بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
من القواعد الفقهية – القرآنية: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)
يقول تعالى:
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ([1]) فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)([2])
بمناسبة المولد النبوي الشريف (صلى الله عليه واله)، ومولد الامام الصادق (عليه السلام) سيتمحور الحديث حول بعض أبعاد هذه الآية المباركة ذلك ان هنالك مباحث كثيرة فيها لكن سوف نشير الى جوانب من ثلاثة مباحث منها:
1- مبحث فقهي من دائرة القواعد الفقهية الأوسع اطاراً من المسائل الفقهية.
2- مبحث أخلاقي.
3- مبحث قانوني وتقنيني.
المبحث الاول: (أشداء على الكفار) قاعدة فقهية
في المبحث الفقهي نشير إلى ان قوله تعالى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) كان من مقتضى القاعدة ان تُفرد لها (قاعدة) من القواعد الفقهية؛ اذ انها اوسع دائرة من (المسالة) الفقهية، كما انها ليست مسالة اصولية لأنها اضيق منها، فهي امر وسط بينهما.
وبعبارة اخرى: ان قوله تعالى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ليس خاصاً بباب من أبواب الفقه لتكون مسألة فقهية على حسب إحدى الضوابط التي ذكروها في التمييز بين القاعدة الفقهية والمسالة الفقهية بل هي سيالة في الكثير من الابواب، ومن جهة أخرى: هي بنفسها حكم شرعي فلا تكون مسالة اصولية؛ لان المسالة الاصولية هي التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي وليست هي بنفسها حكما شرعيا.
والحاصل: ان قاعدة (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) كبرى ولها تطبيقات ومفردات وصغريات كثيرة، فهي كــ(قاعدة اليد) و(ما يضمن) و(ما لا يضمن) و(لا ضرر) و(لا حرج) وهي قاعدة هامة جداً خصوصا اذا اخذنا بنظر الاعتبار انها من اشد المسائل ابتلاءا وحساسيةً؛ لان المسلمين على مر التاريخ اما كانت لهم حدود مشتركة مع الكفار أو كانوا متداخلين معهم إذ عاشوا في بلد واحد فتارة كأقلية وأخرى كأكثرية([3]) والكفار اقوام كُثر بل هم الاكثرية، ولقد كانوا ولا يزالون حتى الظهور المبارك حيث انهم سيؤمنون بأجمعهم، فالمسالة محل إبتلاء، والآية صريحة وواضحة بل هي نص في حكم شرعي (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) وان صيغت بقالب إخبار، فهنا عدة مباحث تحتاج الى التنقيح:
مباحث فقهية في (أشداء على الكفار): موضوعاً وحكماً
1- تنقيح معنى الشديد؛ لان (أشداء) جمع شديد، فكوني مكلفا ـ كمسلم ـ ان أكون شديدا على الكفار، يقتضي مني تحديد معاني الشدة والشديد، فهل معنى ذلك ان أكون شديدا بالكلمة والقول؟ ام شديدا بالفعل والجوارح؟ ام شديدا بالتفكير والتخطيط؟ ام غير ذلك؟
2- تنقيح أبعاد الشدة، أي في أي بعد يجب ان نكون أشداء وفي أي بُعد يستحب؟ هل في البعد السياسي؟ وان كان فما معنى الشدة السياسية مع الكفار؟ ام هي - الشدة - في البعد الاقتصادي؟ وهذه لها مسائل كثيرة قد طرحها بعض أعلام الفقهاء في الفقه وسنشير لها لاحقا ان شاء الله تعالى([4])
ونقول هنا: من الجدير ان تعقد في مسائل الشؤون العامة أبحاث فقهية مستقلة مستوعبة لان الفقه الموجود غالبا هو فقه الأحوال الشخصية، نعم هناك بحوث لا بأس بها في الشؤون العامة الا أن الأمر يتطلب المزيد من استنهاض الطاقات واستفراغ الوسع في البحوث النوعية والفقه الاجتماعي او فقه الشؤون العامة الذي هو جزء الفقه الاجتماعي...
وقد تتبعت مثلاً (جواهر الكلام) الكترونيا وهو كتاب استدلالي مهم وكبير، فلم أجد ذكراً لهذه الآية الكريمة والاستدلال بها على حكم من الأحكام، رغم أهميتها وصراحتها في حكم شرعي ابتلائي.
3- تنقيح حدود الشدة: فان اصل حكم الشدة على الكفار بالوجوب لاشك فيه، لكن ماهي حدود الشدة المطلوبة؟.
4- ما هي غايات وأهداف الشدة؟ والتي بها قد نرسم حدود الشدة.
5- ماهي منطلقات الشدة؟ وهي غير الغايات كما سيأتي.
6- ما هو حكم أنواع ودرجات الشدة من وجوب واستحباب، بل وحتى حرمة وكراهة؟
وهذه البحوث وغيرها مما يرتبط بالمقام تحتاج الى مؤلف كبير وواسع ينبغي ان لا يقل عن ألف صفحة حسب التقدير المبدئي.
نعم لقد تطرق بعض العلماء إلى الآية الشريفة، الا ان البحوث حولها لم تصل الى المستوى الكافي، ولعل اكثر من تطرق الى هذه الآية الشريفة هو السيد الوالد (قدس سره) في موسوعة الفقه بحيث ذكرها في اكثر من (20) مجلداً في مناسبات مختلفة واستدل بها على مجموعة من الاحكام سلبا او ايجابا، من كتاب الحج الى كتاب الوقف والصدقات الى كتاب العولمة الى كتاب الاعلام والرأي العام وكتاب الارث وغير ذلك.
حل التعارض البدوي المتوهم بين الآيات الكريمة
وهناك مبحث آخر([5]) في غاية الأهمية وهو انه كيف نوافق بين هذه الآية (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) وبين قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([6]) حيث ان الكفار داخلون في عموم العالمين.
وكذلك بينها وبين الآية الاخرى التي تقول: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)([7]) فهل هذه الآية مخصصة لتلك او لهما معنيان مختلفان؟ بحث.
وفي الاتجاه المقابل هناك أية تقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)([8])
والآية الأخرى على لسان إبراهيم (عليه السلام) ومن معه من المؤمنين حيث خاطبوا الكافرين: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)([9])
فما هو الحكم الشرعي عندما نواجه المسيحيين مثلا في مؤتمر من المؤتمرات أو في السوق أو في الجامعة او إذا كانوا يجاوروننا كما في الشرق او نجاورهم كما في الغرب؟ او في تجارة مشتركة او صناعة واعدة او استشارات متبادلة؟ او غير ذلك.
فهل نكفر بهم ونقطع كل صلاتنا بهم؟ وهل نواجههم بالبراءة منهم؟ بحث اخر.
وهناك آيات لعله لا يظهر منها هذا ولا ذاك أي لا تفيد الشدة ولا الممالأة والمبرة مثلا: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ([10]).
ففي المبحث الاول علينا ملاحظة كل ذلك وغيره مع الروايات الشريفة لنخرج بنتيجة فقهية متكاملة وسياتي الحديث عن ذلك لاحقاً ان شاء الله.
المبحث الثاني: المبحث الاخلاقي: من مظاهر الرحمة النبوية
في المبحث الثاني نتوقف عند عبارة (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وهي من أهم صفات المؤمنين في علاقتهم مع بعضهم البعض وفيما بينهم إذ قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)([11]) ([12]) فبهذه الصفة يعرف المؤمن من غيره فلنشير إلى بعض مظاهر رحمة رسول الله (صلى الله عليه واله):
الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله) أجود بالخير من الريح المرسلة
يقول بن عباس: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ أَجْوَدُ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَة...))([13]) وهي عبارة جدا دقيقة ومعبّرة، والمستظهر([14]) ان الريح المرسلة هي الريح التي هبت وانطلقت بسلاسة في قبال المقيدة كما في قولنا: الدابة المرسلة وضدها الدابة المقيدة او قولنا: أرسل يديه في قبال من امسكهما، أي ارخاهما جميعاً وبسطهما.
والذي يميّز الريح المرسلة انها سريعة الوصول للأطراف والهضاب والوديان من جهة، ومن جهة اخرى فان الريح المرسلة تنفذ في كل الاتجاهات وفي كل كوّة وحفرة وحارّة وزاوية كما انها تصل الى كل بر وفاجر وصحيح وسقيم وجاهل وعالم!!.
فكان (صلى الله عليه واله) بذلك من مظاهر الرحمة الالهية بلا شك ولا ريب.
ثم ان ما ينبغي ان يستوقفنا أيضاً: ان بن عباس يقول (كان رسول الله (صلى الله عليه واله) اجود بالخير) ولم يقل أجود بالمال او الكلام او غيرهما والخير اعم من المال وغيره، فان السرعة في الخير لها مصاديق متعددة كالإسراع ببذل الجاه والشفاعة والمساعدة البدنية لقضاء شتى الحاجات وغير ذلك.
واذا كان لنا في رسول الله اسوة حسنة كما نص عليه قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...)([15]) فعلينا ان نسرع بالجود في الخير ونجود به على اخواننا واقاربنا وذوينا وغيرهم بكل ما أمكن من علم وجاه ومال وغير ذلك.
وصفوة القول: ان من علامات الايمان ان الانسان كلما توفرت له سبل الخير علما كان ذلك الخير أو فكراً وثقافة أو مالاً ومُكنه فان عليه ان يسرع إلى بذله وإنفاقه.
من مظاهر حُسن معاشرته (صلى الله عليه واله) مع الناس
في الرواية عن حالاته (صلى الله عليه واله) حيث يقول بعض الصحابة: ((فإذا التفت التفت جميعا، أراد أنه لا يسارق النظر، و قيل: أراد لا يلوي عنقه يمنة و يسرة إذا نظر إلى الشيء وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف، و لكن كان يقبل جميعا و يدبر جميعا، انتهى))([16]) ولكن لعل الظاهر ان المراد انه كان يلتفت جميعاً لشدة إسترساله.
فقد بلغ النبي (صلى الله عليه واله) الغاية في التواضع إذ كان إذا التفت يلتفت الى الناس بكله فيشعرهم بعطفه وحنانه مع انه خير الخلق بلا منازع، و"لشدة استرساله" تعني من شدة لينه وانبساطه، وهذا مظهر اخر من مظاهر الرحمة الالهية، وعلى الانسان في أي موقع كان ان يكون في ظاهره أيضاً كرسول الله (صلى الله عليه واله) تواضعا ورحمة ورأفة.
وفي المقابل نشاهد بعض المتكبرين خصوصا بعض المسؤولين ينظرون الى المراجعين بل وإلى عامة الناس من عَلْ وكأن الجبال هي من ولدتهم!!
تعامله (صلى الله عليه واله) مع خادمه
حدّث انس بن مالك كان قد خدم النبي (صلى الله عليه واله) عشر سنين، وهي مدة طويلة نسبيا في المعاشرة: قال: ((خدمت رسول اللّه (صلى الله عليه واله) عشر سنين فما قال لي اف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته...))([17]) أي انه طوال هذه المدة لم يستمع من النبي (صلى الله عليه واله) حتى كلمة تتأفف! وهو أمر عجيب؛ لان الإنسان وان كان متقيا الى حد كبير الا ان الآخرين من خدم وغيرهم([18]) قد تصدر منهم الهفوات والأخطاء بل العظائم احيانا اتجاهه، فاذا لم تصدر منه حتى كلمة اف طول المدة التي قضاها مع الآخرين فان ذلك يعني انه بلغ من مراتب الكمال الأخلاقي اسماها وعلاها حتى أصبح مظهرا لصفات الله جل جلاله.
((وما قال لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته...)) وهو اغرب من سابقه، إذ قد يحدث ان يعاتب الإنسان خدمه أو أصدقاءه أو أهل بيته يومياً عدة مرات – بل عشرات المرات – على تركهم أمراً أو على فعلهم أمراً.
وهذه المرتبة وان كانت في أعالي المراتب الكمالية مما لا يمكن لنا ان ننالها عادة الا ان ذلك لا يمنع المؤمنين من الاقتداء قدر المستطاع ومن ترويض أنفسهم كلٌ على قدر سعته وطاقته كما قال امير المؤمنين (عليه السلام): ((أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ...))([19])
(رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) أي ان يكون تعاملنا مع اخواننا واهلنا ومع كافة المؤمنين في العالم بالرحمة المطلقة، ثم ان علينا ان نحاول ان نتطور في مدارج الرحمة في كل يوم شيئاً فشيئاً وان نترقى درجة درجة اذا لم نستطع كبح جماح القوة الغضبية دفعة واحدة.
المبحث الثالث: المبحث القانوني: الأصل والاستثناء
في المبحث الثالث نتحدث عن بعض الاستثناءات من الشدة على الكفار بعد الفراغ عن ان (أشداء على الكفار) هو الأصل بأي معنى فرض وبأي حدّ كان والذي سيأتي انشاء الله تعالى لاحقا.
ومن هذا الباب سوف ينفتح وجه جمع بين الآيات والروايات المتعارضة بدواً([20])، فنقول:
استثناءات من الشدة على الكفار
هناك استثناءات من الحكم الكلي والشدة على الكفار:
1- في العلاقات الشخصية الانسانية: فان المطلوب من الانسان في العلاقات الشخصية الانسانية ان يرحم حتى الكافر وهو امر مطلوب شرعا.
وفي الرواية: ((وَأَكْرِمِ الضَّيْفَ وَلَوْ كَانَ كَافِراً وَأَطِعِ الْوَالِدَيْنِ وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ وَلَا تَرُدَّ السَّائِلَ وَإِنْ كَانَ كَافِرا))([21]) وفي الرواية الاخرى: ((لكل كبد حرى اجر))([22]) سواء كانت كبد انسان او كبد حيوان لا فرق من هذه الجهة ما دامت عطشى وتحتاج الى الماء، فمن روى كافرا فقد حصل على أجره، وقد اشتهر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما رأى ذلك النصراني الضرير انه اجرى له راتبا من بيت مال المسلمين.
اذن يستثنى من الحكم العام، العلاقات الشخصية الفردية في بعدها الإنساني إلا ما استثني.
2- ما لو كانت الرحمة هادفة غير مستهدفة وفاعلة غير منفعلة:
توضيح ذلك: تارة تكون الرحمة هادفة او فاعلة، وتارة تكون مستهدفة ويكون المسلم منفعلاً.
والفارق هو انه تارة تعطي من يد عليا، أي تعطي وانت كريم عزيز تسوق الطرف الاخر بالاتجاه الذي ينبغي ان يسير فيه وفقا لأهدافك ومبادئك السامية النبيلة.
وتارة تعطي وتبذل لكن لأن الطرف الاخر هو الذي يسوقك ويقودك باتجاه أهدافه الاستراتيجية ويكون هو الذي يملي عليك – من بعد أو مقارناً - شروطه وقراراته بالصراحة حينا وبالتلميح أحياناً، شعوريا تارة ولا شعوريا تارات.
هدايا الرسول (صلى الله عليه واله) المذهلة لكفار مكة وهم في حالة حرب!
لقد حارب كفار مكة (قريش) النبي (صلى الله عليه واله) اشد حرب ولم يدّخروا جهدا في معاداته بل حاربوه كما لم يحارب جيش جيشا وكما لم يحارب قوم قوما وكما لم تحارب عشيرة عشيرة ولا اقرباء اقرباء، وقد استمرت الحرب ما يقارب (23) سنة حتى قتلوا من قتلوا وعذبوا من عذبوا، الا ان كل ذلك لم يمنع النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من الرحمة بهم، ويسجل لنا التاريخ لقطات مذهلة من رحمته (صلى الله عليه واله)، فمثلاً: عندما فتح رسول الله (صلى الله عليه واله) خيبر وحصل على الغنائم الكثيرة ارسل إلى كفار مكة أموالا طائلة وذهبا كثيرا رغم كونهم لم يزالوا كفاراً أعداءاً حربيين.. فاستغربوا ولعل بعض المسلمين قديما وحديثا يستغرب ايضا الا ان ذلك كان بخطة هادفة ورحمة فاعلة فلقد كان في ضمن استراتيجية لإستمالة المشركين الى الإسلام! وقد لا تخطر مثل هذه الاستراتيجية الناجعة على ذهن أي قائد محارب قريب من النصر.
اما الدول الإسلامية فتعطي بيد صاغرة وتمنح مستسلمة!
وفي الاتجاه المقابل نشاهد تلك الدولة التي تدعي الإسلام فانها تعطي للغرب الكثير الكثير الكثير لكنها بيد صاغرة إذ هي تعطي وهي ذليلة وهي مستهدفة وتملى عليها الشروط تلو الشروط وليس منها إلا السمع والطاعة واسلاس القياد!
فمثلا: قيمة النفط كانت قد وصلت الى (120) دولاراً للبرميل الواحد لكن هذه الدولة بإملاء من بعض الدول الكبرى اغرقت الاسواق بالنفط حتى اخذت تنتج ما يقارب من (18) مليون برميل يوميا فانخفضت قيمة البرميل الواحد الى ما دون الـ(50) دولارا هذه الايام، ولازال في انخفاض متوقع وقد تضررت جراء هذه الخطوة الذليلة البائسة اكثر الدول الاسلامية ولكن لماذا؟.
ما ذلك الا تلبية لرغبة بعض الدول الاستكبارية العالمية كي يتحقق لهم ما أرادوه في المخطط الدولي لإركاع أعدائهم الاستراتيجيين! وذلك على الرغم من ان هذه الدولة الاسلامية المنتجة للنفط هي بدورها متضررة أشد الضرر بهذا الاحسان للغرب لكنه مثال العطاء المستهدف غير الفاعل بل المنفعل الذي يخطط له الآخرون وما على الدولة التي لم تجئ إلى الحكم إلا عبر قطار الغرب ولم تبق فيه إلا عبر إمضاء الغرب، إلا ان تتجاوب بالحسنى وتستجيب بالتي هي أحسن للغرب والتي هي أسوأ الدول الإسلامية!.
وأين هذا من إحسان رسول الله ص وعطاءه؟
فان تخطط تخطيطا إستراتيجيا فتجر العدو الى دائرة الهدى والإيمان، أين؟ وان من يخطط لك العدو ويجرك الى مستنقع خططه الشيطانية، أين؟.
وصفوة القول: ان المهم ان يكون عطاؤنا للكافر عطاءا هادفا ومن يد عليا وليس عطاءا من يد صاغرة وناتجاً عن السير والحركة في فلك مخططاتهم ومداراتهم.
أشداء على المؤمنين رحماء بالكفار بل عملاء!
والغريب: ان هذه الدولة البترولية الكبيرة تعمل بالضبط على النقيض من الآية الكريمة (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)!!
فتراهم اشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين لا بل عملاء لهم أذلة صاغرين! أليسوا هم من موّل الطالبان؟ وساعدهم بالتدريب والتنظيم؟ ثم القاعدة؟ ثم داعش؟ ثم غيرهم وغيرهم كثير؟ ومن جهة أخرى تجدهم يكفّرون المسلمين عامة إلا الوهابي القحّ والسلفي القح! حتى إني قرأت في بعض كتبهم: ان من يتبرك بضريح النبي (صلى الله عليه واله) مشرك ماله مباح! ودمه مباح! وعرضه مباح!!! اللهم انها الجرأة عليك، والتعدي على حدودك والبغي على عبادك وأوليائك.
المخطط الغربي: احسنوا إلى المسلمين ثم اسلبوا منهم كل شيء!
ولقد كان الكلام حتى الآن على مستوى الدول فلنعطف عنان الكلام نحو الأفراد والجاليات حيث نلاحظ ويا للأسف والأسى أن المسلم في الغرب سواءا من يدرس أم من يعمل أم من يسكن هناك وسواء اكان مهاجرا أم غير مهاجر، نرى (المعادلة مقلوبة) فان الغرب هو من يُحسن للمسلم، فيعطونه الاموال هبة او قرضا، ويهيئون له فرص التعليم العالي ناهيك عن الحرية المتوفرة والتي تفتقدها اغلب الدول الاسلامية والعربية حتى ان من يولد في عدد من تلك الدول يمكن ان يكون رئيسا للجمهورية وان كانت بشرته من أي لون واصوله من أية دولة في حين ان في بلادنا قد يعيش الشخص هو واجداده مئات السنين ثم نجده لازال يعامل كمواطن اجنبي غريب، فالغرب هو إذن من يُحسن ويرحم ولكن بأهداف مبيتة كما لا يخفى فان الغرب يحسن احسانا شخصيا وفي قبال ذلك فانه يسلب الوافدين – أي كثيراً منهم إذ لا تعميم - على المدى البعيد ايمانهم وقيمهم ولذا نرى الانهيارات العقدية مستمرة وشبابنا المتغرب اسرع انهيارا وانسلاخا من قيمه ومبادئه بل من تعاليم دينه؛ لان الغرب هو المتفضل بالمعايير الشخصية المادية والنفسية والقانونية من يهب ويحسن و(احسن إلى من شئت تكن أميره) وذلك هو ما يترك على مستوى اللاوعي والوعي الباطن لكل شاب قادم، آثاراً فكرية وعقدية مدمرة إذ يبدأ الشاب التحول الى قيم الغرب شيئا فشيئا فتكون هي المقياس والمرجع بدءاً من حقوق المرأة الى المعاملات الربوية المربحة ظاهرا الى الحرية المنفلتة والى غير ذلك؛ وما ذلك إلا لأن الشاب المسلم أضحى – في لا شعوره أسير إحسان الغرب اليه!.
بل حتى السياسيين من رؤساء ووزراء ومسؤولين على اختلاف درجاتهم في دول العالم الثالث فانهم يرون أنفسهم([23]) أسرى ما يرونه إحسان الغرب اليهم لان اسرهم تعيش هناك وتدرس هناك وتحصل على ما لا يستطيعون الحصول عليه في بلدنهم، فتبدأ التنازلات السياسية حتى عن الحقوق السيادية وتبدأ التنازلات الاقتصادية لكن تحت ستار الشراكة الاقتصادية!.
إذ المعادلة في الاسلام هي بالعكس تماما: أي كن انت به، كشخص، رحيما ثم خذ منه الامتيازات العقدية وسُقه بالحكمة نحو الأهداف العليا كما صنع رسول الله (صلى الله عليه واله).
ولنشر إلى نموذج آخر مما صنعه رسول الله (صلى الله عليه واله) ففي حرب بدر لم يمنع رسول الله (صلى الله عليه واله) ورود المشركين الى القليب([24]) وسمح لهم بان يشربوا منه مع انهم كفار حربيين([25]) فالنبي (صلى الله عليه واله) هو من كان يحسن الى الاشخاص وان كانوا كفارا حربيين، فكان هو المتفضل المانح، وكان ان ملك أرواحهم وعقولهم ونفوسهم سواءاً أقروا أم انكروا.. ثم اهتدى منهم الجمع الغفير.
وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((امْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ وَ احْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَ اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ))([26])
وقد سئل مفكر بريطاني معروف: انكم تحسنون كثيرا الى اللاجئين والمهجرين وهم من اعراق شتى واغلبهم مسلمين حتى ان الانفاق البريطاني على اللاجئين والمهاجرين يصل الى (10) مليارات باون سنويا! فقال: نحن لا نطمع بالآباء، ولكن لنا نصف الاولاد، اما الهدف الأكبر فهم الاحفاد فانهم لنا قطعا ويقينا!!
مسؤولية الحوزات والمفكرين
ثم ان هذه هي مسؤولية الحوزات العلمية والمفكرين وكافة أهل الحل والعقد: ان نقلب المعادلة فنكون نحن المحسنين إلى الآخرين كأشخاص في الابعاد الإنسانية وان نكون المحرك الكبير للتغيير الاستراتيجي في عقائدهم وأفكارهم نحو الهدى ودين الحق قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)([27])
فمن الواجب علينا التخطيط لكي نعيد الأمر إلى نصابه ان تكون للمهاجرين منا الى تلك الدول مبادرات ولنا خطة بحيث يتحول المتلقي للإحسان الى معطي والمتأثر فكريا وعقدياً إلى مؤثر، وبدل ان يكون مغزيا يتحول الى غازي ((مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ...))([28]) وذلك هو ما يستدعي عقد بحث خاص كما يحتاج إلى مؤتمرات وندوات ومطابخ فكرية ومراكز دراسات ونية صادقة معها ودعاء وتضرع صادقين في كافة تلكم المراحل.. والله الموفق المستعان.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق