين سجين بجسمه وليس سجيناً بحقوقه ذلك أن حقوقه المشروعة لا يجوز انتهاكها أبداً، والأدلة لا تدل على أكثر من أنه يسجن في الموارد المحدودة شرعاً، كالمسجون في الدَّين أو المتهم، ولكن لا يجوز فيما عدا ذلك مصادرة حقوقه الإنسانية العامة والخاصة، بل أن بعض الفقهاء استظهر جملة من المسؤوليات تقع على كاهل الحاكم الشرعي تجاه السجين وعليه أن يغطي نفقاتها من بيت المال.
ولعل بعض ما استنبطه السيد الوالد (قدس سره) في هذا الحقل يعود للعناوين الأولية كأصالة الحرية والناس مسلطون وشبه ذلك وبعضه يعود للعناوين الثانوية ومراعاة المصالح العامة والعناوين المقدمية كالمحافظة على سمعة الإسلام والمسلمين وشبه ذلك، وبعضه يعود إلى (ولاية التهذيب والتأديب) التي ارتأى جمع من الفقهاء أنها ثابتة للفقيه الجامع للشرائط.
فمثلاً ذهب السيد الوالد في كتاب (نظرة الإسلام إلى السجين) إلى أن من الواجب تكفل الحقوق التالية، وغيرها، للسجين:
الخروج من السجن في الأعياد ولزيارة المرضى وحضور الأعراس!
قال: (يسمح للسجين بالخروج لحضور الأعياد الدينية وسائر المراسيم المهمة كيوم وفاة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله)، وسائر المعصومين (عليهم السلام)، كما يسمح له بحضور زيارة مرضاه وتشييع جنائزهم وحضور أعراسهم ونحو ذلك مع الكفيل أو نحوه.
فعن الجعفريات بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام): "أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ يُخْرِجُ أَهْلَ السُّجُونِ مِنَ الْحَبْسِ فِي دَيْنٍ أَوْ تُهَمَةٍ إِلَى الْجُمُعَةِ فَيَشْهَدُونَهَا وَيُضَمِّنُهُمُ الْأَوْلِيَاءَ حَتَّى يَرُدُّونَهُمْ"([11]).
وعن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: "عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَ الْمَحْبُوسِينَ فِي الدَّيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْعِيدِ إِلَى الْعِيدِ، فَيُرْسِلَ مَعَهُمْ فَإِذَا قَضَوُا الصَّلَاةَ وَالْعِيدَ رَدَّهُمْ إِلَى السِّجْنِ"([12]) إلى غيرهما من الروايات([13]).
السجن بالأقساط، وللسجين اختيار مكان السجن!
وقال: (للسجين أن يطلب نقل سجنه من مكان إلى مكان آخر، إذا لم يكن محذور للحاكم في ذلك، مثلاً: إن كان سجين في بغداد فمن حقه أن يطلب نقله إلى البصرة أو بالعكس، فإن كلّي السجن من حق الحاكم لا خصوصياته.
بل احتملنا في(الفقه) صحة السجون الأقسَاطية، والسجن في بيت أو نحوه إذا أراد السجين ذلك ولو في دار نفسه إذا لم يكن فيه تكليف زائد على الدولة، أو كان السجين بنفسه يتحمل التكاليف الزائدة، هذا مع ضمان بقائه بحيث لا يمكن هروبه كما إذا وعد بأن لا يهرب والحاكم يعلم أن كلامه صحيح، إلى غير ذلك).
مكافأة السجين والأجرة العادلة
وقال: (المكافأة العادلة، إذا عمل السجين أعمالاً يدوية أو علمية كالتدريس أو ما أشبه، يُكافأ مكافأة عادلة وفق النظام في الخارج، ويسمح له بإنفاق شيء من مكسبه على حاجاته غير الممنوعة وإرسال جزء لعائلته، كما للمؤسسة أن تحتفظ بجزء من مكاسبه له إذا أراد ذلك فيتسلمها عند الخروج، سواء عندها أو عند مصرف من المصارف).
إخبار عوائل السجناء بأخبارهم
و: (خبر الاعتقال وما أشبه، يلزم إخبار أُسرة السجين بحبسه ابتداءً، كما انه يلزم إخبارهم بمرض السجين أو موته أو نقله إلى سجن آخر أو ما أشبه ذلك.
كما يلزم إخبار السجين نفسه بموت أحد أقربائه أو مرضه، وقد تقدم انه يلزم الإذن للسجين بزيارة المريض وتشييع القريب إلى غير ذلك مما سبق.
وإذا أُريد نقله إلى مكان آخر يجب أن يكون النقل بواسطة مريحة، والمصارف على نفسه إن أراد هو النقل وكان قادراً على المصارف وإلا فعلى إدارة السجن).
الدراسة في السجن
و: (يلزم إعداد مستلزمات الدراسة ومقوماتها بالنسبة إلى الدارسين والأميين والصغار وما أشبه حتى لا تضيع أوقاتهم بدون دراسة لمن يرغب فيها).
و: (يلزم تهيئة الفرص أمام كل سجين بتقديم شكاواه وما يطلبه ويريده في كل يوم وفي كل وقت أراد ذلك، إلى مدير السجن أو إلى المفتش الخاص أو إلى غيرهما ممن يهمه الأمر.
كما أنه يجب إخبار المسجونين بجواز الاتصال بأسرهم وأصدقائهم بمراسلة أو زيارة أو نحو ذلك.
وإذا جاء زائر إلى السجين فلا يحق لإدارة السجن الإنصات إليهما أو جعل حاجز من زجاج أو ما أشبه فاصلا بينهما، من غير فرق بين أن يكون المسجون من أهل البلد أو من غير أهل البلد.
كما أنه إذا أراد الاتصال بمحام أو جمعية خيرية أو هيئة أو ما أشبه يجب تلبية طلبه، نعم إذا كان المسجون خطراً - وذلك حسب تشخيص الحاكم الشرعي وحُكمِهِ كتابةً - كان لإدارة السجن تحديده في بعض الاتصالات بالقدر الذي قرره الحاكم في كتابة رسمية).
المكتبة العامة وحرية الوصول لوسائل الاعلام
و: (المكتبة العامة ومتابعة الأنباء، يسمح للسجناء بالإطلاع على الأنباء بمختلف وسائلها.. كالصحف والمجلات والإذاعة والتلفاز والنشرات والفيديوهات وما أشبه.
كما انه يلزم إيجاد مكتبة حافلة لجميع السجناء رجالاً ونساءً وأطفالاً بحيث تكون مزودة بكل ما يحتاجونه من الكتب.
وإذا احتاج المسجون إلى كتاب آخر ليس في المكتبة يلزم على إدارة السجن تحصيل الكتاب له سواء بماله إن كان له مال أو بمال إدارة السجن).
إقامة السجناء للشعائر الدينية والحج وزيارة المشاهد
و: (يلزم السماح لكل مسجون بممارسة شعائره الدينية من صلاة وصيام وما أشبه، وهكذا أن يكون عنده القرآن الكريم والكتب الدينية ككتب الأدعية والزيارات وما أشبه.
كما أنه إذا أراد السجين ممثلاً دينياً وعالم دين يسأله ويرجع إليه يلزم تلبية حاجته.
ويسمح للمسجونين بالقيام بصلاة الجماعة سواء أمَّ بعضهم بعضا أم جاء الإمام من الخارج، وفي أيام شهر رمضان يلزم أن يحضر لهم الطعام فطوراً وسحوراً بالنسبة إلى الصائمين، وفي أيام الحج يلزم السماح للمستطيع منهم بالحج مع أخذ كفالة أو ما أشبه لرجوعه إلى السجن.
كما يلزم السماح له بوفاء نذره من زيارة بعض المراقد المقدسة مع أخذ الكفيل أو ما أشبه ذلك، وكذلك إذا كان نذره الاعتكاف.
وإذا أراد مكاناً انفرادياً لنفسه لمطالعة أو حفظ أو عبادة أو ما أشبه وجب توفيره له.
وهكذا في غير المسلم إذا كانت له شعائر خاصة فيلزم السماح له بأداء شعائره أيضاً).
و: (يسمح لتلاميذه إذا كان مدرِّسا، ولرواد منبره إذا كان خطيباً، في الحضور عنده لإلقاء الدرس عليهم أو إلقاء المواعظ، وكذلك يسمح لمن يتباحثون معه بارتياد السجن للمباحثة بشرط عدم إيذاء الآخرين).
توفير مقومات الراحة النفسية للسجين
إذا كان السجين يمرّ بأزمة نفسية يلزم السماح له بمراجعة الطبيب النفسي، وكذا إذا لم يكن يشعر هو بذلك أحضرت له إدارة السجن الطبيب النفسي، واذا احتاج لأن ينقل إلى المستشفى للعلاج نقل إليه، كما يلزم توفير ما يوجب الارتياح النفسي للسجين وعدم ما يسبب الانزعاج وما أشبه).
و: (اتخاذ المحامي، إذا أراد السجين أخذ محام للدفاع عنه كان له ذلك، وهكذا ان احتاج إلى مترجم، ثم إذا كان له مال صرف من مال نفسه وإلا فالصرف من مال دائرة السجون).
حرمة التعذيب مطلقاً
و: (لا للتعذيب مطلقاً، يمنع منعاً باتاً العقوبات اللاإنسانية والقاسية بالنسبة إلى السجناء ولو كانت بذريعة التأديب، فلا يجوز وضع السجين في زنزانة منفردة، ولا في مكان مظلم، ولا ملء الزنزانة بالماء، ولا ربطه بالحائط، ولا ما أشبه ذلك من أساليب التعذيب..
كما يمنع مطلق وسائل الإكراه في أخذ الاعتراف، من السلاسل والأغلال والتثقيل بالحديد وغيرها).
و: (يلزم أن يكون هناك مفتش عن أحوال السجناء، وأنه هل تطبق القوانين المرتبطة برعاية السجين في كل النواحي المذكورة أم لا؟.
ومن الضروري أن لا يكون المفتش من نفس خط إدارة السجن لإمكان تواطئهم على السجين، بل يكون من خط آخر كحزب معارض أو ما أشبه ذلك..
وإذا رأى المفتش ثغرة وعلم بأن إدارة السجن لا تهتم بالأمر رفع الأمر إلى الجهات العليا لإصلاح تلك النواقص).
ليس تأديب السجناء من صلاحية إدارة السجون
لا يحق لإدارة السجن تأديب السجناء، بل اللازم عند إساءتهم مراجعة الشرطة، فيلزم أن يكون فصل بين السجن والشرطة.. وكأن السجين إنسان حر في خارج السجن فكيف كان يُعامَل معه حينذاك كذلك يعامل معه داخل السجن.
ولا يحق لإدارة السجن بإعطاء الصلاحية لبعض السجناء لتأديب الآخرين.
نعم لا بأس بتدريس بعض السجناء بعضهم الأخلاق أو ما أشبه من العلوم الدينية والدنيوية، أو عقدهم حلقات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها.. يديرها بعض السجناء للآخرين).
لا يجوز فرض ملابس خاصة
و: (ليس من حق إدارة السجن الضغط على السجين بأن يلبس ملابس خاصة وإنما هو حسب اختياره).
و: (يلزم توفير الشروط الصحية للسجناء، من حيث السعة والهواء والإضاءة والتدفئة والتبريد والأدوات الصحية حتى لقضاء الحاجة مع لياقتها ونظافتها، وتهيئة حمامات كافية يراعى فيها مقتضيات الفصول السنوية، فيتوفر فيها الماء الحار والماء البارد وما أشبه، ويكون الذهاب إلى الحمام حسب حاجة ورأي السجين نفسه، واللازم صيانة هذه الأماكن ونظافتها باستمرار من قبل الدولة.
ومن اللازم أيضاً أن يتوفر للسجين ما يلزمه من الأطباء والأدوية وأن يسهل عليه مراجعة أي طبيب شاء حتى في خارج السجن).
حرية إجراء المعاملات والقيود
و: (حرية السجين في إجراء جميع المعاملات، من البيع والشراء والرهن والإجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والحوالة وحتى الكفالة في صورها الممكنة، وغيرها، سواء في داخل السجن أو خارجه، بواسطة الهاتف أو عبر الوكيل أو ما أشبه.
و: (ممارسة عقد النكاح أو الطلاق بأقسامه المختلفة، لنفسه أو غيره ممن كان وكيلاً عنه أو وليّاً عليه، سواء بالنسبة إلى السجناء أو الخارجين عن السجن، ويصح كونه شاهد الطلاق أو النكاح حيث المستحب الاشهاد فيه، وكذلك بالنسبة إلى كونه وصيا أو موصيا أو متوليا لوقف أو ما أشبه ذلك.
و: (ممارسة الخطابة والتعليم والكتابة بمختلف أشكالها وحتى للجرائد والمجلات.. وإلقاء الخطب والمحاضرات وعرض التمثيليات لمن في داخل السجن أو خارجه، بواسطة الراديو أو التلفزيون أو ما إلى ذلك).
و: (ممارسة المهن كالنجارة والحدادة والحياكة والنقش وصنع المصنوعات اليدوية وغيرها، وما أشبه).
و: (توفير الأماكن الخاصة للرياضة، بالاضافة إلى ساحة واسعة يستطيع السجين من خلالها التمشي).
و: (يلزم السماح له بالاهتمام بهواياته الشخصية كتعليق اللوحات والزخرفات وجعل المزهريات وما أشبه، وحتى الحيوانات الأليفة وغير الأليفة مما تحفظ في الأقفاص، كالهرة والدجاجة والإوزة وطيور الحب والبلابل، بل وحتى مثل الفهد وما أشبه ذلك، مع مراعاة الموازين).
اللقاء بالعائلة
و: (يلزم أن يسمح للسجين بزيارة عائلته له في أيّ وقت شاؤوا، وكذلك بالنسبة إلى المرأة زيارة زوجها لها، كما يسمح للسجين ببقاء عائلته معه).
ومن ذلك كله نكتشف أن الاتجاه العام للفقيه لو كان هو مسلك الرحمة واللين انطلاقاً من إحاطته بمذاق الشريعة السمحاء وبإنطلاقه مِن مثل الآية الشريفة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أنتج ذلك كله في حقل تأطير القوانين أو تطبيق أي كلي منها على هذا المصداق أو الصنف أو كيفية استنباطها بعناوينها الأولية أو الثانوية أو الولائية (الولوية) منهجية عامة شاملة في حقوق السجين وغيره، عكس ما لو كان الاتجاه العام له هو الشدة والقسوة والعنف وشبه ذلك، وههنا يتجلى بالضبط دور وموقع التدبر في مقاصد الشريعة السمحاء. فتأمل
3- صلاة الجماعة الموحدة في المشاهد المشرفة، أو المتعددة
إن من البدع التي أسسها الوهابيون التوحيد القسري لصلاة الجماعة في الحرم المكي وفي المدينة المنورة.. وذلك على خلاف السيرة المستمرة للمسلمين شيعةً وسنةً على امتداد التاريخ في مكة والمدينة والنجف وكربلاء وفي مشهد وقم وغيرها من المشاهد المشرفة، فقد كانت تقام في المسجد الحرام صلوات جماعة متعددة وكان في فترة من الزمن لكل مذهب من المذاهب الأربعة إمام جماعة، وفي المشاهد المشرفة كان مراجع تقليد متعددون أو علماء كبار عديدون يقيمون الصلاة في أطراف الصحن الشريف وداخل الحرم المطهر.
وذلك هو مقتضى القاعدة.. فكما أن باب الاجتهاد مفتوح وكما توجد هنالك تعددية في المرجعية فكل من اجتمعت فيه الشرائط له أن يطرح نفسه للتقليد وللناس أن يقلدوه، كذلك يلزم أن يفتح الباب لكل جامع للشرائط أن يقيم الصلاة في جانب من جوانب الحرم الشريف أو الصحن المبارك.. وذلك أيضاً مقتضى الحرية الإسلامية و(الناس مسلطون...) ومقتضى التنافس المحبذ شرعاً، قال تعالى (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ)([14]).
وكما لا يصح منع الناس من بناء حسينيات متعددة أو مساجد متكثرة بحجة أن بناء مسجد واحد واسع كبير يصلي فيه الناس جميعاً خلف إمام واحد، هو الأكثر هيبة وعظمةً، من مساجد وحسينيات كثيرة صغيرة حتى ومتوسطة، كذلك لا يصح منع أي عالم وعادل من إقامة صلاة الجماعة في المشاهد المشرفة ولو صلى خلفه شخصان.
إضافة إلى أن ذلك أقرب لذوق الشارع أيضاً من جهات أخرى فإن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)([15]) فإذا كان الله تعالى قد جعل الناس شعوباً وقبائل مع أنه كان من الممكن أن يجعلهم شعباً واحداً وبدون قبائل أو من قبيلة واحدة، إلا أن حكمته البالغة اقتضت إيجاد أنواع من التعددية مع الأمر بصبها في الأهداف الإيجابية (لِتَعَارَفُوا).
ومجمل القول: أنه في باب التزاحم لا شك في أرجحية التعددية والتمسك بأصالة الحرية (حرية كل أحد في إقامة صلاة الجماعة، وحرية كل إنسان في انتخاب من شاء من أئمة الجماعة) وفسح المجال لمختلف جامعي الشرائط، من مجرد التمسك بمظهر الوحدة بفرض إمام جماعة واحد على الجميع بحيث لا يكون للناس أي خيار آخر، خاصة وإن التطبيق أيضاً لنظرية الوحدة هذه عادة تطبيق سيء خاطئ أو مشوه أو مرجوح؛ إذ لو فرض أن إمام الجماعة كان هو الأعلم على الإطلاق أو كان هو المرجع الأعلى للمسلمين لكان لفرضه في مكة أو غيرها وجهٌ وإن كان مع كل ما ذكرناه مرجوحاً، لكنّ الواقع الخارجي يشهد بأن المفروض للإمامة هو شخص واحد من المذهب الوهابي الذي ترفضه كافة مذاهب المسلمين المشهورة أو فليكن من إحدى المذاهب المشهورة، أفيبرر مجرد شعار الوحدة أن يفرض غير الأعلم الأعدل على الجميع؟
إن مقتضى الرحمة بالناس وبالعلماء والعدول ومقتضى اللين هو عدم منع إقامة صلوات جماعة متعددة في مختلف الأماكن العامة التي تهوي إليها قلوب كافة المسلمين أو شيعة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، كما أن مقتضى الرحمة الشاملة إقرار نظام التعددية الإيجابية في مختلف المجالات والحقول قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ).
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق