فلسفة التكرار تشكّل جزءاً من الإجابة عن ذلك.. وما أكثر الذين تغيروا بمرور الزمن وكثرة التكرار؛ فإن للتكرار، سواء بصوت مسموع أم بصوت غير مسموع، أمواجاً، والأمواج الصوتية تخترق المخ مرة بعد أخرى، فتترك فيه بصمة تتكرس بمرور الزمن، كما انها تحيط بالقلب وتبعث فيه الطمأنينة وتلونه بلون السماء...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[1].
والبحث يدور ضمن فصول:
الفصل الأول بصائر قرآنية في الآية الكريمة.
لِذِكرِ الله تعالى مراتب كثيرة جداً
البصيرة الأولى: ان لذكر الله تعالى مراتب تتراوح بين:
أ- أعلى المراتب والتي تشكل الاسم الأعظم (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْعَظِيمِ الْأَعْظَمِ الْأَعْظَمِ الْأَعَزُّ الْأَجَلُّ الْأَكْرَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى مَغَالِقِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ لِلْفَتْحِ بِالرَّحْمَةِ انْفَتَحَتْ، وَإِذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى مَضَايِقِ أَبْوَابِ الْأَرْضِ لِلْفَرْجِ انْفَرَجَتْ، وَإِذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ تَيَسَّرَتْ، وَإِذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى الْأَمْوَاتِ لِلنُّشُورِ انْتَشَرَتْ، وَإِذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى كَشْفِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ انْكَشَفَتْ)[2].
ب- وأدناها وهي ذلك الذكر الذي يصدر من قلب ساهٍ لاهٍ أو ذهن متشتت، في الصلاة أو غيرها، غارق بكله، حين يذكر الله، في مشكلة له مع جاره أو زوجته أو رئيسه أو في كيفية استثمار أمواله أو في مسألة علمية أصولية أو فقهية أو طبية أو فلكية أو رياضية أو غيرها.
ج- وبين هاتين المرتبتين مراتب كثيرة لا متناهية بنحو اللامتناهي اللايقفي.
والمرتبة العليا من ذكر الله تعالى هي التي تترتب عليها الآثار، جميع الآثار، فإذا ذكر المبتلى بالاكتئاب أو الوسواس القهري أو مختلف الأمراض النفسية أو الجسدية، اسم الله تعالى ووفّاه حقه من حضور القلب والانقطاع إلى الرب والإيمان حقاً وصدقاً بأنه المفتاح لكل معضلة والبلسم لكل جرح والشفاء من كل داء، شفي حتماً وقضيت حاجته جزماً.
قُطِعت يَدُه فألصقها الإمام (عليه السلام) بقراءة سورة من القرآن!
وقد ورد في الرواية أن هشام بن عدي الهمداني قطعت إحدى يديه في معركة صفين، فحملها وهي تشخب دماً وأسرع راكضاً إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وطلب من الإمام أن يعيدها كما كانت.. فأخذ الإمام (عليه السلام) يده وقرأ كلمات بصوت خافت ثم ألصقها فعادت كما كانت وافضل، وذلك هو ما لا يتيسر حتى لمجموعة من أمهر الأطباء وبأحدث الأجهزة وبساعات طويلة، إلا بصورة ناقصة!
وهنا ثار فضول هشام فسال الإمام (عليه السلام) عن الآية التي قرأها ربما ليتعلم منه الاسم الأعظم ويستخدمه في مواطن مشابهة، فقال له الإمام (عليه السلام) قرأت فاتحة الكتاب! فكأنّ هشام استقلها واستصغر أن يكون لها هذا الأثر المذهل.. وحيث انه استصغرها حلت به النقمة الإلهية فانفصلت يده وسقطت إلى الأرض، فاعرض عنه الإمام وتركه، حيث شاهد منه استصغار أعظم آيات الله تعالى ومضى.
ونص الرواية: (وَأُبِينَت إِحْدَى يَدَيْ هِشَامِ بْنِ عَدِيٍّ الْهَمْدَانِيِّ فِي حَرْبِ صِفِّينَ فَأَخَذَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَدَهُ وَقَرَأَ شَيْئاً وَأَلْصَقَهَا فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا قَرَأْتَ؟ قَالَ: فَاتِحَةَ الْكِتَابِ كَأَنَّهُ اسْتَقَلَّهَا فَانْفَصَلَتْ يَدُهُ بِنِصْفَيْنِ فَتَرَكَهُ عَلِيٌّ وَمَضَى)[3].
شروط في الذكر والذاكر والمذكور له
وفي القصة عِبَر ودروس قد نتطرق لها في وقت آخر، ولكنّ السؤال هو: ما هي شروط أعلى مراتب الذكر؟ والجواب الإجمالي هو انه بشكل عام: لا بد من أن توجد شروط في الذكر، كما يجب أن تتوفر شروط في الذاكر، وشروط أخرى في المذكور له، فإذا توفرت هذه الشروط كان كل اسم من أسماء الله تعالى المائة، بل الألف، مما لو قرأ على الجبال لتدكدكت أو الأرضين لاستوت أو على الجبابرة لساخت بهم الأرض أو هوت بهم الريح في مكان سحيق.
وللحديث عن هذه الشروط مجال آخر.. ربما سيأتي في بحث لاحق.. إلا أن الشاهد انه لا شك في: (يَا مَنِ اسْمُهُ دَوَاءٌ وَذِكْرُهُ شِفَاءٌ وَطَاعَتُهُ غِنًى ارْحَمْ مَنْ رَأْسُ مَالِهِ الرَّجَاءُ وَسِلَاحُهُ الْبُكَاءُ يَا سَابِغَ النِّعَمِ يَا دَافِعَ النِّقَمِ يَا نُورَ الْمُسْتَوْحِشِينَ فِي الظُّلَمِ يَا عَالِماً لَا يُعَلَّمُ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَافْعَلْ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَالْأَئِمَّةِ الْمَيَامِينِ مِنْ آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً)[4]
نحن لا نقاس بالإمام (عليه السلام).. ولكن..
وقد يقول قائل: ذلك الإمام علي (عليه السلام) وأين نحن منه؟
والجواب انه وإن كان الأمر كذلك.. ولكننا يمكننا أن ننال، بتزكية النفس والسعي لحضور القلب ومجاهدة النفس في الالتزام بالطاعات وتجنب المعاصي، مراتب عالية تُقضى بها حاجات مهمة كما سيأتي بإذن الله تعالى.. ولكي نعرف ان غير المعصوم (عليه السلام) قد ينال درجات عليا من الذكر يمكن لنا أن نستشهد بالقصة التالية:
العابد الذي دخلت الأفعى في ملابسه وقت صلاته!
فقد كان أحد أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) عابداً زاهداً وصل بجهاد نفسه وحضور قلبه إلى مراتب رفيعة من الذكر.. ومما ينقل في أحواله انه كان ذات مرة منشغلاً بالصلاة فجاءت أفعى سوداء، وهي المعروفة بالسم القاتل، واقتربت منه سريعاً.. لكنه لم ينفتل عن صلاته بل لم تشغله الأفعى أبداً عن لذة المناجاة مع حبيبه (يَا حَبِيبَ مَنْ لَا حَبِيبَ لَهُ يَا طَبِيبَ مَنْ لَا طَبِيبَ لَهُ يَا مُجِيبَ مَنْ لَا مُجِيبَ لَهُ[5].. حتى وصلت الأفعى إلى رجله.. فلم يلتفت إليها، فصعدت على قدمه، والغريب انه لم يُعرِ لها بالاً أبداً، فدخلت في ملابسه وصعدت على رجله حتى وصلت إلى بطنه وهو غارق في مناجاة ربه.. ثم وصلت إلى عنقه والتفّت حولها حيث تكفي لدغة في الوريد لقتله فوراً.. لكنه كان ذلك الجبل الاشم الذي يعصى عن أن يشغله شيء مهما كان خطيراً عن ذكر الله تعالى.. فنزلت من جسمه وولت مدبرة... وقد خرج هذا الصحابي من ذلك الامتحان الصعب بنجاح وأي نجاح!
هل يمكننا أن نصل إلى بعض المراتب العليا للذكر؟
ومن الواضح أن أكثرنا يعتقد انه لا يمكنه أن يصل إلى هذه المراتب الرفيعة، ولكن نقول:
أولاً: لا يأس من رَوح الله تعالى.. ومن إدراك! فلعلك تقدر على ذلك؟ كيف وقد ورد (المرء يطير بهمّته كما يطير الطائر بجناحيه)، و(مَنْ طَلَبَ شَيْئاً نَالَهُ أَوْ بَعْضَه)[6]، نعم لو لم تسعَ لما وصلت أبداً.. ولو أنك بذلت جهدك حقاً فلربما وصلت إذ (وَالَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)[7]، و(وَيَزيدُ اللَّهُ الَّذينَ اهْتَدَوْا هُدىً)[8].. بل كم من محروم رزق وكم من ساع وصل؟
من فلسفة تكرار الآيات والأذكار
ثانياً: ان فلسفة التكرار تشكّل جزءاً من الإجابة عن ذلك.. فإن من الصحيح ان كثيراً من الناس ساهون لاهون عن ذكر الله تعالى، حين الصلاة أو حين قراءة القرآن الكريم أو حين سماعه في الفواتح وغيرها أو في غير ذلك من الحالات والصور، إلا أن من الصحيح أيضاً أن للتكرار أثراً إذ:
أما ترى الحبل بتكراره
في الصخرة الصّماء قد أثّرا
وما أكثر الذين تغيروا بمرور الزمن وكثرة التكرار؛ فإن للتكرار، سواء بصوت مسموع أم بصوت غير مسموع، أمواجاً، والأمواج الصوتية تخترق المخ مرة بعد أخرى، فتترك فيه بصمة تتكرس بمرور الزمن، كما انها تحيط بالقلب وتبعث فيه الطمأنينة وتلونه بلون السماء.
ومن ذلك يظهر: انّ احدى أهم طرق معالجة الاكتئاب والوسواس القهري ومختلف الأمراض النفسية، هو ذكر الله تعالى قال تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[9]، و(وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)[10]، وهو مطلوب مؤثر على كل حال: أما المرتبة العليا فإن بمقدورك بقولك (يا الله) واحدة ان تقتلع المرض من جذوره.. وأما سائر المراتب فإن للتراكم أثراً سريعاً أو بطيئاً.
ولذلك ورد مثلاً ان ضيق القلب والحزن الذي يعتصر فؤادك يمكن أن تعالجه علاجاً نافعاً بأن تقرأ يومياً صباحاً سبع عشرة مرة سورة (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[11] وتقرأها أيضاً سبع عشرة مرة مساءً.. وسترى الأثر من دون شك.
الشيطان شيطانان، وطريق الخلاص!
كما نقل الشهيد بخطه عن النبي (صلى الله عليه وآله): (أَنَّ الشَّيْطَانَ اثْنَانِ: شَيْطَانُ الْجِنِّ وَيَبْعُدُ بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَشَيْطَانُ الْإِنْسِ وَيَبْعُدُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ)[12].
أقول: وذلك أيضاً حسب مراتب الذكر وحضور القلب والإيمان والإذعان فقد تكفي المرة لدفع الجن والشيطان والسحر والشعوذة والعين وغيرها.. وقد تحتاج إلى أن تكرّرها مراراً كثيرة.. فعليك أن تستمر في الذكر وستصل إلى ما تصبو إليه بلطف الله تعالى.
وقد شاهدت شخصياً أحد التجار الذين تميزوا بكثرة الأرباح وبكونه مرزوقاً وبقلة تعرضه للهزات الاقتصادية، بالقياس إلى غيره من التجار، ولاحظت انه أقل ذكاءً وكفاءةً من عدد من نظرائه لكنه كان مرزوقاً أكثر منهم.. وعندما بحثت عن السبب اكتشفت مجموعة أمور كان منها انه يكثر من الصلاة على النبي وآله..
أعداد الأذكار عِلَلٌ إعدادية، والثمرة
وللسيد العم (دام ظله) كلمة دقيقة – لطيفة في هذا الحقل إذ قال لي ذات مرة: انه لعله كان من المقدر في علم الله تعالى انك لو قلت عشرة آلاف مرة يا الله أو لا إله إلا الله أو لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أو صليت على النبي وآله بذلك العدد، مثلاً، ستقضى حاجتك إثرها، لكنك تقولها مثلاً 9999 وتيأس ولا تكمل، فتحرم مع انه لم تكن قد بقيت لك إلا مرة واحد!
أقول: فذلك ككل العلل الإعدادية حيث انك لا يمكن أن تعبر الجبل الذي يبلغ ارتفاعه عشرة آلاف متر إلا بإكمال صعودها كلها، فلو أنك صعدت مسافة 9999 متراً ولم تصعد المتر الأخير لما أمكنك الوصول إلى الجانب الآخر من الجبل، أو لو أنك كنت بحاجة إلى أن تقطع ألف كيلو متر لتخرج من بلدك وتدخل إلى بلد آخر فلو انك قطعت 999 كيلومتراً ولم تقطع الكيلومتر الأخير لما دخلت البلد الآخر ولما شملتك أحكام اللاجئين مثلاً (أو قطعت 999.999 متراً، أي مليون متر إلا واحداً لما دخلت البلد الآخر ما دامت المسافة مليون متراً... وهكذا.
هل القلب مركز الإدراك أو العقل؟
البصيرة الثانية: ان في قوله تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) نكتة دقيقة – مهمة وهي أن الله تعالى وصف القلوب بالاطمئنان لا العقول ولا الأمخاخ، فلم يقل جل اسمه: بذكر الله تطمئن العقول أو الأمخاخ أو الأذهان، مع أن المعروف أن المخ هو مركز الفهم والإدراك والإحساس وان العقل هو القوة المدركة لا القلب.
والنكتة الدقيقة في ذلك يفصح لنا عنها أولاً النقل وثانياً العلم الحديث:
أما النقل فإن ظواهر الألفاظ حجة، سواء أفهمنا عمقها أم لا وسواءً أوصل إليها العلم أم لا، وظاهر قوله تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) و(في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)[13] و(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُون)[14]، هو أن القلوب هي مراكز الاطمئنان والمرض والفقه الذي يعني الفهم.
وذلك كقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ)[15] ولقد حملها بعضهم على المجاز وان كل شر، من حجر ومدر وشجر وبشر ورعد وبرق ومطر وبحر وبرّ وجن وإنس.. تسبح بحمد الله بلسان حالها لا بلسان قالها، مع انه لا داعي للحمل على المجاز أصلاً مع إمكان المعنى الحقيقي، بل ان تتمة الآية الكريمة صريحة في اننا الذين لا نفهم (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ) فكيف يحق لنا أن ننكر؟.
وعلى أي فإن إيماننا بظواهر الكتاب العزيز والروايات الشريفة ليس منوطاً باكتشاف علمي ولا غيره، بل ان من صفة المؤمن (الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)[16]، نعم يستثنى من ذلك ما لو خالفت الظواهرُ الحكمَ العقليَّ القطعيَّ كـ (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ)[17] المحمول على أن المراد هو المجاز أي قدرة الله فوق قدراتهم؛ نظراً للبرهان العقلي القطعي على انه لا يمكن أن يكون واجب الوجود جسماً، والذي يشير إليه القرآن الكريم نفسه إذ يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[18].
ومع ذلك، وليطمئن قلب بعض من لا تطمأن قلوبهم إلا بذكر شاهد من العلم ولو من باب (قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبي)[19]، نقول:
حقائق علمية عن دور القلب في هندسة الأفكار والمشاعر
وأما العلم: فإن العلم الحديث توصل إلى بعض ذلك، حيث توصل إلى أن التفاعل بين القلب والمخ هو ثنائي الأبعاد وليس من طرف واحد.
وحسب العديد من الباحثين والخبراء فإن 80-90% من الإشارات بين القلب والدماغ يتم إرسالها من القلب إلى الدماغ، وليس العكس، وان القلب تتمركز فيه العقدة العصبية القلبية التي تشكل ما يسمى العقل القلب.. وانها تتشكل من 40 ألف خلية معقدة التركيب جداً.. وانها ترسل إشارات كهرومغناطيسية وكيماوية وعصبية إلى المخ فيستجيب لها ويصدر قراراته على ضوئها.. وان هذه الإشارات القلبية هي التي تؤثر على المدارك والمشاعر والعواطف والحب والبغض.. إضافة إلى ذلك فإن القلب يفرز هرمون الاوكسيتوسين الذي يهندس العواطف الإنسانية كالحب وغيره ويؤثر فيها.
قالوا: ان القلب يحتوي على شبكة معقدة من الخلايا العصبية، تُعرف بـ "العقل القلبي"، وهو مصطلح يشير إلى قدرة القلب على إرسال إشارات عصبية إلى الدماغ والتفاعل معه.
والقلب يحتوي على حوالي 40,000 خلية عصبية تُشكل نظامًا عصبيًا معقدًا يُعرف باسم العقدة العصبية القلبية. هذا النظام يسمح للقلب بالتواصل مع الدماغ عبر الجهاز العصبي المستقل، ذلك ان القلب يرسل إشارات عصبية للدماغ تؤثر على العمليات الإدراكية والعاطفية.
كما ان القلب يفرز هرمونات متنوعة أحدها هو الأوكسيتوسين والمسمى بهرمون الحب والذي يؤكد العلم دوره في التأثير على العواطف.
قالوا أيضاً: ومن الناحية العلمية: القلب يُشارك في عملية الشعور والإدراك بشكل غير واعٍ عبر إشاراته العصبية وتأثيره على الدماغ.
من الناحية الروحية: القلب هو مركز الشعور والإدراك الداخلي، يتجاوز الجوانب المادية ليشمل البُعد الروحي والأخلاقي.
أقول: فقد توصلوا إلى منتصف الطريق ولم يصلوا إلى النهاية إذ قالوا (بشكل غير واع) ومن ادراكم انه غير واع؟ والمتوقع ان يكتشفوا، مع تطور العلم، كونه واعياً، وعلى أي فلا يضرنا ذلك بل يكفينا نفس هذا المقدار مما توصل إليه العلم لنعلم دور القلب الرئيس في توجيه المخ والعواطف والمشاعر والإدراك، سواء بشكل واع كما هو ظاهر الآيات الكريمة أم بشكل غير واع كما ان حدود علمهم لم تتجاوز ذلك (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)[20].
وقالوا: العقدة العصبية القلبية: يحتوي القلب على شبكة من الخلايا العصبية تُعرف بـ"العقدة العصبية القلبية"، والتي تضم حوالي 40,000 خلية عصبية. هذه الخلايا تُمكّن القلب من التواصل مع الدماغ والجهاز العصبي المركزي.
والقلب ليس مجرد مضخة للدم؛ بل انه يحتوي على خلايا عصبية وهرمونات تؤثر على المشاعر والإدراك، وان التواصل بين القلب والدماغ يتم عبر إشارات عصبية وهرمونية، مما يشير إلى دور القلب في العمليات العاطفية. مما يعني أن التواصل بين القلب والدماغ ثنائي الاتجاه.
الأبحاث تشير إلى أن القلب يُرسل إشارات عصبية تؤثر على المناطق العاطفية في الدماغ، مثل الجهاز الحوفي (Limbic System)، الذي يتحكم في المشاعر.
وهذه الإشارات العصبية من القلب إلى الدماغ تؤثر على العمليات الإدراكية مثل اتخاذ القرارات، الشعور بالهدوء، أو القلق.
دور هرمون الاوكسيتوسين
وأما الأوكسيتوسين فهو هرمون وناقل عصبي ينتجه الجسم بشكل طبيعي، ويلعب دورًا كبيرًا في تنظيم العواطف، التواصل الاجتماعي، والترابط بين البشر كما ويساعد في تنظيم تقلصات الرحم أثناء الولادة. ويلعب دورًا رئيسيًا في إنتاج الحليب أثناء الرضاعة.
يُفرز أيضًا خلال العلاقات العاطفية والجنسية، مما يُعزز الروابط العاطفية بين الشريكين.
وعموماً فإنه يعزز شعور الترابط الاجتماعي والعاطفي، مما يساعد على تقليل التوتر والقلق.
ويُطلق عليه "هرمون الحب" لأنه يُعزز الشعور بالثقة، الأمان، والارتباط.
كما انه يُحفّز التفاعل الاجتماعي، الإيثار، والقدرة على قراءة مشاعر الآخرين فهذا كله من جهة ومن جهة أخرى: فإنه يتم إفراز الأوكسيتوسين استجابةً للتفاعلات الإيجابية، مثل العناق، الابتسامة، أو حتى التواصل البصري.
ولقد أجرى معهد هارت ماث (HeartMath Institute): أبحاثًا مكثفة على دور القلب في التأثير على العواطف والإدراك ووجد أن القلب يُرسل معلومات عصبية وكيميائية وكهرومغناطيسية إلى الدماغ.
كما ان جامعة كاليفورنيا اكتشفت دور العقدة العصبية القلبية في التفاعل مع الجهاز العصبي المستقل وتنظيم الاستجابة للتوتر[21].
وبذلك نكتشف الحكمة في استحباب مصافحة المؤمن والنظر إلى العالم
ومن ذلك نكتشف أيضاً حِكمةً من حِكَم استحباب المصافحة في الإسلام فقد ورد
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (تَصَافَحُوا فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِالسَّخِيمَةِ)[22].
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إِنَّ الْمُؤْمِنَيْنِ إِذَا الْتَقَيَا فَتَصَافَحَا أَقْبَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمَا بِوَجْهِهِ، وَتَسَاقَطَتْ عَنْهُمَا الذُّنُوبُ كَمَا يَتَسَاقَطُ الْوَرَقُ مِنَ الشَّجَرِ)[23].
فلعل من الأسباب، على ضوء معطيات العلم الحديث، إضافة إلى الجانب المعنوي والروحي والغيبي، ان المؤمنين إذا تصافحا، افرز القلب هرمون الأوكسيتوسين المسمى بهرمون الحب، فازدادت المحبة بينهما وتوطدت أواخر الاخوة والعلقة الإيمانية كذلك وحسب تعبير الحديث السابق فإن المصافحة (تَذْهَبُ بِالسَّخِيمَةِ) والسخيمة: الحقد والضغينة والعداوة والغضب.
والسبب في تحريم مصافحة الأجنبية والنظر إليها
والسبب نفسه يعد من حِكَم تحريم مصافحة الأجنبية إذ انها تسبب إفراز الأوكسيتوسين فتتأجج العاطفة، العاطفة الشهوية، بينهما فتكون احدى المحفزات على المعاصي اللاحقة.
إضافة إلى ذلك فإن النظر أيضاً يفرز كما يقول العلماء هذا الهرمون، ولذا استحب النظر إلى وجه الوالدين حباً لهما وإلى وجه العالم وما أشبه ذلك، كما حرمت النظرة إلى المرأة الأجنبية إذ تحفز النظرة إطلاق القلب لهذا الهرمون فيعزز العاطفة المشبوبة والحب المحرم.
ويدلنا على ذلك أيضاً ما ورد من أن الرحم إذا مست سكنت، فعن علي بن عقبة، عن أبيه، عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَمَا يَرْضَى أَبَداً حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ غَضِبَ عَلَى قَوْمٍ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سَيَذْهَبُ عَنْهُ رِجْزُ الشَّيْطَانِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ غَضِبَ عَلَى ذِي رَحِمَ فَلْيَدْنُ مِنْهُ فَلْيَمَسَّهُ فَإِنَّ الرَّحِمَ إِذَا مُسَّتْ سَكَنَتْ)[24].
من أسرار الشعائر الدينية والحسينية
وفي إطار أوسع: نكتشف سر الشعائر الدينية، ومنها الشعائر الحسينية، إذ يتساءل الكثير من الشباب عن الفلسفة وراءها والحكمة، كما ينظر إليها بعض الحداثويين شزراً إذ يتصورونها قشوراً على حساب اللب ويزعمون انها مظاهر لا جدوى منها، ولذا ينكرون، أي بعضهم، شعيرة المشي في الأربعين مثلاً، أو ينكرون جدوائية اللطم ولبس السواد أو غير ذلك.
ومع قطع النظر عن الأجوبة الدينية، كقوله تعالى: (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[25]، وان (الْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ)[26] من شعائر الله التي ذكرها القرآن الكريم، قال تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ)[27].
والقلائد تعني ما يعلق على أسنمة الإبل مثلاً، والإبل التي توضع عليها علامة كأن توضع على عنقها فردة حذاء مثلاً كالقلادة إشعاراً بأنها مخصصة للنحر يوم المنحر في منى، مع قطع النظر عن ذلك وغيره نقول: ان الشعائر تتفاعل مع القلب والمخ عبر حواس البصر والسمع واللمس، وبعضها عبر حاستي الذوق والشم والرائحة، كمذاق الطعام ورائحته الزكية التي تنتشر في أطراف المواكب الحسينية والمطابخ في المؤسسات الدينية، والبخور وعطور الضريح المتميزة، وغير ذلك.
مهمة الشعائر، التشبيك بين الأفكار والمشاعر
وبذلك تقوم الشعائر بمهمة التشبيك بين الأفكار والعقول والإدراكات من جهة، وبين القلوب والعواطف والمشاعر من جهة، عبر نافذة الحواس الخمس.. حيث تكون تلك المناظر والحركات والإيقاعات المحفز للقلب ليفرز هرمون الاكسيتوسين ليزداد الشعائريون تعلقاً بقمم الإنسانية – محمد وآله الأطهار (عليهم السلام) وبما جسّدوه من القيم السماوية أكثر فأكثر.. حيث يولّد هذا الهرمون الحب، حبهم صلوات الله عليهم، ويزيده رسوخاً وعمقاً وأصالة، بل وكما سبق فإن القلب إذ يتلقى عبر منافذ الحواس الخمسة الصور والمعلومات فإنه يرسل عبر العقدة القلبية العصبية: الإشارات الكهرومغناطيسية والعصبية والكيماوية إلى المخ فتتفاعل الأفكار مع تلك العواطف الجياشة التي اضرم القلب أوارها ومع الحب الذي اطلق القلب هرموناته، وتتناغم معها، فيتحول الإنسان الشعائري بذلك إلى كتلة متوقدة من الحماس للدفاع عن القيم والمثل العليا وعن الدين والشريعة وعن الرسول وأهل بيته..
إضافة إلى انه يتحصن بذلك عن تأثير المغريات ويكسر بذلك من سورة الشهوات، فإن تلك الحسينيات والمجالس والمشاهد مصاديق (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)[28].
ولذلك تجدون الأعداء يوجهون حِرابهم ضد هذه المظاهر.. فالوهابي يرى الأضرحة المقدسة شركاً، على خلاف إجماع المسلمين والآخر يرى السجود على التربة عبادة لغير الله.. وهنالك من يرى المشي إلى زيارة الأربعين إضاعة للوقت وتضييعاً للعمر وإضعافاً لاقتصاد البلد..
مقارنة بين الإنفاق على الشعائر وبين الإنفاق على كرة القدم
والغريب ان كثيراً من هؤلاء لا ينتقد انشغال الشباب بكرة القدم وصرف مآت المليارات عليها سنوياً[29]، ثم تراه ينتقد زيارة الأربعين أو مجالس العزاء أو غيرها.
ولئن كان اللاعبون بكرة القدم في رياضة، فإنّ مآت الملايين من المشاهدين ليسوا كذلك، بل انهم يضيعون الوقت في أمر لا طائل تحته.. فإن كان هذا وأمثاله مبرراً لديهم فكيف لا تكون الشعائر الدينية والحسينية أمراً مبرراً؟
نعم السقف الممنوع هو سقف الحرام، أما غيره فإن كل أمرٍ حلالٍ في ذاته فإنه لا إشكال فيه فكيف إذا تحول ذلك الحلال إلى شعيرة عرفاً؟.. وليس المقام مقام الإفاضة في الحديث عن ذلك.. بل إنما كان الحديث بقدر الكلام عن مكتشفات العلم الحديث في دور ما يرسله القلب من إشارات متنوعة إلى المخ ودور هرمون المحبة، ليتجلى لنا بوضوح ان المدخلات الشعائرية عبر الحواس.. تمر عبر قلب العقل.. لتكون مخرجاتها: أفكاراً عميقة وقيماً راسخة ومبادئ لا يتزحزح عنها العقل والمخ أبداً.
من الأذكار المجرّبة
ومن ذلك كله نعرف دور الأذكار، على اختلافها ومراتبها المختلفة في التأثير على قلب الإنسان ومخه وحياته كلها؛ إذ تعتبر أعظم بلسم وأقوى حرز من الأعداء، أعداء الجن والإنس، ومن عيون الحاسدين وشرور الحاقدين وغير ذلك.
ومن الأذكار المجربة (رُقْعَةُ السَّيْفِ التي وَجَدْتُ فِي قَائِمِ سَيْفِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَكَانَتْ أَيْضاً فِي قَائِمِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَهِيَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، بِاللَّهِ بِاللَّهِ بِاللَّهِ أَسْأَلُكَ يَا مَلِكَ الْمُلُوكِ الْأَوَّلَ الْقَدِيمَ الْأَبَدِيَّ، الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ، أَنْتَ اللَّهُ الْعَظِيمُ، الْكَافِي كُلَّ شَيْءٍ، الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ،
اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِاسْمِكَ الْأَعْظَمِ الْأَجَلِّ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، احْجُبْ عَنِّي شُرُورَهُمْ وَشُرُورَ الْأَعْدَاءِ كُلِّهِمْ، وَسُيُوفِهِمْ وَبَأْسَهُمْ وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ،
اللَّهُمَّ احْجُبْ عَنِّي شَرَّ مَنْ أَرَادَنِي بِسُوءٍ بِحِجَابِكَ الَّذِي احْتَجَبْتَ بِهِ فَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ شَرِّ فَسَقَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَمِنْ شَرِّ سِلَاحِهِمْ، وَمِنَ الْحَدِيدِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ مَا نَتَخَوَّفُ وَنَحْذَرُ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ شِدَّةٍ وَبَلِيَّةٍ، وَمِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ بِهِ أَعْلَمُ، وَعَلَيْهِ أَقْدَرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً)[30].
والملفت ان الكون كله يلوذ برسول الله المصطفى (صلى الله عليه وآله) ووصيه المرتضى (عليه السلام)، ولكنهما كانا يتعوذان بنظائر هذا الدعاء الذي يستبطن اسم الله الأعظم للوقاية من جميع الشرور فإنه (الْكَافِي كُلَّ شَيْءٍ، الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ).
لدفع الوسوسة في حوار عيسى (عليه السلام) مع إبليس
فهذا كله بشكل عام، وأما بشكل خاص ولدفع وسوسة الوسواس الخناس، في العبادة أو الطهارة والنجاسة أو غير ذلك، فإن الرواية التالية: تعطينا إحدى الأذكار المفتاحية:
عن ابن عباس قال: (لَمَّا مَضَى لِعِيسَى (عليه السلام) ثَلَاثُونَ سَنَةً بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَقِيَهُ إِبْلِيسُ عَلَى عَقَبَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ عَقَبَةُ أَفِيقٍ:
فَقَالَ لَهُ: يَا عِيسَى (عليه السلام) أَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنْ تَكَوَّنْتَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟،
قَالَ عِيسَى (عليه السلام): بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي كَوَّنَنِي وَكَذَلِكَ كَوَّنَ آدَمَ وَحَوَّاءَ
قَالَ إِبْلِيسُ: يَا عِيسَى فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؟،
قَالَ عِيسَى: يَا إِبْلِيسُ بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي أَنْطَقَنِي فِي صِغَرِي وَلَوْ شَاءَ لَأَبْكَمَنِي،
قَالَ إِبْلِيسُ: فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَتَنْفُخُ فِيهِ فَيَصِيرُ طَيْراً؟،
قَالَ عِيسَى (عليه السلام): بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَ مَا سَخَّرَ لِي،
قَالَ إِبْلِيسُ: فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَشْفِي الْمَرْضَى،
قَالَ عِيسَى (عليه السلام): بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي بِإِذْنِهِ أَشْفِيهِمْ وَإِذَا شَاءَ أَمْرَضَنِي، قَالَ إِبْلِيسُ: فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى؟،
قَالَ عِيسَى (عليه السلام): بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي بِإِذْنِهِ أُحْيِيهِمْ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُمِيتَ مَا أَحْيَيْتُ وَيُمِيتَنِي،
قَالَ إِبْلِيسُ: يَا عِيسَى فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَعْبُرُ الْبَحْرَ فَلَا تَبْتَلُّ قَدَمَاكَ وَلَا تَرْسُخُ فِيهِ؟،
قَالَ عِيسَى (عليه السلام): بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي ذَلَّلَهُ لِي وَلَوْ شَاءَ أَغْرَقَنِي،
قَالَ إِبْلِيسُ: يَا عِيسَى فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكَ يَوْمٌ تَكُونُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ دُونَكَ وَأَنْتَ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ تُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَتُقَسِّمُ الْأَرْزَاقَ؟
فَأَعْظَمَ عِيسَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ إِبْلِيسَ الْكَافِرِ اللَّعِينِ فَقَالَ عِيسَى: سُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَرِضَى نَفْسِهِ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً حَتَّى وَقَعَ فِي اللُّجَّةِ)[31].
وان (سُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ) تعني فيما تعني: تنزيهه تعالى عن ثلاثي الجهل والعجز والظلم عن أن يلفّ أي جزء من أجزاء أرجاء مملكته.. فكل جزء جزء وكل ركن ركن ينطق بعلمه المحيط وقدرته اللامتناهية وعدله المطلق وحكمته المذهلة.. فإننا ننزه الله تعالى تنزيهاً يملأ سماواته وأرضه.. إذ يتناغم مع ما هي عليه من الكمال والبهاء والجمال.. فلكي يطابق الإثبات الثبوت كان لا بد من تنزيهه بالقول (سُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَرِضَى نَفْسِهِ).
وبذلك يشحن المؤمن طاقاته الروحية ويزداد تألقاً وقوة ويزداد الشيطان ووسواس الإنس والجان ضعفاً وعجزاً وابتعاداً ولا يبقى من الاكتئاب واليأس أثر ولا يبقى للوسواس القهري والأمراض النفسية مجال ولا خطر.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق