المجتمع إذا بلغ مرحلة التحضر، يبقى مستظلاً بأفيائها عقوداً أو قروناً طويلة إلا انه لا يلبث، وتلك لمحة من لمحات حركة التاريخ، أن يدخل في مرحلة ما بعد التحضر والتي نعني بها هنا: العودة القهقهرية إلى مرحلة ما قبل التحضر، فإذا به يخلع جلباب الحياء ويؤسس نوادي العراة...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (سورة آل عمران: الآية 140).
وقال جل اسمه: (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (سورة الكهف: الآية 59).
الحديث يقع في فصول: الأول: المراحل التي يمر بها الأفراد والمجتمع. الثاني: دروس وعِبر من عمق التاريخ. الثالث: فقه مفردة المداولة (نُداوِلُها) في إطار حركة التاريخ.
مراحل التحضّر وما قبله وما بعده
الفصل الأول: المراحل العامة الأولى المتدرجة التي يمر بها الأفراد والأمم والحضارات، والمراحل هي ثلاثة: مرحلة ما قبل التحضر، مرحلة التحضر، مرحلة ما بعد التحضر.
وهذا التصنيف الثلاثي ما هو إلا صورة أولية مبسطة، وإلا فإن المراحل أكثر تعقيداً وتشابكاً من ذلك فقد تتداخل، وقد تتقارب أو تتباعد وقد تقع بينها مراحل متوسطة متعددة.
والمهم في الأمر دراسة علائم كل مرحلة ومميزاتها فنقول:
لكل مرحلة من هذه المراحل سمات وعلامات مميزة:
ففي الأفراد: تجد أن الطفل يبدأ حياته طبيعياً بمرحلة ما قبل التحضر، وأهم علاماتها: أنه لا يسيطر على انفعالاته ومشاعره: فيبكي عندما يجوع ويصرخ إذا غضب أو يكسر ويضرب، كما يرى ان مجرد (النظر) مملّك له[1]، بل انه في السنتين الأوليين لا يتحكم حتى في قضاء حوائجه الأولية ولا يفهم لقضاء الحاجة في بيت الخلاء مثلاً معنى، حتى إذا كبر تعلم ان يتحكم في مشاعره وانفعالاته واستجاباته تجاه غرائزه وحوائجه وتجاه ما يتوقعه الناس منه، شيئاً فشيئاً..
علامات المجتمع ما قبل المتحضر
1-2- عدم السيطرة على القوتين الغضبية والشهوية
والمجتمع ما قبل المتحضر من علاماته انه لا يسيطر على قوته الغضبية ولا على قوته الشهوية، ولا يخضعهما لقواعد ولا يضبطهما ضمن مجاري شرعية أو عقلائية متواضع عليها.
فعلى سبيل المثال: لقد كانت المرأة في الجاهلية الأولى، المراد بها ما بين آدم ونوح (عليهما السلام) أو بين إدريس ونوح (عليهما السلام)، أو زمن إبراهيم (عليه السلام)، تخرج وعليها الدرع من اللؤلؤ مكشوف الجانبين وتمشي في الطرقات وهي تعرض نفسها على الرجال.
وكما ان البهائم تتسافد في الطريق من غير أن نشعر بذل أو عار، كذلك المجتمع ما قبل المتحضر لا يفهم للحياء معنى ولا للتستر قيمة، عكس المجتمع المتحضر الذي يقنن علاقة الرجل بالمرأة حدوثاً وبقاءً وانتهاءً ويؤطرها بإطار من الذوق الرفيع والمسؤولية المتبادلة والأدب والقانون والحياء والستر والعفاف.
ثم ان المجتمع إذا بلغ مرحلة التحضر، يبقى مستظلاً بأفيائها عقوداً أو قروناً طويلة إلا انه لا يلبث، وتلك لمحة من لمحات حركة التاريخ، أن يدخل في مرحلة ما بعد التحضر والتي نعني بها هنا: العودة القهقهرية إلى مرحلة ما قبل التحضر، فإذا به يخلع جلباب الحياء ويؤسس نوادي العراة ويشيّد شواطئ لهم ثم يهوي في أسفل دركات مهاوي اللاحضرية مع تبنيّه العدمية الجنسية ودعوته الصريحة إلى اللانظام والفوضى في العلاقات، فلا يرى قبحاً في التسافد أمام الناس في الحدائق أو على قارعة الطريق أو الخروج في مظاهرات تتميز بالخلاعة حتى التجرد التام من الملابس أو، الأسوأ من ذلك، يدعو إلى الشذوذ الجنسي علناً بمختلف إشكاله.
3- وأد البنات والإجهاض
وفي نموذج آخر وعلاقة أخرى نجد انه كان المجتمع ما قبل المتحضر يأد البنات علناً، وإذا به يدعو في مرحلة ما بعد التحضر إلى الإجهاض، على أوسع النطاقات جهراً، لا لضرورة قصوى بل لمجرد التشهي.
وعلامة أخرى وهي: ان المجتمع ما قبل المتحضر، ينتهج السرقة طريقاً للحصول على المبتغيات، وإذا بك ترى المجتمع الذي يسمي نفسه المتحضر، وهو في الواقع ما بعد المتحضر الذي ارتكس إلى أسفل دركات السافلين، ينتهج منهج السرقة المقنعة وغير المقنعة منهجاً شاملاً في الحياة.
4- السرقة المقنعة وخفض قيمة العملة
وعلى سبيل المثال: فإن (خفض قيمة العملة) بقرار من حاكم المصرف المركزي، أو بإملاء عليه من الملك أو الأمير أو الرئيس أو القائد أو الحزب الحاكم، يعني سرقة مقنعة شاملة من أموال جميع الناس؛ إذ يسرق بذلك من القوة الشرائية لجميع النقود التي يمتلكها أفراد الشعب حتى أكثرهم فقراً، لكنها سرقة مقنعة بقناع حضاري لذلك لا يفهمها معظم الناس بل حتى من فهمها فإنما يفهمها ملطفة لا تعكس مدى فداحة قبحها.
وخفض العملة سرقة مباشرة لأنه يعني أن الحكومة عندما تعطي الرواتب للموظفين، ولنفرض أن الراتب هو مليون دينار عراقي معدلاً، ففي مرحلة ما قبل خفض العملة كنت تشتري بالمليون عشرة أمتار من الأرض[2] أو أربعة خرفان مثلاً لكنك بعد خفضها لا يمكنك أن تشتري إلا خروفين، أو ثلاثة خرفان أو خمسة أمتار أو سبعة ونصف أو أقل أو أكثر، على حسب نسبة خفضها، وقد تخفضها 10% مما يعني سرقة 10% من القوة الشرائية فتساوي المليون حينئذٍ 900 ألف دينار فقط.
ولو أن الحكومة جاءت إلى بيوت الناس وغصبت من كل واحد مائة ألف دينار من كل مليون، لضجّ الناس ضجيجاً يصل إلى عنان السماء، لكنها في مرحلة (ما بعد التحضر) تفعل الأكثر شيطنة والأقل إثارة: تخفض القوة الشرائية، بكل بساطة 10% أو أقل أو أكثر؟
وهي سرقة مقنعة لأنها تلاعب بالميزان.. فإن العملة ميزان كما أن المتر ميزان، وعلى سبيل المثال فإن بائع القماش قد يسرقك بأن يعطيك 9 أمتار بدل 10 أمتار موهماً إياك انه وضع في الكيس 10 أمتار، فهي سرقة دون شك، لكن السرقة الأشد خبثاً انه يقيس الأمتار العشرة أمامك فتجدها بالفعل عشرة أمتار، وتدفع ثمنها كاملاً، لكن الواقع هو انه كان قد تلاعب بالميزان أي بالمتر الذي قاس به القماش فصنع متراً من 90سم (بدل 100سم) فقد أعطاك عشرة أمتار –أي بامتاره– لكنها في الواقع أقل وكذلك العملة فقد كان الناس في أمريكا قبل عقود[3] يشترون بالألف دولار سيارة واحدة لكنهم، بعد خفض متواصل لسعر الدولار، لا يشترون السيارة نفسها إلا بأربعين ألف دولار! وقد صرح كبار علماء الاقتصاد بأن الدولار انخفض طوال العقود الأخيرة بأكثر من أربعين مرة!
وعوداً إلى علائم الجاهلية والمجتمع ما قبل المتحضر ومظاهرها:
5- النهوة العشائرية
انّ الجاهلية، أو مرحلة ما قبل التحضر التي قد يدخلها المجتمع المتحضر عائداً على أعقابه، تعني فيما تعني، النهوة العشائرية، التي تعد خروجاً على أحكام الشرع وعلى الطريقة العقلائية، إذ يملك، في منطقهم، العم بل وابن العم السلطة على أن يمنع ابنة عمه من الزواج بمن رضيته ورضيها ووافق عليه أبوها، عبثاً لكي يجبرها على الزواج منه، لا.. بل حتى لمجرد العناد فيرون له الحق في أن يمنعها من الزواج بأي شخص أبداً حتى تموت!
إنها جاهلية قد تتصف بها عشيرة تخرّج شيخها وأبناؤها من أرقى الجامعات، لكنها أخلاق جاهلية وعقلية ما قبل متحضرة.
6- قساوة الحكام وهمجيتهم
وعلى مستوى الحكام، فإن الحاكم الذي قال عنه الإمام علي (عليه السلام) بـ (وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق)[4]، والذي يسحق حقوق الناس ويصادر أموالهم يعدّ التجسيد الآخر للشخص الجاهلي الذي يجسد مرحلة ما قبل التحضر وإن كان متخرجاً من أرقى الجامعات الغربية.. وذلك فيما إذا كان مستبداً جباراً وإن كان يعد من أذكى الأذكياء بمنطق مكيافيللي.
ويكفي كشاهد شديد الدلالة على ذلك، ذلك الحاكم الجائر المعروف الذي كان يمتلك قلباً شديد القساوة لكنه كان يتظاهر بالحلم ويسعى في مواطن شتى للتأشير على ذلك، إلا انه كان ينتقم من أعدائه بقتلهم غِيلة، وبـ (ان لله جنوداً من عسل) وبالمؤامرات التي تحاك في ظلم الليل البهيم.
ومن أغرب القصص الكاشفة عن ساديته ومكره في الوقت نفسه طريقة انتقامه من إعرابي بسيط شر انتقام ولكن مع التظاهر الشديد بالسماحة والحلم حتى أنك لا تعلم بانه هو الذي وجّه ذلك الإعرابي إلى موت محتم بلفتة شيطانية بارعة.. فقد نقل ان إعرابياً متهوراً طائشاً جمعه وأصحابَه مجلسٌ فبدأ يسرد بطولاته فقال له أحدهم إن كنت شجاعاً حقاً فأذهب إلى الخليفة[5] واشتمه أمام الناس! فقال: نعم.. وما أسهل ذلك! فقصد الخليفة (أي المسمى به) وصلى في المسجد خلفه ثم شتمه بصوت عال بسباب بذيء[6]..
لكن هذا الوحش – المتظاهر بالحلم الذي لم يكن يريد أن يأخذ الناس انطباعاً عنه بانه قاس، وكان مع ذلك يريد الانتقام من ذلك الإعرابي شر انتقام، التفت إليه بهدوء وقال: لماذا شتمتني؟ فقال: لأنني أردت أن أثبت شجاعتي! فقال له الوحش – الحليم: ليست الشجاعة أن تسبني بل الشجاعة أن تسب فلاناً، وذكر له اسم أحد رجالات العشائر المعروف بقسوته وطيشه! فاغتر الإعرابي بذلك وقال نعم سأذهب إليه.. فلما ذهب إليه وشتمه أمر ذلك الرجل القاسي ظاهراً وباطناً بقتله فوراً! وهكذا انتقم منه ذلك الحاكم الجائر شر انتقام لكن عبر لفتة ذكية تخفي واقعه خلف قناع براق من الحلم.
وهكذا يفعل أسياد الغرب الآن إذ يتشدقون بالديمقراطية وحقوق الإنسان ولكنهم هم الذين يصدِّرون أخطر أنواع الأسلحة الجرثومية والمكروبية والإشعاعية وغيرها لمختلف دول العالم وبأرقام خيالية تتجاوز عشرات المليارات من الدولارات.
7- حكومة الأنا، والجزر المنعزلة
وعلامة أخرى: على مستوى الشعوب، فإن المجتمع المتحضر هو ذلك المجتمع الذي يتعاون أفراده وأحزابه وعشائره ونقاباته واتحاداته وحوزاته وجامعاته، للرقي بالأمة كلها، عكس المجتمع ما قبل المتحضر، وما بعد المتحضر المرتكس والهابط والمتراجع فإنه الذي يعيش افراده وتعيش أحزابه وحوزاته وجامعاته، كجزر منعزلة، فلا تعاون ولا تؤازر ولا مواساة ولا إيثار، بل ولا تآخي، بل تكون (الأنا) الضيّقة هي الحاكمة حكومة مطلقة وتكون المصالح الشخصية هي المحور والمدار وهي التي عليها الاعتبار.
الفارابي: التعاون علامة الأمة المتحضرة
ولذلك قال الفارابي: (أن الأمة الكاملة "المتحضرة"، هي الأمة التي يشترك جميع أبنائها ويتعاونون لنيل السعادة وتحقيق الرفاهية في مختلف الأصعدة المعنوية والمادية، وهذا يتطلب وجود رئيس متكامل في قواه العقلية النظرية والعملية؛ ليتمكن من تسيير الأمة نحو خيرها وسعادتها)
أقول: فهي أمة هدفها:
1- السعادة للجميع لا لهذه الفرد أو العائلة أو الحزب دون ذاك الفرد أو تلك العائلة أو ذلك الحزب.
2- الرفاهية الاقتصادية للجميع أيضاً.
وهل نحن، ونحن ندعي اننا أمة متحضرة كذلك؟ وهل الغرب الذي يدعي انه أمة متحضرة كذلك؟ أم كل حزب بما لديهم فرحون؟ وكلٌّ يجر النار إلى قرصه؟ وكلٌّ يسخّر جماعات ضغطه ولوبياته لصالح جماعته وإن أضرت بسائر فئات المجتمع، وهي تضر بها عادة[7].
3- وهي أمة يقودها رئيس متكامل على صعيد العقل النظري والفهم والحكمة وعلى صعيد المستوى العملي بأن يمتلك جهازاً إدارياً متطوراً متكاملاً.
4- ونضيف: وأن تكون المؤسسة هي الحاكمة لا الرئيس نفسه، بأن يكون عمله شورّياً.
5- ونضيف: بأن يخضع الرئيس لنظام تداول السلطة كقاعدة عامة.
6- ونضيف: بأن يكون الإعلام الناقد حراً.
7- ونضيف: بأن يكون القضاء المستقل نزيهاً تماماً.
8- توحّش الغرب ويده الضاربة إسرائيل
والغريب اننا نمر بأعظم المحن على مستوى العالم الإسلامي كله، وأبرزها الآن تحكّم الطغاة والمستبدين والجبابرة في بلادنا الإسلامية، وهجوم عدو وحش كاسر تجسد في هتلر معاصر يسمى نتنياهو، على بلاد الإسلام: لبنان، فلسطين، سوريا، إضافة إلى اليمن وإيران وغيرهما، حيث وصل إلى اقصى درجات البهيمية والهمجية باستهداف المستشفيات والمرضى والنساء والأطفال في غزة الجريحة وقتل الأبرياء وإفناء قرى كاملة في لبنان وغيرها، ومع ذلك تجد حكومة تدعي انها تمثل قلب الحضارة، تدافع عنها باستماتة وتدين قرار المحكمة الجنائية الدولية بإتهام نتنياهو ووزير دفاعه بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية رغم ان جرائمه ضد الإنسانية مما وثقتها دول العالم كافة!
وماذا يعني ذلك؟ انه يعني ان المجتمع المسمى بالمتحضر عاد وارتكس أسفل سافلين فعاد إلى مرحلة ما قبل التحضر بل تراجع عنها بمراحل.
إن منطق الولايات المتحدة هو منطق الجاهلية (انصر أخاك، أو عميلك، ظالماً أو مظلوماً) فعلى الرغم من معرفتهم بشكل كامل بجرائم إسرائيل ضد الإنسانية، والتي شهدت لها المحافل الدولية أيضاً، إلا انها ظلت تدافع عنها دون هوادة بل كانت ولا تزال تجهض أي قرار تحاول الأمم المتحدة إصداره وإن كان يهدف مجرد الضغط الأدبي على إسرائيل.
9- جاهلية الوهابية المتطرفة
إلى ذلك وعلى صعيد العالم الإسلامي فإن من أظهر النماذج التي تتكشف عن وحشية من يعتبرون أنفسهم متحضرين ومسلمين ورعين، وعودتهم إلى الجاهلية الأولى التي كانت تبتني على (لا تبقوا لهم عامر دار ولا طالب ثار ولا نافخ نار) عناصر الطالبان والقاعدة ومتطرفو الوهابيين الذين تزعموا حركة الإجرام في أنحاء العالم الإسلامي: في أفغانستان والعراق والخليج وغيرها طوال عشرات السنين.
الجريمة النكراء في باراجنار
وأخيراً كانت تلك الجريمة النكراء التي ارتكبوها بحق العشرات من المسالمين الأبرياء في باراجنار والتي تقع في الشمال الغربي لباكستان على الحدود الأفغانية ويقطنها حدود ستمائة ألف معظمهم من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، لكنها محاصرة بالنواصب، لذلك لا يمكن الخروج من منطقتهم والذهاب مثلاً إلى بيشاور التي تبعد عنها 280 كيلومتراً، للتسوق أو غيره.
وقبل أيام (يوم الخميس الماضي) تعهدت الحكومة بتوفير الحماية للمسافرين فانطلقت حوالي مائة سيارة بركابها من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، مع حماية 50 إلى 100 جندي، وفي وسط الطريق، هاجمهم النواصب، والغريب أن الجنود جميعاً فروا دون إطلاق حتى رصاصة واحدة (فهل كانوا متواطئين؟).
وقد هاجم أولئك الوحوش البشرية، الرجالَ والنساء والأطفال وأطلقوا عليهم وابلاً من الرصاص فقتلوا كثيراً منهم، وعندما فرّ بعضهم لاحقوه حتى قتلوه وعندما أمكن لبعض الفارين أن يصلوا إلى البيوت المجاورة ويلتجأوا إليها برضا أصحابها دخل أولئك النواصب تلك البيوت عنوة وقتلوهم.. ثم لم يكفهم ذلك كله حتى فتشوا القتلى فمن وجدوه جريحاً أجهزوا عليه برصاصات أخرى.. والأنكى، الذي يكشف عن مدى سادية هؤلاء النواصب، انهم كانوا يقطعون أصابع النساء والرجال، أحياء وأمواتاً، ليأخذوا ما فيها من خواتم وأسورة وغيرها.. فمع انه كان من الممكن لهم انتزاعها من أيديهم بكل بساطة إلا انهم، ككل وحش مبتلى بالسادية، اختاروا الطريق الأشق والأقسى.. ومع أن قطع اليد أو الأصابع يكلف جهداً إلا انهم لم يجدوا ما يروي ضمأهم إلى الدماء وما يسكِّن قلوبهم القاسية غير ذلك.
وذلك على الرغم من أن الباراجناريين مسالمون ولم يسبق لهم أن ابتدأوا أحداً من أولئك بالهجوم على انه لو هاجم أحد منهم أحداً لأمكن القصاص منه لا الانتقام من جماعة آخرين أبرياء عزّل وخاصة وان فيهم النساء والأطفال وغيرهم...
وعلى الرغم أيضاً من أن الباراجناريين شعب مجاهد عريق قاوم الاستعمار والاحتلال الأجنبي وعلى سبيل المثال فإن الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس والتي كانت أقوى دول العالم قبل مأتي سنة ولم يكن يوجد مجال للمقارنة بين أعداد وأسلحة مجاهدي باراجنار القليلي العدد والذي لم يكونوا يمتلكون إلا أسلحة بداية، مع قوات الجيش البريطاني المنظم المتسلح بأحدث الأسلحة العسكرية حينذاك، رغم ذلك كله فإن القوات البريطانية عندما هاجمت باراجنار لاحتلالها عام 1272 قاومهم الباراجناريون بقوة بل واستمروا يقاومون سنوات طوالاً.. حتى ان حصار البريطانيين استمر واستمرت هجماتهم لأكثر من 36 سنة! حتى استطاعوا عام 1309 اقتحام المنطقة!
إن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في باراجنار أبطال بحق إلا أن الحقد الجاهلي الناصبي، لا يرقى إليه شيء أبداً.
10- العنف والطيش والشعبوية
وعوداً على بدء مرة أخرى فإن من معالم المجتمع غير المتحضر العنف والتطرف والطيش والتهور واللاتوازن، ونجسد تجسيداً لهم الآن في الشعبويين الذين ملأوا أوروبا وأمريكا، وفي الوهابية وغيرهم الذين يكفّرون كل المسلمين ويستبيحون أموالهم ودماءهم لمجرد انهم يتبركون بأضرحة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وآل بيته الأطهار (عليهم السلام) خلافاً لإجماع الأمة على التبرك بها على مر التاريخ.
الفصل الثاني عبرة من عمق التاريخ
المعروف ان بلعم بن باعورا ترقى في حقل العبادة حتى وصل إلى مرتبة نال فيها الاسم الأعظم ثم رجع القهقري حتى هوى إلى قعر دركات الكفر والضلال.
قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوينَ * وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون)[8].
عبد الملك من حمامة المسجد إلى مصاص للدماء!
وهنالك شاهد آخر شديد الدلالة.. علينا الاعتبار به جميعاً إذ من أدرانا فإن كل إنسان يُمتحن و(عند الامتحان يكرم المرء أو يهان) ولعل من يدرس ويتهجد الآن بكل خشوع يتحول إلى ذئب مفترس وأسد حطوم وسلطان غشوم إن سنحت له الفرصة، سواءً أكانت برئاسة جمهورية أم رئاسة وزراء أم بملوكية وإمارة أم حتى بدرجات أدنى.. إذا صار محافظاً أو ضابطاً أو رجل أمن أو حتى جندياً، أو إذا صار مدير مدرسة أو شركة أو مؤسسة أو حزب أو نقابة أو عشيرة.
أ - هكذا كان عبد الملك قبل الرئاسة
(عبد الملك بن مروان) كان متميزاً في عبادته حتى سمي حمامة الحرم بل وفوق ذلك (كان فقيهاً راوياً ناسكاً، يدعى حمامة المسجد، شاعراً.
(وقال نافع: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرًا[9] ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان.
وقال أبو الزناد: فقهاء المدينة: سعيد بن المسيب، وعبد الملك بن مروان، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب.
وقال ابن عمر: ولد الناسُ أبناء وولد مروان أبًا.
وقال عبادة بن نسي: قيل لابن عمر: إنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن تنقرضوا، فمن نسأل بعدكم؟ فقال: إن لمروان ابنًا فيها فاسألوه.
وقال عبيدة بن رياح الغساني: قالت أم الدرداء لعبد الملك: ما زلت أتخيل هذا الأمر فيك منذ رأيتك، قال: وكيف ذاك؟ قالت: ما رأيت أحسن منك محدثًا ولا أعلم منك مستمعًا.
وقال الشعبي: ما جالست أحدًا إلا وجدت لي عليه الفضل، إلا عبد الملك بن مروان، فإنني ما ذكرته حديثًا إلا وزادني فيه، ولا شعرًا إلا وزادني فيه)[10].
(وقال محمد بن حرب الزيادي: قيل لعبد الملك بن مروان: من أفضل الناس؟ قال: من تواضع عن رِفعة، وزهد في قدرة، وأنصف عن قوة.
وقال ابن عائشة: كان عبد الملك إذا دخل عليه رجل من أفق من الآفاق قال: أعفني من أربع وقل بعدها ما شئت: لا تكذبني فإن الكذوب لا رأي له، ولا تجبني فيما لا أسألك فإن فيما أسألك عنه شغلًا، ولا تطرني فإني أعلم بنفسي منك، ولا تحملني على الرعية فإني إلى الرفق بهم أحوج)[11].
ب – وهكذا صار بعد الرئاسة
فهكذا كان عبد الملك قبل أن تصل إليه الرئاسة.. لكنه تغير تماماً بعدها حتى صار كما قال ابن الجوزي: وقد روى ثعلب، عن ابن الزعفراني، قال: لما سلم على عبد الملك بالخلافة كان في حجره مصحف، فأطبقه، وقال: هذا فراق بيني وبينك.
أخبرنا القزَّاز بإسنادٍ له عن الوليد بن مسلم، عن عبد الخالق بن زيد بن واقد، عن أبيه، قال: حدثني عبد الملك بن مروان، قال: كنت أجالس بريرة فقالت: إن فيك خصالاً، خليق أن تلي الأمر فإن وُلّيته فاتق الدماء؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَعُ عَنْ بَابِ الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا بِمِلْءِ مِحْجَمةٍ مِنْ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يُرِيقُهُ")[12]، فمع علمه بذلك وروايته له بنفسه أنظر ما آل إليه أمره:
وقال يحيى الغساني: (كان عبد الملك بن مروان كثيراً ما يجلس إلى أمِّ الدَّرداءِ في مؤخَّر المسجد بدمشق وهو خليفة فجلس إليها مرَّةً من المِرَار فقالت له: يا أمير المؤمنين بلغني أنَّك شربت الطِّلا بَعْدَ العبادة والنُّسُكِ، قال: إي والله؛ يا أمَّ الدَّرداء والدماء قد شربتها)[13] والطِلا يعني الخمرة.
(وجهز يزيد جيشًا إلى أهل مكة، فقال عبد الملك: أعوذ بالله أيبعث إلى حرم الله؟ فضرب يوسف منكبه وقال: جيشك إليهم أعظم.
وقال يحيى الغساني: لما نزل مسلم بن عقبة دخلت مسجد النبي (عليه الصلاة والسلام) فجلست إلى جنب عبد الملك، فقال لي عبد الملك: أمن هذا الجيش أنت؟ قلت: نعم. قال: ثكلتك أمك!! أتدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود ولد في الإسلام، وإلى ابن حواري النبي (صلى الله عليه وسلم) وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنّكه النبي (صلى الله عليه وسلم) أما والله إن جئته نهارًا وجدته صائمًا، ولئن جئته ليلًا لتجدنه قائمًا، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله جميعًا في النار!!
فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك وجّهنا مع الحجاج حتى قتلناه)[14].
(وقال العسكري: 1- وأول خليفة بخل عبد الملك، وكان يسمى: رشح الحجارة، لبخله، ويكنى: أبا الذبان، لبخره، قال: 2- وهو أول من غدر في الإسلام، 3- وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، 4- وأول من نهي عن الأمر بالمعروف)[15] فقد جمع بعد رئاسته مجموعة من اردأ خصال الشرّ واسوئها.
(عن ابن جريج عن أبيه قال: خطبنا عبد الملك بن مروان بالمدينة بعد قتل ابن الزبير عام حج سنة خمس وسبعين، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد فلست بالخليفة المستضعف -يعني: عثمان - ولا الخليفة المداهن - يعني: معاوية- ولا الخليفة المأفون[16] -يعني: يزيد- ألا وإن من كان قبلي من الخلفاء كانوا يأكلون ويُطعِمون من هذه الأموال، إلا وإني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم، تكلفوننا أعمال المهاجرين ولا تعملون مثل أعمالهم؟ فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم، هذا عمرو بن سعيد قرابته قرابته وموضعه موضعه قال برأسه هكذا فقلنا بأسيافنا هكذا، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه، ثم نزل)[17].
ج- وهل تشفع له إنجازاته؟
ومن الواضح ان إنجازاته التي تبجّح بها بعض السفهاء أو الجهلاء من الناس لا تشفع له، كيف وهو قد صرح بـ (فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله... لأكبهم الله جميعاً في النار)[18]؟ وكما صرح بانه يشرب الخمر والدماء؟ كما وقال عن القرآن (هذا فراق بيني وبينك).
ومن إنجازاته التي تغنّوا بها: (وقال يحيى بن بكير: سمعت مالكًا يقول: أول من ضرب الدنانير عبد الملك، وكتب عليها القرآن. وقال مصعب: كتب عبد الملك على الدنانير: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) وفي الوجه الآخر: لا إله إلا الله، وطوّقه بطوق من فضة، وكتب فيه: ضرب بمدينة كذا، وكتب خارج الطوق: محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق.
وفي الأوائل للعسكري بسنده: كان عبد الملك أول من كتب في صدور الطوامير[19]: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) وذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) مع التاريخ)[20].
(وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني غير واحد أن أول من كسا الكعبة بالديباج: عبد الملك بن مروان، وإن من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا: أصاب، ما نعلم لها من كسوة أوفق منه)[21].
وقال بعضهم: (- استطاع القضاء على دولة ابن الزبير.
- قام باسترداد العراق.
- إرساء دعائم الوحدة والاستقرار في الدولة الإسلامية.
- إصدار عملة إسلامية لأول مرة وتوحيد أوزانها لضمان العدالة.
- حرّر اقتصاد الدولة الإسلامية من اعتماده على العملات الأجنبية، وبصفة خاصة الدينار البيزنطي.
- قام بتعريب دواوين الخراج.
- ازدهر الحكم الأموي في عهده.
- اعتمد اللغة العربية بدلاً من اللغات المحلية كلغة إدارية.
- حافظ على المكانة المميزة للعرب.
- قام ببناء قبة الصخرة في القدس الشريفة.
- استطاع تهدئة القبائل العربية الشمالية في سوريا بنجاح باهر)[22].
د- وهكذا كانت عاقبته
ولننظر بعد ذلك كله إلى عاقبته، وقال المدائني: (قال المدائني: لما أيقن عبد الملك بالموت قال: والله لوددت أني كنت منذ ولدت إلى يومي هذا حمالًا!!
ثم أوصى بنيه بتقوى الله، ونهاهم عن الفرقة والاختلاف... وقال: يا وليد اتق الله فيما أخلفك فيه، إلى أن قال: وانظر الحجاج فأكرمه فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناوأك، فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناس إذا مت إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا).
والعجب انه يقول له يا وليد اتق الله ثم يأمره بإكرام الحجاج! وبقتل كل معارضٍ بالسيف!!.
(وقال غيره: لما احتضر عبد الملك دخل عليه ابنه الوليد، فتمثل بهذا:
كما عائد رجلًا وليس يعوده ... إلا ليعلم هل يراه يموت
فبكى الوليد، قال: ما هذا؟ أتحن حنين الأمة؟ إذا أنا مت، فشمر، وائترز، والْبَسْ جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه!!.
قلت: لو لم يكن من مساوي عبد الملك إلا الحجاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة -رضي الله عنهم- يهينهم ويذلهم قتلًا وضربًا وشتمًا وحبسًا، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يحصى، فضلًا عن غيرهم، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختمًا، يريد بذلك ذلهم، فلا رحمه الله ولا عفا عنه)[23].
(توفّي عبد الملك بن مروان، عام 86 للهجرة ويذكر أنّه قد أوصى بتقوى الله قبل وفاته ونهاهم عن الفرقة الاختلاف ومن أقواله وهو على فراش الموت: "وددت لو أنّي عبد لرجل من تهامة، أرعى غنماً في جبالها، وأنّي لم أكُ شيئاً"[24].
وقال قبل موته بلحظات: "ارفعوني، فرفعوه حتَّى شمَّ الهواء، وقال: يا دنيا، ما أطيبك! إنَّ طويلك لقصيرٌ، وإنَّ كثيرك لحقير وإن كنَّا بك لفي غرور"[25]
والعبرة من ذلك كله: ان الدنيا كما قال أمير المؤمنين (فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا وَلَا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا وَلَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا)[26].
وكما يقول الشاعر:
لا يغرّنك من المرء قميص رقعه --- أو إزار فوق كعب الساق منه رفعه
أو جبين لاح فيه أثر قد قلعه --- ولدى الدرهم فانظر غيه أو ورعه
وعلينا أن نحذر أن يكون إيماننا لا سمح الله مستعاراً وأن نلتجأ إلى الله تعالى ورسوله (صلى اله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ونتضرع ليل نهار كي نخرج من امتحان الرئاسة أو العلم أو المال أو الجاه أو المنصب أو الشهرة مرفوعي الرأس وأن يختم الله تعالى عواقب أمورنا بكل خير.. انه سميع الدعاء فعال لما يشاء جواد كريم رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق