إسلاميات - القرآن الكريم

هل الحل العسكري هو الحل الأول؟

وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ (6)

حكوماتنا إذا كانت صادقة وجادة في مواجهة الغرب ومواجهة إسرائيل فعليها العمل بالآيات الحيوية في القرآن الكريم إذ بها الحياة وبها العزة والسؤدد والانتصار والازدهار وتوفير الحريات للناس وإقرار نظام التعددية والتنافس الإيجابي والإحسان إلى الجميع زائداً العدل والتعاون مع مختلف شرائح المجتمع والمعارضة وإطلاق أيدي الناس في إحياء...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (سورة آل عمران: الآية 140).

وان من أهم عوامل المداولة، الحروب حيث تنتصر دولة، بحق أم بباطل، وتخسر أخرى، بحق أو بباطل.. وفي العصر الحاضر ومن الناحية الظاهرية يبدو الغرب منتصراً وتبدو إسرائيل منتصرة في حروبها العدوانية.

سؤال في العمق: ما هو الموقف من الاستعمار؟ ومن إسرائيل؟

وهنا تطرح أسئلة في العمق، يجيب عليها كل فريق بنحوٍ، فهل الموقف تجاه الاستعمار والعدو المحتل هو الجهاد؟ أم المقاطعة فقط؟ أم الاستسلام والتطبيع؟ أم الهدنة؟ أم التحالف؟ أو التفصيل بحسب الظروف والشروط الزمكانية ومعادلات موازين القوى بين الطرفين وبحسب توقعات المستقبل ومآلات الأمور، أو التفصيل بحسب الدول: فالتحالف مع هذه والهدنة مع تلك والحرب مع ثالثة والمقاطعة مع رابعة وهكذا؟

ولكي نصل إلى إجابة أكثر عمقاً ودقةً وحكمةً، لا بد أن نستعرض الحقائق التالية:

الأدلة على حسن الجهاد الدفاعي ووجوبه

الحقيقة الأولى: انه لا شك في حُسن الجهاد الدفاعي ووجوبه، سواء على مستوى الأمم والشعوب إذا غزاها عدو غاشم، أم على مستوى الأفراد إذا هاجمهم معتد ظالم كعدو مسلح كَلِصٍ أو سفّاح أو شبه ذلك.

والذي يحكم بالـحُسن، بل بالوجوب، أو يدركه، هو جميع الجهات الخمس الآتية: العقل، والعقلاء، والفطرة، والغريزة، والشريعة.

وذلك على حسب مختلف الملاكات التي اعتبرت المستند لكل منها، والمختار عدم اختصاص بعضها ببعض كما فصّلناه في بعض البحوث السابقة، والملاكات هي:

دفع الضرر المحتمل، جلب المنفعة البالغة، شكر النعمة، والاستحقاق الذاتي[1].

والحاصل: انه يحسن بل يجب الدفاع عن النفس والعرض والأسرة والعشيرة والشعب والوطن والأمة، في مقابل كل عدو غازٍ ومعتدٍ آثم.

ولا شك ان إسرائيل عدو غاصب ظالم غازٍ آثم.

الجهاد مقيّد بالقدرة وبالمصلحة

الحقيقة الثانية: ان الدفاع والجهاد الدفاعي مشترط بشرطين أساسيين، ضمن شروط متعددة:

الأول: القدرة (الشخصية في الدفاع الشخصي، والنوعية في الدفاع العام): وهو من الشرائط العامة للتكليف، فإن العاجز غير مكلف، وإذا كان الشرع قد أسقط الجهاد (الابتدائي) عن الشيخ الكبير والأعمى والأعرج مع قدرتهم فما بالك إذا لم تكن هنالك قدرة أصلاً؟ سواء فيه أم في الدفاعي قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها)[2]، و(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها)[3].

الثاني: المصلحة العامة، وذلك لأن الأحكام العقلائية تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلَّقات وجميع أحكام الشريعة المقدسة نابعة من المصالح والمفاسد دون شك، وعلى ذلك بناء العقلاء من كل الملل والنحل؛ ألا ترى انه لو احتل العدو قرية من قرانا مثلاً وعلمنا اننا لو دخلنا في حرب معه فإنه سيحتل جميع بلدنا حينئذٍ، فهل يوجد عاقل يأمر بالحرب العسكرية في هذه الحال أم لا بد من سلوك طرق أخرى؟ وكذلك لو اقتصر العدو المحتمل على غصب البيوت والمزارع وعلمنا اننا لو دخلنا معه في معركة عسكرية، غير متكافئة، فإنه سينتصر علينا ويعتدي على ألوف الأعراض أيضاً زائداً غصبه البيوت فهل يوجد شريف أو عاقل يختار حينئذٍ هذا الخيار؟

النبي (صلى الله عليه وآله) فترة مكة لم يحكم بالجهاد رغم عدوان المشركين الرهيب

ويشهد لذلك ويوضحه ان النبي (صلى الله عليه وآله) طوال فترة مكة، التي استمرت حوالي 13 سنة، لم يأمر المسلمين بالجهاد الدفاعي ولم يتصد له مع أن كفار قريش كانوا يعتدون على المسلمين بالسجن والضرب والإيذاء بل وبصنوف التعذيب وحتى القتل كما صادروا قسماً من أموال المسلمين وبيوتهم..

(قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلب لهم، ويعصمه الله منهم)[4].

ومع أن النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه كان أعظم الأبطال وكان معه الإمام علي (عليه السلام) الذي قال: (وَاللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ‏ الْعَرَبُ‏ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا)[5]، ثم أمثال حمزة أسد الله وأسد رسوله، الذي قيل انه اسلم سنة ستة للبعثة، إلا انه لم يدافع عن أي منهم ولا حتى أمر المسلم المعذّب بأن يدافع عن نفسه.

نماذج من تعذيب المشركين للمسلمين ومصادرة أموالهم

فمثلاً: كان أمية بن خلف يجرد بلالاً من ملابسه ويرميه على رمال الصحراء الحارقة في حمارّة القيظ ويضع فوق صدره صخرة ضخمة كي يجبره على أن يقول كلمة الكفر، لكنه كان يواصل قوله (أحد...أحد)

(وكان بلال، مولى أبي بكر، لبعض بني جمح، مولدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح، وكان اسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتتوضع على صدره، ثم يقول له: (لا والله) لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد)[6]، ولم يأمر النبي أحداً بالدفاع عنه، ولا أمره هو بأن يهاجم مولاه أمية.

وكذلك حال ياسر وسمية أبوي عمار بن ياسر، اللذين عذبا حتى الموت.

ومصعب بن عمير، ذلك الشاب المرفه، عندما أسلم عذبته امّه بشدة لفترات طويلة.. ثم التحق مع المسلمين في شعب أبي طالب وكان ضعيفاً لا يقوى أحياناً على المشي فكان المسلمون يصنعون من أقواسهم كالمحمل وينقلوه من مكان إلى آخر.. وقد تقشر جلد بدنه كله.

وأما مصادرة قريش أموال المسلمين بعد الهجرة فواضحة.

ففي "تاريخ الرسل والملوك"، قال الطبري:

"فلما خرجوا إلى المدينة، أخذت قريش دورهم وأموالهم بمكة غصبًا ونهبًا."[7]

وأما قبل الهجرة:

(وعن عروة بن الزبير قال: كان صهيب بن سنان من المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا يعذبون في الله بمكة.

قال: أخبرنا هوذة بن خليفة قال: أخبرنا عوف عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت ما بلغت ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك.

فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال ربح صهيب، ربح صهيب)[8].

وعموماً كان المسلمون قبل الحصار وبعده في أشق أنواع العنت ومع ذلك كله لم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) المسلمين بالقتال.. إذ لم تكن المصلحة تقتضي ذلك، حتى إذا هاجر إلى المدينة أذن لهم في القتال (أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى‏ نَصْرِهِمْ لَقَديرٌ * الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)[9].

والأئمة (عليهم السلام) لم يحكموا بالجهاد

وكذلك الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) فإن حكام بني أمية وبني العباس كانوا يقتلون الأئمة واحداً بعد الآخر، كما قتلوا الكثير من شخصيات الشيعة والألوف من عامتهم، ولم يأمر الإمام اللاحق بجهاد الحاكم الجائر الذي قتل اباه وشيعته، حتى أنك ترى ان الإمام السجاد (عليه السلام) بعد الأسر لم يقم بالجهاد دفاعاً عن عقيلات الرسالة وعن الأطفال (لعدم القدرة الظاهرية) وعندما رجع من الشام إلى المدينة لم يحكم بالجهاد (لعدم المصلحة) وحتى انه عندما هاجم مسرف (مسلم) بن عقبة المري المدينة في ذي الحجة عام 63هـ واستباحها ثلاثة أيام وقتلوا من قتلوا وزنى جيشه بالمآت من بنات المسلمين والصحابة، لم يحكم الإمام بالجهاد بل حمل عياله ومن يرتبط به وذهبوا إلى بعض البساتين..

من جرائم الهادي العباسي

وكذلك الهادي العباسي عندما قتل الإمام الكاظم (عليه السلام) وقتل الحسين بن علي شهيد فخ ومعه عشرة آلاف من خيرة الناس.. وقتل... وقتل

(وروى المسعودي أن أجساد شهداء فخ بقيت ثلاثة أيام على وجه الأرض حتى أكلتهم السباع والطير[10] ومن هنا وصفها الإمام الجواد عليه السلام بأنه لم يكن لأهل البيت عليه السلام بعد الطفّ مصرع أعظم من فخّ[11].

ثم انه فوق ذلك (بعد أن فشلت الثورة وقتل الحسين وأصحابه بفخ أمر والي المدينة بالهجوم على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم، فهدّمها وأحرق مزارع النخيل، وقبض ما بقي من أموالهم.[12]

كما أجبر موسى بن عيسى العباسي أهالي المدينة على التبري من آل علي عليه السلام والنيل من آل أبي طالب.[13]

أما الهادي العباسي فقد تضاربت الروايات في ردّة فعله، منها: ما تؤكد أن الرجل اتخذ موقفاً صلبا من الثائرين وأنّه قتل الكثير من الأسرى وقام بالمثلة بالقاسم بن محمد بن عبد الله العلوي حيث قطع بدنه إرباً إرباً، وسخط الهادي على موسى بن عيسى لقتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن وترك المصير به اليه ليحكم فيه بما يرى.‏ في حين تقول الرواية الأخرى: إنه لما استبشر الذين أتوا برأس الحسين صاحب فخ، بكى الهادي وزجرهم، وقال: «أتيتموني مستبشرين كأنكم أتيتموني برأس رجل من الترك أو الديلم، إنه رجل من عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ألا ان أقل جزائكم عندي أن لا أثيبكم شيئاً».[14])[15]، مع ان أدنى جزائهم كان هو القصاص.

وأما موقف الإمام الكاظم فقد ذكرت المصادر عدة مواقف له عليه السلام تجاه صاحب فخ وثورته، ولم يكن منها أبداً الحكم بالجهاد والكفاح المسلح، ومن مواقفه (عليه السلام) (في مجلس حضر فيه بعض العباسيين والعلويين، فعندما أتى الجند برأس الحسين، قال الإمام عليه السلام: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى واللّه مسلما صالحا صوّاما قوّاما آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله)[16].

وروي أن الإمام الكاظم عليه السلام كان يبكي شهداء فخّ ويبتهل الى الله بهلاك عدوهم ويدعو عليه بالويل والثبور والعذاب الأليم، كما تكفّل اليتامى والاطفال والأرامل العلويات.[17]

دعبل وواقعه فخ

وأشار دعبل الخزاعي الشاعر الشيعي في قصيدته التائية إلى واقعة فخ، وقد قرأها على الإمام الرضاعليه السلام:[18]

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي --- نجوم سماوات بأرض فلاة

قبور بكوفان وأخرى بطيبة --- وأخرى بفخ نالها صلواتي[19]

وكذلك الإمام الرضا (عليه السلام) فإنه لم يأمر بالجهاد..

كل ذلك إما لعدم توفر الشرط الأول أو لعدم توفر الشرط الثاني.

ويستثنى من ذلك الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) الذي جاهد بنفسه وأهل بيته لأن أصل الإسلام كان في خطر ولو لم يجاهد لقضوا على الإسلام تماماً، ولم يتكرر ولن يتكرر مثل هذا الظرف بعد ذلك أبداً، لذا لم يحكم الأئمة (عليهم السلام) من الإمام السجاد حتى الإمام المنتظر بالجهاد (أي لم تصل الأمور إلى درجة انه لو لم يحكم الإمام بالجهاد لقضوا على أصل الدين واستأصلوه من جذوره).

المرجعية الأولى: شورى الأمة

والخلاصة: ان الحكم بالجهاد والكفاح المسلح تابع لحدود القدرة وللمصلحة العامة.

الحقيقية الثالثة: من الذي يشخّص المصلحة العامة؟

السؤال المطروح هو من يشخص المصلحة العامة؟ ومن الذي يحكم بأن الظرف يقتضي إعلان الكفاح المسلح أو يقتضي انتهاج طرق أخرى أجدى وأنفع وأقل ضرراً؟.

الجواب: الذي يحكم في ذلك هو المرجعية التي حددها تعالى بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ)[20]، فالمرجع هو أكثرية الناس وأهل الحل والعقد، إذ أن أمر الحرب والسلم وسائر الشؤون العامة هو (أَمْرُهُمْ) لأن الحرب تكبّد الناس، جميع الناس، ضرائب باهظة إما في أنفسهم أو في أهاليهم أو في دورهم ومنازلهم أو في أرزاقهم وفي الوضع العام عموماً فهو (أَمْرُهُمْ) وليس أمر الحاكم فقط والآية تقول (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ) وإذا لم يكن أمر الحرب والسلم أمر الناس فما هو أمرهم؟ ولقد فصّلنا ذلك في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) بإسهاب شديد وطرحنا مختلف المناقشات والأجوبة.

كيف قاد المجدد الشيرازي ثورة التبغ؟

ولقد جسّد الميرزا الشيرازي الكبير في قيادته لثورة التبغ أنصع الصور لذلك، فقد احتل البريطانيون إيران عبر أربعمائة ألف جندي تحت ستار شركة التبغ، إذ ان امتياز إنتاج وبيع التبغ منح للبريطانيين حصرياً من قبل ناصر الدين شاه.. وهنا وتحت ذريعة إدارة العملية بدأوا بإرسال الألوف من رجال الجيش والاستخبارات بظاهر مدراء وتجار ومستثمرين، وبواقع جيش قوي متكامل حتى بلغوا أربعمائة ألف.. وعندما أصدر المرجع الأعلى للشيعة قراره التاريخي (اليوم استعمال التبغ في حكم المحاربة مع إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف) رفض الإنجليز الرضوخ لحكمه واستمروا في احتلال إيران، ذلك الاحتلال غير المصرح به.

والملاحظ ان المجدد الشيرازي لم يصدر أمراً بالكفاح المسلح بل أصدر أمراً بالمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية ولكن الإنجليز رفضوا الاستسلام إذ كانت بينهم وبين الشاه معاهدة مكتوبة.. لكن الضغوط الجماهيرية بقيادته وقيادة العلماء تحت لوائه استمرت واستمرت الحركة الاحتجاجية السلمية العامة لحوالي السنة حتى اضطروا إلى التراجع والخروج من إيران..

والملفت جداً ان المجدد الشيرازي الكبير كان يجتمع كل ليلة مع سبعين مجتهداً وحكيماً من أول الليل حتى الصباح حيث كان هذا المجلس، بزعامته، يدير عملية قيادة الثورة إذ كانت تصله من إيران باستمرار الرسائل والأخبار فكان يتخذ المواقف بعد استشارة هذا المجلس الكبير جداً بمقاييس ذلك اليوم، وكان كبار العلماء أمثال السيد البهبهاني في إيران يتواصلون معه باستمرار لتحديد الموقف في مختلف الأبعاد.

وهكذا انتصر المجدد الكبير.. ليس بالقوة المسلحة، ولعله لو فعل لسقط الألوف من القتلى وطال الأمر سنين طوالاً ولم يكن يُعلم بعد ذلك كله مآلات الأمور، وإنما انتصر بالمقاطعة الشاملة الاقتصادية والحركة السلمية الجماهيرية الرافضة.

اتفاقية التبغ بين شاه إيران وبريطانيا

وكما يقول المؤرخون:

(في مارس/ آذار سنة 1890 وقع شاه إيران ناصر الدين شاه اتفاقا يمنح احتكار تجارة التنباك الإيراني لشركة بريطانية يرأسها أحد المقربين من رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت اللورد ساليزبوري.

وفي كتابه "الحركة الاجتماعية في القرن العشرين في إيران: الثقافة والإيديولوجية وأطر الحشد" يقول الباحث ستيفن بولسون إنه وفقا لذلك الاتفاق تم سحب حق بيع وشراء التبغ والمنتجات المرتبطة به من أيدي الإيرانيين ومنحه للشركة البريطانية، في الوقت الذي كان فيه نحو 20 في المئة من الإيرانيين يعملون في قطاع التبغ.

فبمقتضى هذه الاتفاقية تشتري الشركة المحتكرة وحدها كل المحصول من المزارعين، كما بات على تجار التبغ الحصول على إذن من الشركة صاحبة الامتياز والدفع فورا لها.

كما نصت هذه الاتفاقية أيضا على حصول الشاه على 15 ألف جنيه استرليني من الشركة و25 في المئة من صافي الأرباح.

فتوى التحريم

ويقول الباحث ستيفن بولسون في كتابه إن زعيم الحوزة الشيعية ميرزا محمد حسن الشيرازي، الذي كان يتخذ من النجف في العراق مقرا له، بعث رسالة إلى الشاه يعترض فيها على تلك الاتفاقية، محذرا من أنها ستؤدي إلى إضعاف الدولة.

وتكررت الرسائل دون أن يهتم بها الشاه، فأصدر الشيرازي فتواه الشهيرة التي حرم فيها التنباك، معتبرا التدخين واستخدام مشتقات التبغ بحكم محاربة الإمام المهدي.

واستجاب الإيرانيون للفتوى فتوقفوا عن استعمال التبغ وحطموا الأراجيل، وبلغ الأمر إلى حد أن زوجات الشاه وخدمه توقفوا عن التدخين، بحسب بولسون.

واستمر تصاعد الوضع إلى حد قيام قوات الشاه بإطلاق النار على المتظاهرين فلقي 7 منهم مصرعهم وعلى إثر ذلك اضطر الشاه لإلغاء امتياز الاحتكار الذي منحه للشركة الانجليزية ودفع تعويضا.

وحول نتائج ثورة التبغ أو التنباك في إيران، تقول دائرة المعارف البريطانية إن ثورة التبغ كشفت قدرة طبقة البازار على إحداث تغيير. كما أظهرت أيضا أن عدم الرضا الشعبي يمكن أن يحد من سلطات الشاه.

وبينت ثورة التبغ كذلك تنامي نفوذ رجال الدين الشيعة الذين لعبوا دورا مهما ضد الاحتكار وبات لهم تأثير كبير على التغيرات السياسية المقبلة.

وتقول الموسوعة البريطانية إن ثورة التبغ مهدت للثورة الدستورية التي حدثت خلال حكم مظفر الدين شاه بين عامي 1896 و1907)[21].

وبعض التفصيل عن هذه الثورة السلمية الناجحة:

وصلت الأزمة ذروتها حين صدرت فتوى تُنسب إلى المرجع الشيعي محمد حسن الشيرازي سنة 1309 هـ / 1891 م حَرم فيها التنباك، جاء فيها: «استعمال التنباك والتوتون باي نحو كان بحكم محاربة امام الزمان عجل الله فرجه»[22].

منح امتياز التنباك

في العشرين من آذار سنة 1890 وقّع ناصر الدين شاه أثناء سفرته الثالثة إلى أروبا وإقامته في إنكلترا اتفاقاً لحصر تجارة التوتون والتنباك الإيراني لمدة 50 سنة بشركة إنكليزية يرأسها المايجور جيرالد تالبوت الذي كان من المقربين لرئيس الوزراء الإنكليزي آنذاك اللورد ساليزبوري.

وحسب هذا الاتفاق سُحب حق البيع وشراء التوتون والتنباك والمنتوجات المرتبطة بها من أيدي الإيرانيين وأعطي لصالح انكلترا. في وقت الذي كان نحو 20% من الإيرانيين يعملون في قطاع التبغ.

عارض هذا الاتفاق علماء الدين وبعض من الوطنيين، حيث اعتبروه تهديدا لاستقلال بلادهم في المستقبل. وقد بذل هؤلاء العلماء جهودا كبيرة في سبيل إقناع الشاه لإلغاء الامتياز الممنوح لتلك الشركة الإنكليزية ولكن دون جدوى. فتوجه العلماء وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني نحو المرجع الكبير الميرزا محمد حسن الشيرازي الذي كان يقيم في سامراء وأوضحوا له الموضوع ليجدوا حلاً[23].

فتوى تحريم التنباك

قام آية الله الشيرازي في البداية بإرسال رسائل عديدة إلى الشاه يطالبه فيها بإلغاء الاتفاقية والكف‌ عن‌ مواصلة‌ المشروع‌، لكن الشاه واجه هذه المطالب بالرفض والتعنت، فعندما يئس الشيرازي من إقناعه بإلغائها، أصدر فتواه الشهيرة حَرّم فيها التنباك، والتي كان نصها:[24]،[25]،[26].

«بسم الله الرحمن الرحيم: اليوم استعمال التنباك والتوتون بأي نحو كان بحكم محاربة إمام الزمان عجل الله فرجه»

فبعد أن أصدر آية الله محمد حسن الشيرازي فتوى حرمة استعمال التبغ التزم المسلمون في إيران بها[27] وكسروا النارجيلات وكل آلة تستعمل للتدخين. كما أغلقت‌ جميع‌ محلات‌ بيع‌ التبغ‌ والتنباك‌.

أجبر الشاه أحد رجال علماء الدين بالتدخين في المسجد لإنهاء المقاطعة، ولكنه رفض ذلك، فأمر الشاه بنفيه من طهران. لكن ثار الناس‌ وتجمعوا للامتناع من خروجه وأدى ذلك إلى صدام راح ضحيتهُ اثنين من رجال الدين في مظاهرة حاشدة.

فبدأت‌ الثورة بالتصاعد فاضطر الشاه‌ على التراجع والغاء الامتياز الممنوح للشركة الإنكليزية. فبعد مفاوضة‌ مع الشركة‌، تم‌ الاتفاق‌ على إلغاء الامتياز‌ مقابل‌ دفع غرامة‌ قدرها 500 ألف‌ ليرة‌ إلى الشركة‌[28].

المرجعية الثانية: الاستشارة

فهذا هو الرأي الذي نراه الأصوب، ولكن ان رفضَ رافضٌ فكرة مرجعية الشورى (شورى الأمة) فنقول: سلّمنا لكن لا مناص حينئذٍ من مرجعية أخرى أضعف من مرجعية الشورى لكنها تبقى ضرورية جداً وواجبة شرعاً وهي مرجعية استشارة الأمة لصريح قوله تعالى: (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)[29] وضمير (هم) في (شاوِرْهُمْ) عام يشمل المفكرين والسياسيين وعلماء الاقتصاد والاجتماع وأهل الحل والعقد كما يعم عامة الناس ويشمل الموافق والمخالف والمعارضة والموافقة، كما هو أوضح من أن يسطر وأجلى من أن يحتاج إلى أن يبرهن عليه.

وذلك سواء أقلنا بأن (فإذا عزمت) يعني (على ما أدت إليه المشورة) كما ذكرناه في ذلك (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) يعني (فإذا عزمت على ما أدى إليه رأيك) كما قاله جمع.

وذلك هو صريح ما أمر به الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر إذ قال: (وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ)[30].

والفرق بين العلماء والحكماء أن العلماء شأنهم العقل النظري والحكماء شأنهم العقل العملي إذ الحكمة وضع الأشياء مواضعها، والحاصل انه بالعلم والخبرة تتكامل الرؤية وتنجح الخطط.

بل انه (عليه السلام) اعتبر الناقد والمعترض المحتج هو الذي يجب أن يكون المقرّب فقال: (ثُمَ‏ لْيَكُنْ‏ آثَرُهُمْ‏ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ

وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ وَلَا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ)[31].

للجهاد أنواع، وقد تكون الحرب العسكرية آخر القائمة

الحقيقة الرابعة: الأولوية للافضل، لا للعسكر وإذا تقرر أن الجهاد الدفاعي مما لا شك فيه، يبقى تحديد نوع الجهاد الواجب في هذا الظرف أو ذاك ذلك، أن الجهاد على أنواع، فإن الحروب مختلفة: فهناك الحروب العسكرية، والحروب الاقتصادية، والحروب الإلكترونية، والحروب الثقافية، والحروب الدبلوماسية، والحروب الشعبية أي المبنية على المظاهرات والإضرابات السلمية.

فمن قلة التبصر أن يحصر الشخص الحرب بالحرب العسكرية، خاصة مع تطور العلم وقد أثبتت لنا جريمة إسرائيل الكبرى في لبنان أخيراً: أن الذي يحسم المعركة هو الحرب الإلكترونية في بعض الحالات على الأقل.

وكذلك الحروب الاقتصادية فإنها كثيراً ما تركع شركات أو تخضع دولاً.

نموذج الحركة الشعبية في افريقيا الجنوبية

وكذلك الأمر في حروب الاحتجاج الشعبي السلمي العام الشامل:

ومن أمثلتها إضافة إلى الهند، إفريقيا الجنوبية وكما لخصه بعض الباحثين:

النضال الجماهيري الذي خاضه الشعب الجنوب إفريقي ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) الذي فرضته الحكومة البيضاء منذ عام 1948.

وقد شملت المقاومة العديد من الأشكال والأساليب التي ساهمت في إسقاط النظام العنصري وتحقيق الديمقراطية.

1. المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC):

تأسس عام 1912 وكان القوة الرئيسية التي قادت الكفاح ضد الفصل العنصري.

قاده شخصيات بارزة مثل نيلسون مانديلا وأوليفر تامبو ووولتر سيسولو.

2. حركة الوعي الأسود (Black Consciousness Movement):

بقيادة ستيف بيكو في السبعينيات والتي ركزت على تعزيز الوعي الذاتي والفخر بالهوية الإفريقية بين السود.

وقد شهدت البلاد مظاهرات كبرى مثل انتفاضة سويتو عام 1976، حيث احتج الطلاب على فرض اللغة الأفريكانية في التعليم.

كما كانت الإضرابات العمالية أداة فعالة للضغط على النظام.

كما فرض المجتمع الدولي عقوبات اقتصادية وثقافية على نظام الفصل العنصري.

تم عزل النظام من قبل المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة.

ثم بدأت مفاوضات رسمية بين الحكومة وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي في أواخر الثمانينيات.

أُطلق سراح نيلسون مانديلا عام 1990، وأُجريت أول انتخابات ديمقراطية متعددة الأعراق عام 1994.

وانتهى نظام الفصل العنصري رسميًا عام 1994 بفوز نيلسون مانديلا في أول انتخابات حرة، مما جعل جنوب إفريقيا نموذجًا عالميًا للانتقال السلمي من القمع إلى الديمقراطية.

وعليه: فإن من الجمود الفكري أن يتوهم المرء أن الحروب العسكرية هي اللازمة والحتمية والخيار الوحيد وأن مَن يدعو إلى غيره.. كذا وكذا..

مثال طريف على الجمود الفكري

ومن الأمثلة الطريفة على الجمود الفكري ما نقله بعض الكتاب المصريين عن بعض المتحمسين المسلمين الذين حاربوا مع مصر ضد إسرائيل في عام 1967 حيث انهم، وخلافاً لأوضح التكتيكات العسكرية، قالوا علينا أن نلتزم حرفياً بالآية الشريفة التي تقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقاتِلُونَ في‏ سَبيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)[32]، فبدل أن يتفرقوا في عدة مواضع من صحراء سيناء كي لا تصيبهم جميعاً قذيفة واحدة أو صاروخ واحد مثلاً، تجمعوا في مكان واحد (كالبنيان المرصوص – بزعمهم) وبدأوا إطلاق النار على إسرائيل فما كان من العدو إلا أن أطلق عليهم قذيفة واحدة قتلتهم جميعاً!! والغريب أن آخرين ممن علموا بالفاجعة، بقوا مصرين على نفس الفكرة واننا سنحارب صفاً واحداً وإن قتلنا دخلنا الجنة!

إن الإصرار على نوع واحد من الحروب، دون دراسة المعطيات الميدانية، لا يعني إلا إعانة العدو على أنفسنا وإلا التوقيع على الهزيمة.. والغريب أن البعض يفعل ذلك ويفتخر!

وبكلمة: فإن تغيير الاستراتيجية وتطويرها ليس استسلاماً بل هو تحديد للأنفع والأجدى واختيار للأصلح وصولاً إلى النصر المؤزر بإذن الله تعالى.

محورية العوامل المساندة

الحقيقة الخامسة: العوامل المساعدة

ولكن ومع ذلك كله، فإن هنالك قوم لا يزالون مصرين على خيار الحل العسكري كعامل وحيد أو عامل أساس ورئيس مع تهميش لسائر العوامل.

نقول لهؤلاء ولغيرهم أيضاً: سلّمنا ان الحل العسكري عامل أساس، ولكن لكي نربح المعركة لا بد من مكمّلات محورية ودعائم وعوامل مساعدة أساسية، بعضها يتعلق بنا كأشخاص ويمكن لكل منا أن يقوم به، وبعضها يرتبط بأية حكومة تتبنى خيار الحرب العسكرية:

أما ما يرتبط بنا وما يتأتى منا فمهام وأدوار متعددة نشير إلى احداها الآن:

الحركة الحقوقية العالمية الضاغطة

وهو: الحركة الحقوقية الضاغطة والشاملة وعلى مستوى العالم كله..

والمؤسف ان كثيراً منا يطلق الشعارات الرنانة ضد إسرائيل أو غيرها، لكنه على مستوى العمل لا يقدم شيئاً مع ان ما يمكن أن يقدمه هو الكثير الكثير اقتصادياً، دبلوماسياً، وحقوقياً وغير ذلك ولكن نكتفي الآن بالجانب الحقوقي:

فلو أن المحامين المسلمين، وهم بعشرات الألوف في البلاد الإسلامية، جعلوا جزء من همهم اليومي التحرك الحقوقي لاسترجاع فلسطين، أو على الأقل للضغط المكثف على إسرائيل بأنواع شتى، أو لإعمار البقيع، أو للضغط على حكومات العديد من البلاد الإسلامية التي ضيّقت على أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ومنعت حتى إقامة المجالس الحسينية، بل واعتبرت تأسيس حسينية واحدة جريمة، لاختلف الأمر اختلافاً كبيراً.

ديفير الذي قاد 500 محامي ضد إسرائيل

ويكفي المثال التالي كشاهد صدق على ذلك وهو جيل ديفير (1956-2024) الذي كان محاميًا فرنسيًا بارزًا، متخصصًا في القانون الدولي، وناشطًا في الدفاع عن القضايا الإنسانية، خاصة القضية الفلسطينية. بدأ مسيرته المهنية كممرض قبل أن يتحول إلى المحاماة، حيث انضم إلى نقابة المحامين في ليون، فرنسا، وأصبح محاضرًا في كلية الحقوق بجامعة "ليون 3".

فلقد كرّس ديفير جزءًا كبيرًا من حياته المهنية للدفاع عن الحقوق الفلسطينية. في عام 2009، كان أحد المتحدثين باسم مجموعة مكونة من 350 منظمة غير حكومية، يمثلها 40 محاميًا، حيث قدموا طلبًا إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم الحرب التي ارتكبت خلال حرب غزة بين عامي 2008 و2009.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، قاد ديفير فريقًا قانونيًا مؤلفًا من جمعيات حقوقية وأكثر من 500 محامٍ من جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

في يوم صدور المذكرات، قال لابنه: "الآن يمكنني أن أموت وأنا مرتاح". ورغم ألم المرض الذي لم يفارقه حتى الرمق الأخير، أصرّ على التحدث عن هذا الانتصار القانوني الاستثنائي لوسائل الإعلام.

توفي جيل ديفير في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عن عمر ناهز 68 عامًا، بعد صراع مع المرض. ورغم المرض الذي ألمّ به منذ أربع سنوات، واصل نشاطه القانوني والدفاع عن القضايا العادلة حتى الرمق الأخير. يُعتبر ديفير رمزًا للنضال القانوني من أجل حقوق الإنسان، وترك إرثًا قانونيًا وإنسانيًا سيستمر تأثيره لسنوات قادمة)[33].

نعم توجد تحركات من محامين عرب ومسلمين وهي جيدة لكنها بسيطة جداً بالقياس إلى مثل حركة ديفير.. وأما بالقياس إلى قدرات المسلمين فهي أشبه بالعدم، فمثلاً: (في نوفمبر 2024، قام محاميان مغربيان، هما النقيب عبد الرحيم الجامعي والمحامي خالد السفياني، بتوجيه رسالة إلى الأمين العام لاتحاد المحامين العرب، يدعوان فيها إلى تكثيف الجهود القانونية لاعتقال ومحاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وآخرين أمام المحكمة الجنائية الدولية، بتهم ارتكاب "الإبادة الجماعية" في قطاع غزة.

في نفس السياق، تقدمت مجموعة من المحامين الأتراك بقيادة المحامي بوراك بيكير أوغلو، بطلب رسمي إلى المحكمة الجنائية الدولية لاعتقال عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بتهمة ارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة).

على مستوى الحكومات:

وأما على مستوى الحكومات فهناك أيضاً أسس نقتصر على بعضها:

الالتزام بأسس الحكومة الرشيدة

1- تقوية الجبهة الداخلية عبر أ- التزام الحكومات العربية أو الإسلامية بالانتخابات الحرة.

ب- وعدم إقصاء المعارضة أو إقصاء من لا يذوب في النظام عن المناصب والمواقع.

ج- والقضاء النزيه الذي لا يتجاوز عن حيتان الفساد المحيطة بالجهاز الحاكم بل حتى التي تشكل جزءاً منه، باعترافهم هم، والذي يحاكم من أنشق عليهم أو لم يعد يرضخ لهم، فقط.

د- وفسح المجال للجميع لتوجيه النقد والنهي عن المنكر لأعلى قمة فأدناها على مستوى التلفزيون والإذاعة الرسمية والجرائد والمجلات أيضاً.

هـ - عدم الاحتجاب عن الناس.

و- استرضاء الشعب والناس، عامة الناس، بمنحهم حقوقهم ولو على حساب سخط البطانة.

والغريب انهم، الحكام، يرضون البطانة، بأنواع الامتيازات الاقتصادية وغيرها، بينما يسخطون العامة.

ونكتفي ههنا ببعض كلمات سيد الأوصياء والحكماء عن البند الخامس والسادس إذ يقول (عليه السلام) في عهده للاشتر:

(وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ، وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ، فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ؟ أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ، فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لَا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ، مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ، أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ).

ثم (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ.

وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ، وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُم‏)[34].

ويقول (عليه السلام): (ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ، فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ.

وَلَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعَةً، وَلَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ، فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ)[35].

ويقول عن الشفافية: (وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ)[36].

تخفيف الضرائب، بدل زيادتها

2- تخفيف الضرائب عن الناس، فإن الحكومات الإسلامية، كالغربية، مولعة بزيادة الضرائب على الناس باستمرار، ورغم ان واردهم من النفط أو الغاز أو غيرهما يكفي ويزيد عن حاجتهم بكثير إلا أن نهمتهم في أموال الناس تزداد بمرور الزمن وقد فصّلت ذلك في كتابي (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن) و(التنمية الاقتصادية في نصوص الإمام علي عليه السلام) وبالأرقام والإحصاء فليراجع.

وعلى أية حال فإن الشعب إذا أثقل بالضرائب فإنه سوف يكره الحكومة.. ولا يعود سنداً لها في أية حرب خارجية فكيف تتوقع هذه الحكومة الانتصار على العدو وقد زعزعت بنفسها جبهتها الداخلية واسخطت شرائح واسعة جداً من الناس إن لم يكن أكثرهم.

وفي هذا الحقل يقول (عليه السلام): (وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا)[37]. وهل تجدون في حكامنا أهتماماً حقيقياً بعمارة الأرض بالزراعة والصناعة والعمران؟ أم تجدون الهمة كل الهمة في استحصال الضرائب وفي زيادتها أيضاً!

وقال (عليه السلام): (فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ وَتَزْيِينِ وِلَايَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ وَتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَرِفْقِكَ بِهِمْ فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَاةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَر).

وهل وجدتم حكامنا خففوا يوماً من الضرائب عن الناس؟ أم انها بمرور الزمن تبتكر أساليب وطرق جديدة لاقتطاع ضرائب أكثر من الناس حتى انهم فرضوا ضريبة حتى على وضع لافتة على الدكاكين والمحلات! أو حتى على تغيير اللافتة، فضلاً عن الضرائب على بيع الدور وشرائها وبيع المحلات وغيرها، بل وهنالك الضريبة على كل شيء تشتريه أو على كثير منها، حسب الدول.

والغريب ان أسعار النفط إذا ارتفعت، يزيدون الضرائب أيضاً بدل أن ينقصوا منها بقدر ارتفاع الأسعار، وإذا انخفضت تحججوا بانخفاضها ونقص ميزانية الحكومة لزيادة الضرائب.. فهم في كل الحالات يزيدون الضرائب.. ويا للعجب مع أن الأمير (عليه السلام) يقول: (وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ) وكأنهم لا يفقهون قوله (عليه السلام): (وَلَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ...).

كما ويقول: (وَلَا تَبِيعُنَ‏ [النَّاسَ‏] لِلنَّاسِ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ وَلَا دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا وَلَا عَبْداً وَلَا تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَمٍ)[38].

بل ويقول (عليه السلام): (وَاعْلَمْ‏ أَنَّهُ‏ لَيْسَ‏ شَيْ‏ءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ [وَالٍ‏] رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ، فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ)[39]

3- الاهتمام بالطبقة المستضعفة

إذ يقول (عليه السلام): (ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظِ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وَقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى، وَكُلٌ‏ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، وَلَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ [بِتَضْيِيعِ التَّافِهِ‏] بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ، فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ، وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ، مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ وَلَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ. وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ.

وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَ شُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ، ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ‏ وَالْأَنَفَ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ.

الملخص

والحاصل: ان حكوماتنا إذا كانت صادقة وجادة في مواجهة الغرب ومواجهة إسرائيل فعليها العمل بالآيات الحيوية في القرآن الكريم إذ بها الحياة وبها العزة والسؤدد والانتصار والازدهار: (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ)[40].

وتوفير الحريات للناس: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِمْ)[41].

وإقرار نظام التعددية والتنافس الإيجابي (وَفي‏ ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)[42]، (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)[43].

والإحسان إلى الجميع زائداً العدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)[44].

والتعاون مع مختلف شرائح المجتمع والمعارضة أيضاً (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى‏ وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)[45].

وإطلاق أيدي الناس في إحياء الأراضي وحيازة ثروات الأرض (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)[46].

وتحكيم قاعدة الاخوة الإسلامية بين جميع المسلمين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون‏)[47] فكل مسلم هو مواطن في كل بلد حل فيه، دون حاجة إلى إقامة أو فيزا أو غير ذلك.

وإلا، ومن دون ذلك كله، فكيف تنتصر على العدو في الحرب العسكرية وقد قال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُم‏)[48]، (وَأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏)[49].

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم

http://m-alshirazi.com

................................................

[1] يراجع موقع مؤسسة التقى الثقافية m-alshirazi.com

[2] سورة البقرة: الآية 286.

[3] سورة الطلاق: الآية 7.

[4] السيرة النبوية لابن هشام، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر: ج1 ص 317-318.

[5] نهج البلاغة: الكتاب 45.

[6] السيرة النبوية لابن هشام، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر: ج1 ص 317-318.

[7] لم نعثر على المصدر.

[8] ابن سعد، الطبقات الكبرى، دار صادر ـ بيروت: ج3 ص ٢٢٧-228.

[9] سورة الحج: الآيتان 39-40.

[10] المسعودي، مروج‏ الذهب،ج‏ 3، ص 327.

[11] المجلسي، بحار الأنوار، ج ‏48، ص 165.

[12] الطبري، تاريخ الطبري، ج 8، ص 200.

[13] الطبري، تاريخ الطبري، ج 8، ص 200؛ الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 381ـ 382.

[14] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 8، ص 198، 200، 203؛ الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 379، 381.

[15] https://ar.wikishia.net

[16] الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 380.

[17] الأميني، بطل فخ، ص 136 - 137؛ الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 380.

[18] الإربلي، كشف الغمة، ج‏ 2، ص 836.

[19] الإربلي، كشف الغمة، ج 2، ص 839.

[20] سورة الشورى: الآية 38.

[21] https://www.bbc.com تحت عنوان: (حكاية ثورة التبغ التي هزت عرش الشاه في إيران)

[22] النوري، حسين الطبرسي. "النجم الثاقب". موقع جابر البلوشي. مؤرشف من الأصل في 07 نوفمبر 2015.

[23] سیاسة معرفة الإستکبار الأسالیب الثقافیة و الإجتماعیة، مجلة بقية الله، رجب 1414.

[24] حسين الطبرسي النوري، النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجّة الغائب، الجزء : 1 صفحة : 28. نسخة محفوظة 04 أبريل 2018.

[25] عبد الكريم هاشمي نجاد، رحلتي من الظلمات إلى النّور، الجزء : 1 صفحة : 438. نسخة محفوظة 04 أبريل 2018.

[26] قائد ثورة التنباك السيد محمد حسن الشيرازي (المعروف بالشيرازي الكبير)، مؤسسة الأنوار الثقافية العالمية، 2013/03/09. نسخة محفوظة 19 ديسمبر 2016.

[27] آل نجف، عبد الكريم، التطور السياسي للمرجعية الإسلامية في تاريخها المعاصر (1)، مجلة رسالة الثقلين، صفحة:171.

[28] علي اكبر ولايتي، مقدمة فكرية لحركة المشروطة - 4 -، رسالة التقريب.

[29] سورة آل عمران: الآية 159.

[30] نهج البلاغة: الكتاب 53.

[31] نهج البلاغة: الكتاب 53.

[32] سورة الصف: الآية 4.

[33] https://www.awras.com

[34] نهج البلاغة: الكتاب 53.

[35] نهج البلاغة: الكتاب 53.

[36] نهج البلاغة: الكتاب 53.

[37] نهج البلاغة: الكتاب 53.

[38] نهج البلاغة: الكتاب 51.

[39] نهج البلاغة: الكتاب 53.

[40] سورة الشورى: الآية 38.

[41] سورة الأعراف: الآية 157.

[42] سورة المطففين: الآية 26.

[43] سورة البقرة: الآية 251.

[44] سورة النحل: الآية 90.

[45] سورة المائدة: الآية 2.

[46] سورة البقرة: الآية 29.

[47] سورة الحجرات: الآية 10.

[48] سورة محمد: الآية 7.

[49] سورة البقرة: الآية 40.

اضف تعليق